"الأمر مشابه لسحب جوهر الخنزير، لا تقلق، إنه مكبل بإحكام ولن يتحرك."
كالعادة، لم يفشل صوت أخيه من ورائه في طمأنته.
أمامه، على أرضية مرصوفة بحجارة متآكلة - برز من بين طياتها أعشاب ضارة تراقصت بفعل الرياح - استلقى رجل على ظهره، تم تغطية رأسه بكيس من القماش الخشن، حاجبًا عنه ضوء الشمس التي ارتكزت وسط سماء ذات زرقة خلابة صافية.
التقط الفتى ذو الخامس عشر ربيعًا نفسًا عميقًا يليه زفير طويل في محاولة لتهدئة نبضات قلبه المتسارعة. جثا على ركبتيه ثم مد يده لتلامس أصابعه سرة المستلقي، الذي أخذ في التحرك بجنون في محاولة يائسة منه للتحرر، إلا أن السلاسل الحديدية التفت عليه كما تلتف الأفعى حول فريستها، معتصرة إياه دون القدرة على التحرك شبرًا واحدًا.
أغمض الفتى عينيه وصب جل تركيزه على النقطة بين أصابعه وبطن الرجل.
"إنه رجل سيئ"، فكر بداخله.
بعد وقت ليس بالطويل، أحس بخدر طفيف في إصبعه، متبوعًا بدفء غريب انتشر عبر كامل ذراعه، تلاه لسعة حارقة جعلته يجعد حاجبيه، إلا أنها لم تكن حارة كفاية لجعله يبعد يده.
"إنه يتدفق"، طمأن نفسه، وجُل تركيزه منصب على أصابع يده، حيث أخذت خيوط من دخان أبيض باهت تتصاعد فوق سرة الرجل، شاقة طريقها داخل يد الفتى الذي استقبلها بصدر رحب.
مع مرور الثواني، ازدادت كثافة خيوط الدخان، ومعها تعالت صرخات الرجل غير الإنسانية، إلا أنه، وبسبب كون فمه مسدودًا، فقد صدرت كهمهمات صاخبة لا غير. أخذ يتخبط كسمكة خارج سطح الماء قبل أن يهدأ تدريجيًا إلى أن توقف تمامًا عن الحركة.
"هل نجحت؟" بالرغم من شكوكه، إلا أنه لم يستطع منع تلك الابتسامة من التسلل إلى ملامحه الطفولية، مظهرةً أسنانه ناصعة البياض.
"لقد أبليت حسنًا."
خلفه، ربت أخاه على كتفه ممتدحًا ومنبهًا إياه بانتهاء العملية.
عند فتحه لعينيه مرة أخرى، وبالرغم من معرفته بالمشهد الذي ينتظره، إلا أنه لا يزال يندهش منه عند تطبيقه على إنسان.
"نحيل..." غمغم بصوت منخفض وهو يحملق بالجثة الذابلة أمامه. الثوب الذي كان بالكاد يسع الرجل ضخم البنية مفتول العضلات، أصبح الآن يغطيه بالكامل. كان من الممكن رؤية تفاصيل مفاصل أصابعه عبر الجلد لشدة التصاقه به، ما جعله يبدو وكأنه مجرد هيكل عظمي مغطى بالجلد، الذي كان قد فقد بريقه وبدا وكأنه قد تقدم في العمر مائة سنة كاملة.
"مبارك لك إكمال أول عملية تطهير خاصة بك."
تحدث أخاه أثناء انحنائه، حاملًا الجثة بين ذراعيه ليضعها بعد ذلك في عربة ذات عجلتين، والتي امتلأت بالجثث النحيلة أمثال الأخيرة، وكانت مركونة بالقرب من شجرة صفصاف كبيرة ألقت بظلالها عليهم.
"شعور امتلاء مخزون الجوهر جيد للغاية..." بالرغم من قوله هذا، إلا أن نبرته احتوت حزنًا خفيًا، الشيء الذي استشعره أخاه على الفور.
"ريزان، لقد طهرته من شروره."
بعد شيء من التفكير، أضاف:
"لقد قام بالمتاجرة بالأطفال لصالح المشعوذين والتعاون معهم في طقوسهم الشريرة، يجب أن تكون فخورًا بنفسك."
كانت كلمات أخيه مثل نسيم الهواء المنعش على وقع أذنيه، مزيلةً عن عاتقه شعوره بالذنب الذي اكتنفه لوهلة.
"نعم، أعلم، لقد أخبرتني من قبل." أومأ وهو ينهض معتدلًا في وقفته، محاولًا صرف الفكرة من رأسه.
"هل ستأخذهم للمقبرة؟" سأل.
"نعم، حتى أمثاله ينفعوننا بعظامهم." تنهد أخاه وهو يلف أصابعه على مقبض العربة الخشبي دافعًا إياها للأمام.
"أريد دفنهم أيضًا." قال ريزان، مثبتًا نظراته على أخيه الأكبر.
"بشرط أن تدفع العربة..."
-
-
-
الفصل الأول: إستيقاظ الهيكل
"أين... أنا؟"
كان هذا أول سؤال انبثق في ذهنه لحظة استيقاظه. حاول فتح عينيه لكنه لم يرَ سوى ظلام دامس يحيط به. لم يكن متأكدًا مما يجري، لكن إحساسًا غريبًا بالضيق غمره، ممزوجًا برغبة ملحّة في التحرك، إلا أن جسده رفض الاستجابة على الفور.
بعد لحظات من المقاومة والاستمرار في محاولة هز أطرافه، استطاع أخيرًا رفع ذراعه بصعوبة، ليشعر بشيء ينهار من بين أصابعه.
"تربة؟"
"هل أنا... مدفون؟"
"أنا... من أنا؟"
تشكلت أسئلة متتالية في ذهنه، لكنه عجز عن التفكير في إجابة على الفور، ولم يسعه سوى دفعها بعيدًا، على الأقل في الوقت الحاضر.
بالاستناد إلى كفه المثبت فوق سطح التربة، دفع نفسه لأعلى، وببطء اخترق رأسه أخيرًا السطح، الذي ولحسن الحظ لم يكن صلبًا أو عميقًا كفاية لمنعه، وخرج إلى عالم مظلم لكنه أقل حلكة من المكان في الأسفل.
على الفور، شعر بنسيم بارد يلامس جمجمته العارية. مباشرة فوقه، تلألأ نور القمر وسط بساط عظيم من السواد، انتشرت عليه نقاط صغيرة براقة ممتدة على طول البصر.
ألقى نظرة من حوله، لتتجلى أمامه صورة المكان ببطء.
"قبور"، فكر.
أرضية ذات تربة سوداء، انتشرت عليها العديد من الحفر المغطاة بأكوام من التربة دون شواهد تدل على أصحابها، بينما أحاط بها سور من خشب لحائه داكن بارتفاع عالٍ متراص بجانب بعضه ليفصل المقبرة عن المجهول خلفها.
"همم؟"
إحساس وخز مفاجئ خلفه قطع أفكاره، جعله يستدير بسرعة، أو بالأحرى، كانت جمجمته فقط هي التي استدارت، في حين ظل هيكله ثابتًا على حوضه في الاتجاه المعاكس.
رأى أمامه كومة عظام حية تمد ذراعها نحوه، وتحدق فيه بجمود. لوهلة، تبادل الاثنان النظرات، وإذا به يلمح خيوط دخان أسود مفحم تتدفق من بين عظام أضلاعه الهشة، مرتفعة باتجاه ذراع الهيكل، التي قامت بامتصاصها واحتوائها.
لم يتفاعل مع الأمر، بل رمق الكائن أمامه بنظرة فضولية، من رأسه لأخمص قدميه، لكنه و بمرور الثواني بدأ يشعر بالضعف يتغلغل في عظامه، وكأن قواه تتسرب منه شيئًا فشيئًا. للحظة، شيء ما استيقظ بداخله—غريزة بدائية للنجاة ترجّته أن يبتعد بسرعة. الشيء الذي فعله دون أدنى تفكير، حيث وقف بصعوبة واتخذ العديد من الخطوات غير المستقرة للخلف مبتعدًا، حتى اصطدم ظهره بالسور الخشبي. ومع زيادة المسافة بينهما، أخذ الشعور بالوهن يقل تدريجيًا، إلى أن اختفى.
ارتجفت قدماه، والتفت حوله ليشاهد المزيد من الهياكل العظمية تفعل الشيء نفسه ببعضها البعض—تمد أياديها وتسحب خيوطًا سوداء. بعضهم سقط، بينما البعض الآخر نجح وسار باتجاه الهيكل التالي الأقرب إليه. كان مشهدًا فوضويًا، ساد فيه القوي وهلك الضعيف.
نظر إلى ذراعه، إلى عظامه، ولاحظ بروز العديد من التشققات بها، مستشعرًا هشاشتها من بهوت لونها—رمادي قذر. عقله لا يزال مشوشًا، تظهر في ذهنه أسماء مختلفة للأشياء من حوله بمجرد النظر إليها، وكأنه يعرفها مسبقًا، لكنها محيت مؤقتًا من ذاكرته والآن تعود. بعد تفكير قصير، اقتلع عظمة الساعد، التي بالكاد صمدت في مكانها، محدثة طقطقة خفيفة.
عندما رفع بصره باتجاه الهيكل الذي حاول امتصاص دخانه سابقًا، والذي كان قد اقترب منه مرة أخرى بالفعل، لاحظ فارق الطول بينهما، الذي كان يصب في صالحه. رفع العظمة بيده اليسرى عاليًا فوق رأسه، منتظرًا بصبر اللحظة والمسافة المناسبة، ثم...
بام!
مستخدمًا كل قوته المتاحة، حطّت ضربة عنيفة صدر عنها صوت شق حاد على جمجمة الهيكل عديم الدفاع، لكنها اكتفت بالميلان قليلًا فقط. خفض بصره إلى العظمة في يده ليجد الشقوق تملؤها، وقد تساقطت منها الشظايا بالفعل.
" عضامي هشة..." فكر بداخله.
في حين تقدم الهيكل المقابل خطوتين ومد يده مرة أخرى، على استعداد لسحب ذلك الدخان الأسود، أيا كان.
في مواجهة ردّة فعله البطيئة، كان التهرب منه سهلًا على نحو مفاجئ. أخذ يبتعد حتى وصل زاوية السور. لن يدعه يمتص دخانه مجددًا، إنه يستنزف حياته...
"اللعنة..." لعن داخليًا.
ها هو الهيكل يتقدم صوبه مرة أخرى. حركاته تبدو بلهاء قليلًا وغير متسقة—خطوة طويلة تليها أخرى قصيرة... غريب. لكنه لم يفكر كثيرًا بهذه التفاصيل، وحمل عظمة ملقاة بجانبه. لقد أدرك بالفعل أن نزع عظمة ساعده كان شيئًا غبيًا لفعله، ولن يعيد الكرة.
بام!
ها هي ضربة أخرى بكامل قوته تحط على جمجمة الأحمق، الذي لم يتعلم من خطئه السابق. هذه المرة، كانت جمجمته قد استدارت بزاوية أكثر حدة. استغل الوقت الذي رفع فيه الهيكل يديه لتعديل جمجمته وهاجمه مرة أخرى من نقطة عمياء.
كرر الأمر بضع مرات، حتى لم تعد جمجمته قادرة على الاحتمال أكثر، وطارت عدة أمتار إلى الجانب، حيث اصطدمت بالسور وتدحرجت على الأرض.
للحظة، توقف الهيكل الأحمق دون حراك، قبل أن يستدير مترنحًا باتجاهها، محاولًا استعادتها.
لم ينتظر، بل مدّ يده اليمنى ناحية ظهره متبعًا إياه. وتمامًا كما فعل الآخرون... سحب الدخان الأسود. كان الأمر بمثابة غريزة فطرية وُلِد بها، مهارة محفورة عميقًا بداخله. كل ما عليه فعله هو استقبال ذلك الدخان والتهامه. في البداية، أحس بتنميل طفيف يتخلل عظام يده، لكنه سرعان ما تحول إلى دفء مريح اكتسى ذراعه بالكامل، مزيلًا عنها برودتها القارصة، متسللًا إلى باقي أجزاء هيكله.
"أريد المزيد..."
مع كل لحظة تمر، شعر بأن وهنه السابق بدأ بالاختفاء تدريجيًا، وحلّ مكانه إحساس طفيف بالنشاط. حيوية غريبة، لكنها منعشة على نحو مذهل.
على عكسه، كان الهيكل الآخر قد بدأ يتمايل بشكل يائس. أصبح الحفاظ على توازنه بحد ذاته تحديًا كبيرًا. لم يدم الأمر طويلًا، قبل أن تنهار عظام أقدامه، ومعها توقفت خيوط الدخان الأسود عن الخروج منه. لقد مات.
دون إلقاء نظرة إضافية عليه، رفع يده أمام وجهه، متأملًا أصابعه، أو بالأحرى مفاصله. حرّكها وتلاعب بها، ثم كوّرها في قبضة.
"أنا... هيكل عظمي." ظهرت الإجابة في ذهنه.
خفض يده، ثم التفت إلى بقية الهياكل، التي لم يتبقَّ منها سوى عدد قليل. تقدم ناحية أقرب واحد استطاعت جحوره الغائرة لمحه. اعترته موجة من الجوع ورغبة ملحة في التهام وامتصاص ذلك الدخان الأسود. أراد تجربة ذلك الشعور مرة أخرى.
ودون أدنى اعتبار لكونهم من نفس الجنس، التمعت عيناه بنور قاتم وهو يتقدم...
بام!
تعالت أصوات تهشّم العظام باستمرار، ولدهشته، لم تكن الهياكل تمتلك أي دفاع على الإطلاق، بل كلها تشاركت نفس رد الفعل؛ راحت تتمايل صوب جماجمها الساقطة محاولة استعادتها، الشيء الذي سهّل عليه مهمته. كانت عظامهم تتساقط واحدة تلو الأخرى، بينما تحطّمت جماجمهم وتطايرت شظاياها عاليًا في السماء.
بشراهة وحش جائع، التهم وامتصّ دخانهم الأسود—أو دخان حياتهم، حسب تفكيره—والذي ملأه بنشوة وإحساس متزايد بالقوة.
مع زيادة استهلاكه له، بدأ اللون الرمادي يتلاشى تدريجيًا عن عظامه، لتلمع ببياض نقي، خالٍ من أي خدوش أو شقوق. عندما ضرب أول هيكل مستعملًا كل قوته، كل ما فعلته ضربته حينها هو لف جمجمته قليلًا، والتي كانت هشة بالفعل، لكن الآن، كانت الجماجم تُسحق تمامًا... وهو الشيء الذي راق له كثيرًا.
-
-
-
ترك تعليق يحفزني لأستمر.
ما رأيكم بالفصل الأول ؟