"خلودك يبدأ بموتك."
أثناء سيره، استمرت تلك الذكرى، وتحديدًا العبارة، في شغل تفكيره.
"هل ذلك الجاثي هو أنا؟ لكنه بشري بينما أنا هيكل عظمي.."
لم يفهم لماذا قد تظهر ذاكرة شخص غريب في ذهنه.
حسب فهمه، فإن هذا الشخص قدم قربانًا إلى ذي القلنسوة، أو للعفريت لكي يكون دقيقًا.
عفريت...
كانت الكلمة جديدة كليًا عليه، ولم تتمكن ذاكرته من استحضار ماهيتها مثل الكلمات الأخرى.
"من الواضح أنني ماديًا عبارة عن هيكل عظمي، لكن.."
"هنالك شيء ما مختلف بخصوصي."
عند تدميره للهياكل بالمقبرة سابقًا، كانوا جميعًا يشتركون في نفس الحركات الغبية والتصرفات الخرقاء، كائنات عديمة القوة والذكاء، على عكسه هو.
"مميز.." كانت الكلمة الوحيدة لوصفه والتي خطرت على باله. كونه من نفس جنس هذا العرق الأبله جعله غير مرتاح للغاية.
"خلودك يبدأ بموتك.."
لاحَت العبارة في ذهنه مرة أخرى. بغض النظر عن مدى تفكيره في المعنى وراءها، لم يستطع التوصل لأي شيء. عميقًا بداخله، أحس أن الأمر مهم وأنه يخصه بشكل ما، لكنه لم يستطع فهم ماهيته بالتحديد.
بزغ النهار صافيًا باردًا، وفيه شيء من الجفاف يشي بنهاية الخريف.
مرت بضع ساعات منذ بدأ سيره، مع كل خطوة خطاها، تناقصت كثافة الغابة، وتراجعت الأشجار أكثر تاركة مساحات مفتوحة أوسع. بدا وكأنه يقترب من نهايتها.
شفرات العشب بين قدميه تقلصت تدريجيًا إلى أن لم يعد يشعر بها، فقط أرض صلبة أسفل أقدامه.
أخفض بصره ليجد أن لون العشب قد فقد اخضراره واكتسى بلون أصفر باهت، ربما من شدة الدوس عليه كثيرًا.
وجد نفسه واقفًا على مدخل طريق يتسع لبعض عربات جنب بعضها يمتد للأمام على طول البصر.
أحاط به من جانبيه سهول منبسطة شاسعة بدت وكأنها بلا نهاية.
بعد تفكير قليل، قرر أن يكمل سيره للأمام. كان الأمر خطيرًا بطبيعة الحال، فقد علم أن هناك احتمالًا كبيرًا أن يقوده الطريق إلى مجتمع بشري، والذين ولسبب ما يكنّون العداء له ولبني جنسه.
"أسلحة القرية.." تذكر كلام البشري عند قتاله سابقا ، من حديثه المحدود حول الأمر، استنتج أن العلاقة بين الاثنين كانت بعيدة كل البعد عن كونها جيدة.
لكنه لا يريد البقاء في هذه الأدغال، علم أنه لن يعيش دون ذلك الدخان الأسود، والذي على الأرجح لن يجده بكثرة في الغابة خلفه، ليس حسب تجربته، فكمية الجوهر التي كانت بالحيوانات والتي اعطته الطاقة الكافية لمواصلة سيره شحيحة جدا، ثلاث حيوانات من فصائل مختلفة إصطادها إمتلكو تقريبا نفس الكمية ، والتي قدرها بنحو ثلث تلك التي بالهياكل.
كان الهدوء يعم المكان، لفترة لم يسمع أي شيء غير صوت أقدامه وهي تحتك بالتربة والحصى، ومن حين لآخر تردد صفير الرياح.
مع تقدمه أكثر، تزايد عدد الأغراض التي كانت مرمية بالطريق: أوانٍ قصديرية، أربطة من شعر الخيل، أقمشة ممزقة إلخ..
بالأفق لمح خيوط دخان تتصاعد وسط ما يبدو أنه مخيم بالسهل.
كانت السماء لا تزال ذات زرقة داكنة ولم تشرق الشمس بعد، لذا فكر مع نفسه أنهم على الأرجح لم يستيقظوا، مما سهل مهمة التسلل أكثر.
كان خلو السهل من أي أشجار أو حواجز طبيعية لا يعمل في صالحه، حيث كان من السهل اكتشافه، لكنه حرص على التنقل عبر الأماكن ذات الأعشاب الطويلة محنيًا رأسه، أحيانًا كان يزحف إذا كانت الأعشاب منخفضة للغاية.
اتضحت ملامح الخيام المثلثة المنصوبة بشكل دائري أكثر، بالقرب منها نامت الأحصنة أو ربما الحمير، لم يستطع الجزم بسبب تشابهها، لكن تواجد اثنين فقط منها، مقارنة بعدد الخيام التي قدرها بعشرة خيام على الأرجح، كان عدد الأحصنة منخفضًا للغاية،
مما يعني على الأغلب أنهم ليسوا بتلك الثروة، وهو ما يدل بدوره على أنهم ليسوا بتلك القوة، كانت مجرد تخمينات في النهاية، ولم يعلم مدى صحتها.
"لم يستيقظوا بعد."
بعد تأكده، تسلل بجرأة للأمام بما يكفي لسماع شخير أحدهم.
مباشرة عندما كان يفكر في خطوته التالية، رصدت حواسه صوتًا.
انخفض بسرعة ووجّه بصره ناحية المصدر. كان أشبه برذاذ سقوط المطر على الأرض أو شيء مماثل.
خلف خيمة، تفصل بينه وبينها خمس خيام أخرى، لمح بشريًا واقفًا قابله بظهره...
"يتبول؟"
إنسلّ صوبه بخفة دون إحداث أدنى ضجة.
عندما اقترب منه بما فيه الكفاية ليرى هيأته، وجد أنه أقصر منه طولًا وأضعف جسديًا، على الأرجح بشري غير بالغ.
جنب أقدامه على الأرض رأى سيفًا صغيرًا.
بعد أن هز قضيبه مفرغًا آخر قطرات البول، أعاد لفّ الثوب من حوله وربطه بحزام.
تثاءب وهو ينخفض لحمل السيف أسفله...
"أممم!"
فجأة، أحاطت بفمه يد باردة عظمية، مانعة صوته من الخروج، والثانية التفت على قضيبه لجزء من الثانية قبل أن تهبط لخصيتيه وتعتصرهما.
"أممم! أممم!"
حدث الأمر بأكمله بسرعة، ولم تتح له الفرصة للتفاعل في الوقت المناسب.
خرجت صرخاته في شكل همهمات مكتومة غير واضحة. حاول انتزاع اليد التي تغلق فمه، لكن الضغط في الأسفل ازداد أكثر.
"تحرك أكثر وستفقدهم. أريد بعض المعلومات منك وسأدعك ترحل."
صوت أجش ومبحوح غمغم بالقرب من أذنيه. مستسلمًا، أومأ برأسه عدة مرات.
"جيد، سنبتعد قليلًا، ونحظى بدردشة لطيفة، ثم سأدعك تعود لرفاقك، وكأن شيئًا لم يحدث."
طمأنه الصوت مع إرخاء الضغط على خصيتيه.
استمر سيرهم لما يقرب الربع ساعة تجاه الغابة بالخلف قبل أن ينزع الهيكل يده عن فمه.
"بحق الجحيم، ما الذي تظن نفسك فاعلًا؟ أتعلم م... آآآه، ت-توقف اللعنة! ت-توقف!"
عاد الضغط على خصيته مرة أخرى، وبشكل أعنف من ذي قبل. أحس بألم حاد جعل ركبتيه ترتعشان، حاول إبعاد اليد التي تضغط عليهما بيديه، لكن قوته خارت كليًا، وكان ليسقط لولا تثبيته من قبل الشخص وراءه.
"هكذا سيسير الأمر، أجب على أسئلتي أو سأخصيك، لن اعيد كلامي مرة اخرى"
احتوت نبرته برودة شديدة جعلت بدنه يقشعر، تحركت تفاحة حلقه بابتلاع ريقه وهو يومئ بصعوبة.
"من أنتم وإلى أين تتجهون؟"
بمجرد أن نزع الهيكل يده مرة أخرى من فمه، أخذ نفسًا عميقًا ثم قال:
"نحن مرتزقة العقارب السوداء، لقد تم تأجيرنا من قبل إحدى القرى التابعة لعشيرة شينغ الكبرى"
"تأجيركم لأجل ماذا؟"
" سنحرس الحدود من على ابراج المراقبة ، إنها مهمة مملة تقوم بها مجموعات المرتزقة الفقيرة أمثالنا لمدة اسبوع قبل ان تاتي مجموعة اخرى لتحل محلنا، لاشيء مميز يارجل الان ارجوك دع--"
أغلق الهيكل فمه مجددا، فكر لثانية وتحدث
"حدثني عن ذلك الدخان الأسود."
"دخان أسود؟"
"ذاك الذي يخرج من الكائنات ويموتون بعد ذلك..." أوضح
"آآه، أنت تقصد الجوهر!" للحظة نسي البشري نفسه وقهقه، "هل أنت رضيع حديث الولادة أم ماذا؟ حتى طفل صغير يعلم عن هذا الـ- آآي آآه اللعنة! توقف، توقف! حسنًا!"
قطع عبارته وهو يلتقط أنفاسه نادمًا على حديثه الزائد.
"كـ-كل كائن حي يمتلك الجوهر ، لكن الكمية تختلف من شخص لآخر حسب قوته، بما أنك قلت دخانًا أسود، فهو على الأرجح جوهر ملوث ويأتي من الوحوش فقط، أما الخاص بالبشر فهو أبيض..."
"هل تستطيع امتصاصه؟"
"من أنا؟ وهل أبدو لك كملتهم؟ لقد أجريت الاختبار وفشلت منذ عدة سنوات، والآن لست سوى مرتزق يكافح لإيجاد ل-"
"ما الذي تقصده بملتهم؟" قاطعه.
"اللعنة، يا رجل، أنت حقًا لا تعرف أي شيء..." توقف بسرعة قبل أن يكمل، "حسنًا، إنهم أشخاص يستطيعون امتصاص الجوهر من كائنات أخرى. إنهم أقوياء للغاية، ولا تريد العبث مع أحدهم. صادف أن قائدنا ملتهم برتبة شعلة، بالرغم من كونها أدنى رتبة، إلا أنهم لا يزالون يتخطون حدود البشر بمراحل..."
إحتوت نبرته شيئًا من الفخر والتهديد الخفي.
"شعلة، تقول هاه..."
خطر على بال الهيكل البشري الذي حاربه من قبل. هل كان هو أيضًا شعلة؟
عند ملاحظة صمته الذي طال أكثر هذه المرة، تحدث البشري:
"لقد أخبرتك بكل شيء أعرفه، أرجوك، لن أذكر هذا لأي أحد..."
"أين نحن الآن؟"
" يطلقون عليها إسم الغابة الهامسة ، والسهول أمامنا تدعى بالفلد "
"وأفترض أن تلك الجبال بالأفق هي الحدود بين عشيرة شينغ الكبرى و؟"
"عشيرة لانغ الكبرى " أكمل البشري جملته.
لن ينكر، كان البشري مفيدًا له، الكثير من المعلومات التي كانت عبارة عن أطراف مجزّأة في ذاكرته حول العالم، أخذت بالتكتل الآن.
"حدثني عن الهياكل العظمية..."
"هياكل عظمية؟" استغرب البشري وقال بسخرية طفيفة:
"العديد من القرى تربيهم في سبيل استخدام عظامهم كأسلحة، حتى أن لدينا العديد من الإخوة يقاتلون بها "
"يبدو بأنهم يقعون أسفل التسلسل الهرمي، هاه..."
"لا، لم يدخلوا الهرم أساسًا." تلاها مباشرة ضحكة خفيفة، وكأنه يتذكر أوقاتًا جميلة، ناسيًا الألم الذي أصابه قبل قليل.
" بما انكم ذاهبين لأبراج المراقبة هاته، فهذا يعني انه لايزال هنالك اشخاص اخرين يتموقعون حاليا بها منتضرين قدومكم لإنهاء نوبتهم صحيح؟ "
"نعم، صحيح."
أومأ الهيكل برضى، وفي حركة مفاجئة، قام بالضغط على الكرتين بين يده مستخدمًا كل قوته. كادت عينا البشري أن تخرج من شدة بروزها، أطلق نحيبًا مفعمًا بالألم، إلا أن فمه كان مغلقًا بيد الهيكل.
ارتعدت ركبتاه كالهلام وانهار على الأرض، استمر الضغط في التزايد حتى تفجرت كراته، ليُلطِّخ سائل دافئ ثوبه، ما جعله يتخبط بشكل مجنون ويائس. رفع الهيكل يده ومسحها على العشب حوله، ثم لفّ أصابعه العظمية حول رقبة البشري، خانقًا إياه.
حاول الأخير تسديد بضعة ضربات لهيكله، لكنها كانت واهنة ودون تأثير يُذكر.
رفع الهيكل يده عن فمه ووجّه بضع ضربات لوجه العاجز أسفله، محولًا إياه إلى فوضى دموية ، لكنه كبح نفسه وحرص على عدم قتله.
بعد التأكد من عجزه التام، سحب كلتا يديه منه، ولم يكن للبشري القدرة على الصراخ أو فعل أي شيء، إكتفى بإطلاق همهمات غريبة شبيهة بالهلاوس، وكأن عقله يعرض عليه واقعا مختلفا عن واقعه.
وجّه الهيكل يده باتجاهه وركّز عليها مستشعرا جوهر البشري .
"نعم، نعم، هذا هو..."
كان ليراهن على أنه لو كان لديه ملامح بشرية، لارتسمت على وجهه ابتسامة واسعة من أذن إلى أذن.
تدفقت خيوط واضحة من بطن البشري، لكنها كانت بيضاء هذه المرة. مع كل خيط يخرج منه، كان جسده يضعف ويذبل أكثر فأكثر، وكأن عصارة حياته تنفد، حتى تلاشى آخر ضوء حياة من عينيه. الوجه الشاب والمفعم بالحياة أصبح الآن أشبه بمومياء قديمة.
"إحساسه مختلف قليلًا، لكنه لا يزال يقضي الغرض."
كانت الكمية التي أنتجها البشري تعادل تلك الخاصة بهيكلين حسب تقديره، ما جعل مزاجه يرتفع، كانت طريقة استخراج الجوهر منه نفس الخاصة بالهياكل، وكأنه إنجذب ناحيته عندما لاحض إنعدام إرادة حامله محاولا النجاة مع حامل أخر.
قام بنزع ثوب وحزام البشري وارتداهما، كانا ضيقين عليه لكن لم تزعجه.
بالرغم من أنه لن يكون كافيًا كتنكر، لكن لا بأس به كبداية، فالمزيد قادم.
-
-
تعليقك يحفزني للإستمرار.