إرتعشت قدماه بشكل خارج عن سيطرته، تمايل بشدة محاولًا البقاء واقفًا إلى أن خارت قواه وانهار على ركبتيه.
"ليس الآن، لا أريد الموت، إنه مبكر جدًا."
كانت قوة البشري مفاجئة وقاسية بالنسبة له، كل ضربة تلقاها جعلت عظامه تئن وترتعش.
إغراء قوته الجديدة جعله ينخرط في قتال قريب، متخليًا عن حذره، ولم يمر وقت طويل حتى أدرك فداحة قراره المتهور.
وكأن توسلاته لامست الآلهة نفسها، لم يعد البشري لينهيه، بل رمقه بنظرة مشبعة بالكراهية، تتقد بنية قاتلة كاد يشعر بلهيبها يحرقه رغم المسافة، قبل أن يغلق باب المقبرة بعنف.
"هل أشفق البشري علي؟"
سرعان ما محا الفكرة السخيفة من باله، لم تكن تلك نظرات شفقة على الإطلاق. كان على يقين تام أنه سيعود ومعه آخرون. كل ثانية يقضيها هنا تعد خطرًا على حياته، ولولا التهامه ذلك الدخان الأسود من الهياكل من قبل، لكان متأكدًا تمامًا أن عظامه ستتفتت تحت ضغط تلك القبضات. مجرد التفكير بها بعث قشعريرة أسفل فقرات عموده الفقري.
حشد كل قوته المتبقية لإطلاق عظمة طائرة أخيرة في سبيل جعل البشري يعتقد أنه لا يزال بإمكانه القتال، ولحسن الحظ، قد انطلت الخدعة عليه.
ألقى نظرة على السور من حوله.
"هذا مرتفع كثيرًا..."
أخفض بصره مرة أخرى وراح يبحث بشكل يائس عن أي شيء مفيد، لكن كل ما التقطته عيناه هو التربة السوداء والعظام المتناثرة فقط...
"عظام..."
لوهلة، علقت تلك الكلمة بذهنه.
"نعم، العظام!"
أضاءت ملامحه، وكأنه استوعب شيئًا ما، شيئًا كفيلًا بأن يمده بالقوة اللازمة للوقوف والمحاولة. أخذ في جمع واقتلاع عظام الهياكل وتكديسها فوق بعضها البعض عند زاوية السور. بعد بضع دقائق، كان قد قام بتصفية المقبرة بأكملها.
"أرجو أن يكون هذا كافيًا..."
لم يسعه سوى التعلق بهذا الخيط الرقيق من الأمل، أما إذا لم يكن هذا كافيًا... فهو لم يرد التفكير في تلك الاحتمالية.
خطا فوق العظام لتصدر أصوات طقطقة منضغطة على بعضها، وقف على أصابع قدميه مستقيمًا ومد ذراعيه لأقصى ما استطاعت يداه الوصول إليه...
"اللعنة، القليل فقط، أرجوك!"
لم تكن سوى بضعة سنتيمترات تفصل أصابعه عن الحافة. لكنه سرعان ما أدرك أن هذا هو حده. قرفص، ثم دفع وركيه لأعلى بقوة في قفزة عالية. للحظة، هو نفسه تفاجأ من القوة التي سخرها لتلك القفزة. غرس نهايات أصابعه الحادة في حافة السور مرتكزًا عليها، ثم دفع نفسه لأعلى وألقى بهيكله مباشرة على الجانب الآخر ليسقط على أرض عشبية صلبة. رغم الألم الذي أصابه،
إلا أن نشوة النجاح طغت على كل شيء آخر.
اتكأ بظهره على السور، ثم ألقى نظرة فاحصة أمامه.
كانت الأشجار تحيط به من كل مكان. لم يكن لديه الوقت لتأمل المنظر، أخذ يتحرك ببطء لكن بثبات عكس اتجاه البشري السابق. لم يعرف أين هو أو إلى أين يتجه، لكنه كان متأكدًا من شيء واحد: كلما ابتعد أكثر، كان ذلك أفضل.
استمر في التحرك لفترة ليست بالقصيرة متعمقًا في الغابة. ازدادت كثافة الأشجار أكثر، لتتشابك أغصانها حاجبة ضوء القمر، ولم تترك سوى خيوط شاحبة تنسل بين أفرعها.
في مرحلة ما، تسلل إلى مسامعه صوت غريب أوقفه في مكانه.
بخطوات هادئة ومحسوبة، تقدم متتبعًا مصدره. عندما شعر أنه اقترب بما فيه الكفاية، اختبأ وراء شجرة عريضة الجذع وأطل بحذر.
في بقعة مفتوحة ومنارة أكثر من غيرها، كان رأس حيوان يجهله مدفونًا في بطن حيوان آخر، مصدرًا أصوات المضغ والطحن. تسربت أحشاء الفريسة للخارج وتشكلت بقعة دماء من حولهما.
كان المفترس منشغلًا تمامًا بوجبته، غير مدرك أن هيكلًا عظميًا يتقدم نحوه بخفة على أصابع قدميه.
كل خطوة قام بها كانت بالغة الحذر. لم يكن جسم الحيوان بذلك الكِبر، حيث قدّر أنه لن يتجاوز ارتفاعه عظمة فخذيه. لم يكن واثقًا من استطاعته الاستمرار بالتقدم دون تلك الخيوط السوداء، ما جعله يتخذ المخاطرة بالرغم من عدم معرفته إن كان هذا الحيوان ينتجها كذلك...
أصبحت المسافة بينهما بضع خطوات لا غير. فرد أصابعه لأقصى حد، لتبرز حوافها الحادة مكان الأظافر، وبحركة سريعة انقض على المفترس، الذي بدا وكأنه استشعر الخطر. اهتزت أذناه، ليخرج رأسه وقد تم تلطيخ وجهه باللون الأحمر، إلا أن الأوان قد فات، إذ غُرست مخالب عظمية في ظهره، ممزقة فروه. أطلق زمجرة، مظهرًا أنيابه، ثم التف وانقض بعضة على يد الهيكل، لكنها اكتفت بالانزلاق على عظامه دون أي ضرر يذكر، ما أعطى الهيكل مزيدًا من الثقة لينهال عليه بقبضاته الهوجاء، ساحقًا جسده بضرباته العنيفة.
في لحظاته الأخيرة، أطلق الحيوان زمجرة ضعيفة، أشبه بأنين شفقة. بعد التأكد من عدم قدرته على التحرك، رفع يده المغطاة بمزيج لزج من الدم واللحم المهروس ومررها على فرو المفترس، مزيلًا عنها قذارته. اعتدل في جلسته وحاول استشعار ذلك الدخان مرة أخرى...
"هذه الكمية..."
كانت الكمية ضئيلة للغاية، أقل من نصف ما أنتجته الهياكل من قبل. لم تكن تستحق الجهد المبذول عليها. أراد تهشيم كل ما تبقى من جسد الحيوان، إلا أنه سيطر على نوبة الغضب التي اعترته واستلقى على ظهره. لم يرد إهدار المزيد من الطاقة.
"دماء..."
دون أن يدرك، وجد نفسه شاردًا في منظر الدماء على الحيوان بقربه، وكأن الكلمة قد أنعشت ذاكرة مدفونة في أعماقه...
--
"ماذا قال لك؟"
تحدث رجلٌ عارٍ وهو جاثٍ على بركة دماء تجاوزت كاحله.
"أمم..."
أمامه مباشرة، وقف رجلٌ نحيل كعصا، مرتديًا قلنسوة سوداء غطت ملامحه.
"إنه سعيد، سعيد للغاية بالتضحيات التي أحضرتها له..."
كان صوته خشنًا كصرير المعدن على الحجر، نافرًا للأذنين، إلا أنه بالنسبة للرجل الجاثي كان ملائكيًا للغاية. ارتسمت على ملامحه ابتسامة واسعة مشوبة بالترقب.
"إذًا، هل سأحظى بـ..."
توقفت الكلمة في حلقه، ابتلع ريقه وانتظر الإجابة على أحر من الجمر.
"إنه يقول..."
كان حديث ذو القلنسوة بطيئًا بشكل مستفز، كأنه يتلاعب بأعصابه، لكنه لم ينطق بكلمة واستمع بعناية.
"خلودك يبدأ بموتك..."
التزم الصمت، منتظرًا أن يواصل ذو القلنسوة كلامه، لكنه توقف دون إضافة حرف واحد.
"ماذا أيضًا؟" سأل بصبر نافد.
لم يرد عليه ذو القلنسوة، بل بدأ يتمتم بعبارات غامضة لم يستطع الرجل فهمها، ثم حرّك أطرافه في رقصة ملتوية.
كان الشعور بعدم الراحة يعتريه منذ البداية، لكنه لا يزال ينتظر. تراقص ضوء الشمعة الخافت معه للحظات قبل أن ينطفئ فجأة، ليبتلع الظلام القاتم كل شيء...
أطلق ذو القلنسوة ضحكة كنقيق الدجاج وقال:
"أنت تريد مزيدًا من التوضيح، وهو يريد المزيد من الأطفال، يقول إن دماءهم شهية."
"بحق الجحيم، أليس ستة أطفال كافيين لعفريتك هذا أو أياً كان؟..."
لم يستطع الإحتمال اكثر وانفجر صارخًا.
لم يجبه ذو القلنسوة، بل تلاشى وجوده تمامًا من الغرفة دون إصدار أدنى صوت، كأنه لم يكن هناك قط.
لاحظ الرجل في الوقت نفسه أن دفء الدماء أسفله قد تبخر تمامًا، ولم يبقَ سوى ملمس الحجر البارد.
"أنت، أنا أتحدث معك، لا تصمت هكذا!"
"الشعلات الملاعين يطاردون مؤخرتي يوميُا، مالذي يقصده بخلودك يبدأ بموتك؟"
"لقد وضعت حياتي على المحك، حياتي اللعينة! وكل ما تخبرني به هو هراء الألغاز هذا..."
تردد صدى صراخه في الغرفة، لكن دون جدوى.
-
-
-
رأيكم بالفصل ؟