1 - الفصل الأول: حين يتكلم الجُرح

الزمن لا يُقاس بالساعات، بل بعدد الأرواح التي نُزعت من دون وداع.

في قرية منسية، مطمورة بين ذراعي الجبال القديمة، وُلد فيلوس، لا تحت نجمة، ولا تحت نبوءة. لا أحد قال يومًا: "سيغيّر هذا الطفل العالم."

كان طفلًا عاديًا… أكثر من اللازم.

لكنه كان يسمع ما لا يُقال.

كان يسمع الألم.

الألم له صوت. نعم، له نغمة لا تُدركها الأذن، بل تدركها الروح حين تُجلد بما يكفي.

كان يسمع صمت والده حين ينهار من التعب لكنه يبتسم.

يسمع ارتعاشة أمّه وهي تدعو، ليس من إيمان… بل من يأس.

يسمع أنين الأرض تحت الأقدام، والجدران وهي تتوسل ألا تسقط.

وفي ليلٍ ماطر، لا يُشبه أي ليلة، سمع صوتًا لم يسمعه من قبل.

صوت النهاية.

---

لم يسقط المطر.

سقط رجالٌ مقنّعون، بلا وجوه، بلا أسماء.

عتمة تمشي، لا تتحدّث… فقط تقتل.

فيلوس لم يكن في الحلم. كان يرى كل شيء:

طفلة تُسحب من يد أمها…

رجل يُذبح ككبش، لا لذنب، بل لأنه وُجد.

نار تشتعل في الأكواخ، ثم في العيون، ثم في القلب.

صراخ، ثم صمت.

والصمت كان أعلى من كل الصرخات.

رأى والده يُطعن أمامه، ليس من الخلف، بل من الأمام… ليُجبر على النظر في عيني قاتله.

رأى والدته تُحتضَر، وهي تحاول أن تغني… نعم، تحاول أن تُنهي الأغنية التي كانت تغنيها له كل ليلة.

لكن الصوت مات قبل أن تنتهي النغمة.

---

بقي حيًّا.

كيف؟ لا يعلم.

ربما نسيه القتلة… أو تجاهلوه عمدًا.

ثلاثة أيام قضاها بين الجثث.

لا أكل. لا بكاء. لا نوم.

فقط نظرات… تبحث عن معنى في رماد.

في اليوم الرابع… جاء رجل.

كان طويلًا، كأنّه شُكّل من ليل.

وجهه فيه حكايات منسية، وعيناه تشبهان قبورًا مفتوحة.

اقترب منه، جلس قربه، وقال دون أن يسأله عن اسمه:

"لم يبقَ شيء."

فيلوس لم يرد.

الرجل تابع:

"العالم لا يحترق لأننا ضعفاء، بل لأن أحدًا قرر أن يشعل الكبريت… وتركنا نُراقب."

ثم ساد الصمت.

لكن صمت فيلوس لم يكن عاديًا…

بل كان أول جملة في لغة جديدة.

الرجل أخرج قطعة خبز، وضعها قربه، وقال:

"حين يكبر الجرح، يتكلم.

وأنت… أصبح فيك جرحٌ كبير كفاية ليحمل صوتًا."

أدار فيلوس وجهه إليه أخيرًا، وسأله:

"هل سيعود شيء؟"

"لا شيء يعود.

حتى الذكرى، حين تعود… تكون مشوهة."

---

أخذه الرجل إلى كهفٍ بعيد، منحوت في صخرٍ أسود.

هناك، كانت بدايته الجديدة.

قال الرجل:

"اسمع يا فيلوس… بعض القوى لا تُولد من التدريب، ولا من الموهبة.

بعض القوى لا تُطلب… بل تُفرض."

أشار إلى صدره:

"أنت الآن حفرة.

وإذا لم تملأها… ستبتلعك."

تساءل فيلوس:

"بماذا أملؤها؟"

"بالألم."

ثم صمت قليلًا، وأضاف:

"هناك نوع نادر من القوة… لا يُمسك، بل يُلمس.

لا تراه، لكنك تشعر به…

إنه لا يهاجم، بل يتسلل."

رفع يده ببطء، ومرّرها فوق حجرٍ دون أن يلمسه، فانكسر الحجر من الداخل، دون أن تتغير ملامحه.

"هذه بدايات اللامس… قوّة لا تؤذي الجسد فقط، بل تمزّق الذكرى ذاتها."

---

وفي قصرٍ بعيد… كانت سبعة مقاعد تُحيط بطاولة دائرية.

سبعة رجال، بعباءات ملونة بلون كل عائلة.

قال أحدهم:

"قُرية كَفِلوس أُبيدت."

رد الآخر: "لكن الصدى لم يمت."

"إذن… من نجا؟"

"من لا يجب أن يعيش."

صمت، ثم ضحك رجل ذو عباءة بيضاء:

"إنه من نسل الصوت الأول… جرحٌ حيّ.

سنراقبه… فإن لم يُقتل، سنُعيد خلقه."

---

في الكهف، قال فيلوس لشيخه:

"ما اسمك؟"

"الاسم ليس مهمًا، حين يكون الماضي عارًا."

"لماذا أنقذتني؟"

"لأني لا أُنقذ. أنا فقط أبحث عن من يشبهني."

---

وفي تلك الليلة… حلم فيلوس لأول مرة.

ل

م يكن كابوسًا… بل رؤيا:

هو يقف وسط بحر من الجثث،

لكن حين يلمسهم… لا يموتون.

بل يتذكرون.

استيقظ وهو يهمس:

"أنا لست سيفًا…

أنا صوت الجرح."

---

2025/04/15 · 7 مشاهدة · 566 كلمة
Zinou.mb
نادي الروايات - 2025