6 - الفصل السادس: المرآة الأولى

عندما تُفتح الأبواب التي طُبِعت عليها رموزٌ منسية، لا يعود هناك مهربٌ من الذات التي تنتظر خلف الجدار.

---

في زنزانةٍ عميقة تحت الأرض، حيث يتساقطُ الصمت على الحراس كما يتساقطُ المطر على الأحجار، سُئل الرجل المقيدُ كل يومٍ نفسَ السؤال:

— “هل الندم هو ذنبك؟”

ولأول مرةٍ، رفع شفتيه في ابتسامةٍ باردة وقال:

— “لا… بل جهلي بمن أنا.”

انزلقت السلاسلُ عن معصميه، وصدأت القلائدُ الحديدية التي قيدت روحه لأعوام. أُفتح البابُ أمامه بصريرٍ طويلٍ كصرخةٍ لم تُطلَق، وصعدَ ضوءُ الفانوس إلى وجهه النحيل.

كان ينهض ببطء، يمدُّ ذراعيه كما يمدُّ النهرُ مياهه صوب البحر، ثم تنفسَ بعمقٍ أولَ دخلةٍ للحرية بعد سنينٍ من الأسر.

---

في الممرّ الرماديّ، استقبله حارسٌ واحدٌ فقط، يرتدي عباءةً سوداء تحمل شعار “أقنعة العهد”.

قال الحارسُ وهو يزيح القناعَ عن عينيه:

— “لقد انتظرك المجلسُ… الآن أنت ‘المرآة الأولى’.”

التفتَ إليه الرجلُ ببرودٍ:

— “المرآة… الأولى؟”

ابتسم الحارسُ:

— “أنت أول من اختبرنا فيه اللامس قبل سنواتٍ، لكن حينها… فُسِرَت قوتك خطأً. اليوم سنصحح المسار.”

---

في قاعةٍ معتمةٍ تحت الأرض، جلس أعضاءُ “أقنعة العهد” حول طاولةٍ دائريةٍ مصنوعةٍ من خشبٍ أسود. شموعٌ صغيرةٌ تلتمع، تعكس وجوههم المموهة خلف الأقنعة.

وقفَ أحدهم، صوته خافتٌ لكنه يخرق الصمت:

— “المرآة الأولى… لقد أيقظناه. لقد أخرجنا من السجن ما في داخله من قوةٍ وشكٍّ. الآن نرى: هل سيكسرنا، أم سنكسِرُهُ؟”

ردّ آخر، عبوسٌ وهو ينظر إلى مرآةٍ عتيقةٍ على الجدار:

— “حين يلتقي بفيـلوس… سترى الحقيقة. المرآةُ لا تكذب.”

---

عند فجر اليوم التالي، عبرَ الرجلُ المنكسرُ ممرّاتٍ متصلةٍ بحبالٍ من الضباب. لم يكن يحمل سلاحًا، بل حمل بقايا ذكرياتٍ حيةٍ في عينيه.

خرجَ إلى ضوء النهارِ الخافت، حيث تلاشت رائحة الرطوبةِ المدفونة في الزنزانة، واستبدلها رائحةُ الأرضِ المبللة.

هناك، كان ينتظره “رفيق” لم يُعرَف اسمه بعد، لكنه بدا كظلٍّ يخفي أكثر مما يكشف.

همسَ الظلُّ:

— “المرآة الأولى… حان وقت اللقاء.”

أومأ الرجلُ، ونزل الاثنانِ طريقَ حجارةٍ متكسرةٍ صوب ما أُطلق عليه “قاعة الانعكاس”.

---

في صباحٍ بعيدٍ، جلس فيلوس تحت شجرة “تيلما” ذات الأوراق الفضية، يلفُّ ساقه بضمادةٍ سوداءٍ.

جاءه الشيخ آرين، فجلسَ بقربه وأشعل نارًا صغيرةً:

— “الجرح ينضج، يا فيلوس. لقد تلقيت الرسالة: ‘هل تعرف من أنت؟’ ماذا قرأت فيها؟”

نظر فيلوس إلى اللهب يتراقص، ثم قال بهدوءٍ:

— “قرأتُ أنني… لا أعرف شيئًا عن نفسي سوى الألم.

وأن قوتي… هي تلك الذاكرة التي لا تندمل.”

ابتسم الشيخ بحزنٍ:

— “حسنًا. اليوم ستلتقي بمن يشبهك… أو من يعكسك.”

---

اقتربا من أطلال قرية “كارياث”، حيث مات الناسُ بسبب جهلهم بذواتهم. كان الصمتُ هناك أعمقَ من أي موت، والأرضُ ما زالت تحتفظُ ببقايا التعاويذ القديمة.

وقف فيلوس وجلس الشيخ، وقال الأخير:

— “هنا… سيبدأ الاختبار. المرآة الأولى ستظهر لك ما لا تريد أن تراه.”

تحسس فيلوس نصل سيفه الخفيف، ثم وضع يده على قبضةٍ وهميةٍ، وكأنما يستدعي الأمان.

---

فيما بعد، ظهرت في الظلِّ هيئةُ المرآة الأولى، يرتدي رداءً رماديًا، ووجهه محجوبٌ بوشاحٍ شفافٍ.

قال بصوتٍ بعيدٍ:

— “فيلوس… ابن الأمس.

أنا الذي ضحّى بعقله لأرى الحقيقة.

واليوم… سأريكها.”

تقدمَ الاثنانِ خطوةً نحو بعضهما، وبدأت الأرضُ تنبض تحت أقدامهما، كأنها تُسمع نبضَ الألم في قلبيهما.

التفت فيلوس إلى الشيخ آرين، وهمس:

— “هل أقاتله… أم أستمع إليه؟”

رد الشيخُ:

— “اللامس… ليس ضربًا أو صدًا. إنه صمتٌ يصرخ في داخلك.

فقط اسمع.”

---

وقف فيلوس وواجه المرآة الأولى.

كانت لحظاتٍ ثقيلة، كل ثانيةٍ كأنما تزنُ ألف عامٍ من الأسئلة.

قال المرآة الأولى:

— “أريد أن أعرف: هل تتذكر ما حصل قبل أن تُولد؟

قبل أن تسمع صمتَ والدك، وصوتَ أمكِ الأخير؟

هل تعرف… ما يعنيه أن ترى الألم قبل أن تُرى؟”

رد فيلوس وهو يغمض عينيه:

— “أعرف…

أعرف أنني… صوتُ الجرح.

لكنني لا أعرف إن كنتُ الجلادَ أم الضحية.”

---

حين انفتح الوقت، اهتزت الأشجارُ من حولهما، وظهر في الهواء هُمسٌ جديدٌ:

— “العد التنازلي بدأ…

حين تنكسر المرآة الأولى، سيظهر البطل الحقيقي.”

وفي تلك اللحظة، تجمدَ فيلوس ونظر إلى المرآة الأولى:

— “وأنا… هل أريد أن أكون بطلاً؟”

فابتسم الرجل المقنعُ خلف الوشاح، وقال:

— “ليس المهم أن تريد…

بل أن تختار.”

---

كانت الرياحُ تلعب بأوراق الشجر، والصمتُ يختلطُ بأنينِ الأرض.

في تلك القاعة القديمة، حيث تُحاك المصائر في صمتٍ، كان فيلوس يقف أمام المرآة التي لا تنعكس فيها الوجوه، بل الجروح.

وأدرك أ

خيرًا: أن الرحلة الحقيقية لم تبدأ بعد…

وأنّ المرآة الأولى ليست خصمًا… بل سؤالاً كبيرًا ينتظر الإجابة.

نهاية الفصل السادس

2025/04/16 · 3 مشاهدة · 695 كلمة
Zinou.mb
نادي الروايات - 2025