الفصل الأول: أنامل أمي وعيون أبي
في أعماق غابة كثيفة الأشجار، تهمس فيها الرياح بأسرار الليل، وتتناثر أوراق الشجر كأنها رسائل من زمنٍ مضى، وُلد ستيف. لم يكن بيتهم كبيرًا، لكنه كان دافئًا، تُزيّنه رائحة الخبز الطازج، وخشخشة الحطب في المدفأة، وصوت الضحك الذي يتردّد في أركانه كما لو كان جزءًا من الجدران.
كان عمر ستيف سبع سنوات حين بدأ يعي العالم. عالمه كان بسيطًا: أم تحنو، وأبٌ يحمي. كان يراهم أعمدة الحياة. أمه، ذات الشعر الذهبي المجدول دائمًا بعناية، كانت تحب غناء الترانيم القديمة بينما تخبز أو تحيك. لم يكن صوتها عاديًا، بل فيه نغمة من حنان غامض، كما لو كانت تهدهد العالم كله لا طفلها فقط.
وأبوه... آه يا أبيه. رجل طويل القامة، عريض الكتفين، صوته كالرعد في الشتاء، لكنه حين يتحدث إلى ستيف، كان يتحول إلى نهر هادئ. علمه كيف يصنع قوسًا من عصا مشقوقة، كيف يربط العقدة، كيف يشعل النار. كان يقول: "المعرفة، يا صغيري، هي سلاح، لكنها لا تُغني عن الشجاعة."
في إحدى الليالي، كانا يجلسون حول النار. الأب يعد شرائح من اللحم المشوي بينما كانت الأم تنسج. سأل ستيف ببراءة:
"أبي، هل أنت بطل؟"
ضحك الأب وقال: "أنا مجرد رجل يعرف كيف يقاتل من أجل من يحبهم."
هزّت الأم رأسها وقالت: "وهو أيضًا يعرف كيف يحرق الحساء ثلاث مرات في الأسبوع."
ضحكوا، كلهم، حتى دمعت عينا ستيف من الفرح. كان ذلك آخر ضحك صادق عرفه في حياته الأولى.
في الليلة التالية، بدأ كل شيء ينهار.
كانت الريح أقوى من المعتاد. السماء تنذر بعاصفة. لكن لم تكن السماء من حمل الخطر، بل شيء آخر... شيء بشري، ملوّث بالطمع.
ستيف استيقظ على صراخ. كان صراخًا ليس كباقي الصرخات، بل كأنه اقتلاع روح. انطلقت قدماه الصغيرتان نحو الدرج، لكن الطريق كان مظلمًا. كان البيت يهتز، كأن زلزالًا يضربه. صوت زجاج يتحطم. رائحة دخان.
فتح باب غرفته، واندفع إلى الخارج... فوجد نفسه محاصرًا باللهب.
صرخ: "أمي! أبي!"
لكن الرد جاء على شكل خشبة محترقة سقطت أمامه. تراجع، يلهث، يبكي. رأى ظلين خلف النافذة يُسحبان بقوة نحو الداخل، ثم لم يعد يراهما.
اختنق الهواء. لم يستطع التنفس. دارت الدنيا به، ووقع أرضًا.
حين استيقظ، كان محمولًا على يدَي رجل غريب، يرتدي زي الإطفاء. خلفه، لم يتبقَّ من البيت إلا رماد، ومن الذكريات سوى رائحة دخان.
في التحقيق، قالوا إنها "حادثة". ماس كهربائي. لكن ستيف سمع في ليلته الأخيرة همسًا، وصوت باب يُفتح خلسة، وشيئًا يُسكب في الطابق السفلي.
لكن لا أحد صدّقه. لأنه كان مجرد طفل... واليتيم لا يُؤخذ بكلامه.
انتقل للعيش مع أعمامه، ثلاثة رجال بأسماء قاسية كوجوههم: ريك، وغوران، وسام. قالوا إنهم سيعتنون به. لكنهم لم ينتظروا حتى تنتهي أيام العزاء حتى بدأوا بتقاسم الإرث.
"البيت لنا، أمّا الصغير... فليذهب إلى المدرسة أو إلى الجحيم، لا يهمني"، قال ريك وهو يمضغ سيجاره.
نُقل ستيف إلى غرفة صغيرة في القبو، تفوح منها رائحة العفن. سرير مكسور، بطانية مشققة. وأصبح اسمه بينهم "العبء". لم يكن يُسمّى باسمه إلا حين يصرخون عليه ليغسل الصحون، أو ينظف الأرض، أو يذهب إلى المتجر تحت المطر.
في الليل، كان يضم صورة ممزقة لأمه تحت وسادته، ويبكي بصمت. وفي داخله، شيء بدأ ينكسر... ثم شيء آخر بدأ ينمو.
كان يمضي ساعات يراقب القمر من نافذة صغيرة في القبو. وفي كل مرة، يتذكر جملة والده:
"المحارب لا يقاتل بلا قلب."
كان يُتمتم بها كأنها تعويذة... كأنها وعد.
شباب اللي يعرف كيف اجعل الكلام اكبر واغمق يخبرني