أتمنى أن تستمتعوا بهذا الفصل
--------------------
الفصل الرابع: كن عاقلًا وافعلها بنفسك (1)
في مخزن الأسهم التابع لعائلة سيفيرا، وهو مكان تفوح منه رائحة الجلد القديم، كان رجل في منتصف العمر يتفحص الأسهم بعناية. كان بيسيل إل سيفيرا، رب عائلة سيفيرا. لعقود من الزمن، لم يتوانَ يومًا عن تفقد الأسهم التي تُصنع يوميًا.
كان هناك سهام خفيفة ومتوازنة للاستخدام العادي، وأخرى ضخمة بحجم ذراعه تقريبًا، صُممت لصيد الوحوش ذات الجلد السميك والقاسي. أما آخر سهم التقطه، فكان مثل السيخ، مصنوعًا لاختراق الدروع أو التروس السميكة. وكان هذا النوع من السهام نادرًا.
كان بيسيل بلا مشاعر وهو يمرر أصابعه على ريش السهم. في تلك اللحظة، فُتحت أبواب المخزن ببطء. دخل أحدهم، بخطى صامتة. كان هيسوب، ابنه البكر، الذي عاد إلى المنزل الليلة الماضية. كانت ملامحه الحادة، وعيناه القويتان، ووجهه الصارم، نسخة طبق الأصل من بيسيل، يصعب تخيل أنه يبتسم.
كان هيسوب يرتدي ملابس مخملية زرقاء أنيقة، ووقف بانضباط وهو يحيي بيسيل، كما يليق بنائب رب العائلة الذي يتولى الشؤون الخارجية نيابةً عن الأب. وضع يده اليسرى على بطنه واليمنى إلى جانبه، ثم انحنى. وعندما أومأ بيسيل اعترافًا بالتحية، اعتدل هيسوب وبدأ الحديث مباشرة.
قال: "أبي، سمعت من مايل أن أخي غير الشقيق، كيتير، قادم."
أجاب بيسيل وهو يربت على ريش السهم في يده: "هذا صحيح."
قال هيسوب: "أنا أحترمك وأثق بك، وأؤمن بأن لديك سببًا وجيهًا لهذا. لكن، مهما فكرت، أظن أن الوقت غير مناسب."
رد بيسيل: "أفترض أنك لا تحب أخاك غير الشقيق الذي ظهر فجأة."
قال هيسوب: "لم ألتقِ به قط، فلا أحبه ولا أكرهه. ولكنك تعلم جيدًا أن العائلة تمر بأزمة. لا أظن أن إدخال شخص غريب في هذا الوقت الحرج سيكون آمنًا لا لنا ولا لذلك الفتى."
كانت حجته منطقية ومُحكمة.
سأله بيسيل بنبرة ثابتة: "وماذا تقترح؟"
أجاب هيسوب: "يمكنه البقاء معنا، لكن لا يجب أن يشارك في شؤون العائلة، حمايةً لنا وله."
سأله بيسيل: "هل تقصد أن نتجاهله؟"
قال هيسوب دون تردد: "للأسف، نعم. كيتير جاء من مدينة بلا قانون. لا أريد أن أظلمه أو أتهمه بلا دليل، لكن لا يمكنني الوثوق به عميانيًا أيضًا."
كانت حجته منطقية وخالية من العاطفة. وبما أن هيسوب تعلم هذه المبادئ من والده، لم يكن لدى بيسيل سبب للاعتراض.
قال بيسيل: "لا تقلق، أنا أيضًا وصلت إلى هذا القرار. سأراقب كيتير وأرى كيف سيتصرف."
قال هيسوب: "كما تشاء، يا أبي. ولكن، إن سمحت لي، لدي سؤال... كيف عرفت بأمر كيتير؟ وكيف ولماذا جلبته إلى هنا؟"
رد بيسيل وهو يشيح بنظره بعيدًا: "هذا سؤال لا يمكنني الإجابة عليه بسهولة."
ثم شبك يديه خلف ظهره، وحدق في الجبال من خلال النافذة.
قال: "أسمع صوت العربة، لا بد أن كيتير قد وصل. لقد أخبرت الخدم أن يتجاهلوه، ويجب عليك أن تفعل الشيء ذاته."
قال هيسوب بصوت خافت: "... كما تأمر."
وحين أنهى بيسيل الحديث وكأنه لا يريد قول المزيد، انحنى هيسوب احترامًا وغادر المخزن.
أعاد بيسيل السهم إلى الجعبة وتنهد بعمق. السبب الذي دفعه لإحضار ابنه من مدينة ليكور الخارجة عن القانون — والذي لم يكن يعلم حتى بوجوده — بدأ برسالة وصلته قبل شهر.
"ترسلين لي رسالة فجأة... تقولين إن لدي ابنًا..."
كانت الرسالة من امرأة غامضة كان قد التقاها باختصار قبل عشرين عامًا، عندما كان شابًا متهورًا. محتوى رسالتها كان صادمًا:
— الليلة المرصعة بالنجوم ما زالت حية في ذاكرتي، لكن الوقت مضى. أنا بخير، وأفترض أنك لست كذلك. لذا أرسل إليك هذه الرسالة. لدينا ابن، اسمه كيتير. كما أنك ساعدتني حينها، سيساعدك ابننا الآن. هو في مدينة ليكور حاليًا. الخاتم الموجود مع هذه الرسالة سيخرجه من ليكور.
لم يكن هناك اسم مرسل، لكن بيسيل عرف فورًا من السطر الأول أن الرسالة من "أكراه".
"أكراه..."
كانت علاقة عابرة، لكن بيسيل أمضى ليلة مشتعلة مع امرأة غامضة تُدعى أكراه. حينها، أخبرته ألا يقلق بشأن شيء، والآن تدّعي أن لديهما ابنًا سيُنقذ العائلة؟ هذا ضرب من الجنون.
في البداية، لم ينوي بيسيل البحث عن كيتير. ليس لأنه لا يثق بأكراه، بل لأن العائلة لم تكن تملك الموارد.
لكن في الليلة نفسها، غيّر رأيه، بعدما اختفت الرسالة.
"..."
الرسالة التي كانت على مكتبه اختفت دون أثر. ظن أن الخادمات قد رمينها عن طريق الخطأ أثناء التنظيف، لكن الأمر لم يكن منطقيًا.
من يجرؤ على لمس أغراضي؟ ثم إن مكتبي لا يدخله أحد بسهولة.
وبعد أن لم يجد أثرًا لأي اقتحام، سأل الجنود الذين حرسوا مكتبه عمّن دخل أثناء غيابه.
أجاب الجنود: "زارك ثلاثة من الشيوخ وكبير الخدم."
وهكذا ضاق نطاق الشك على أربعة. وكان هذا أسوأ، لأن هؤلاء من نخبة العائلة. فكرة أن أحدهم سرق الرسالة زادت قلقه.
هل هناك خائن في العائلة؟
هؤلاء المشتبه بهم إما من دم العائلة أو خدموها بإخلاص منذ عهد الأب السابق. صداع بيسيل ازداد سوءًا، لكن كان عليه اتخاذ قرار واضح.
لا خيار أمامي سوى إحضار كيتير الآن.
لم يتردد بيسيل في استدعاء كيتير بسبب أصله، بل بسبب أن العائلة أصبحت هدفًا للأعداء وقوتها في تراجع. لم يكن من الحكمة حينها أن يُعرض ابنه للخطر.
لكن بعدما عرف الخائن بهوية كيتير، أصبح الطفل في خطر. لذا قرر بيسيل أن يبقيه قريبًا. لم يكن يعرف كيف يبدو أو كيف نشأ، لكنه فكر:
إنه ابني، رغم كل شيء.
عقد بيسيل اجتماعًا وأعلن وجود كيتير، لكنه أخفى أصله، وادعى أنه جاء من مدينة "أبسانث"، وهي مدينة تقلد ليكور. لو شاع خبر وجود خاتم يخرج الناس من ليكور، لما استطاعت أي عائلة نبيلة تحمل العواقب.
أكراه، من تكونين بحق السماء لتمتلكي شيئًا كهذا؟ ولماذا تركتِ ابننا يكبر في ليكور؟
لم يستطع بيسيل فهم دوافع أكراه، بالكاد يمكنه اعتبارها زوجة. رغم كل الظروف غير المواتية، كان بيسيل، كأب، يتساءل عن ابنه. كيف نشأ؟ هل يكرههما؟ هل ظن أنهما تخلّيا عنه؟
نشأ كيتير في ليكور، مدينة بلا قانون، ومن السهل أن نتخيل أنه نشأ بطريقة قاسية. أسوأ سيناريو، أن يُسبب كارثة للعائلة.
"من يدخل ليكور لا يخرج منها"... هذا هو المكان الذي نشأ فيه كيتير. هل يمكن أن يكون طبيعيًا؟
كانت جميع الاحتمالات السيئة تدور في ذهن بيسيل. فكّر جديًا في التخلص من التهديد المحتمل، لكنه لم ينوي فعل ذلك أبدًا. كان يؤمن أن التخلي عن فرد من العائلة يعني التخلي عن العائلة بأكملها.
خرج بيسيل من ذكرياته حين سمع صوت توقف العربة. لم تكن هناك أي عربة متوقعة في هذا الوقت، سوى عربة كيتير القادمة من ليكور.
كيتير، لا تقلق... لن أحمّلك مسؤوليات العائلة. لقد استدعيتك فقط لحمايتك.
وليس هذا فقط. إذا انهارت العائلة، فعلى الأقل يجب إنقاذ كيتير، لأنه لم يخطئ ولم يكن مسؤولًا. لذا، قرر بيسيل أن يعزله، حتى لو بدا الأمر قاسيًا. فإذا بدا غريبًا عن العائلة، فسيزهد به الأعداء.
كل ما كان يتمناه بيسيل، هو أن يعيش كيتير بسلام، دون ألم، ودون أذى، في هذا المكان.
"لقد أضعتُ الكثير من الوقت."
شعر بيسيل بثقل على كتفيه. كربّ للعائلة، كان عليه حماية إرث أجداده. وكأب، كان عليه حماية أبنائه.
وحين همّ بالخروج من المخزن، جاء صوت صاخب من الخارج:
"أبي! لقد عاد اللقيط الذي تخلّيت عنه!"
صوت صاخب كأنه انفجار بركاني. أدرك بيسيل فورًا أن هذا هو صوت كيتير، ابنه الذي لم يره منذ ثمانية عشر عامًا.
"ها... هاها..." ضحك بيسيل بسخرية.
لم يكن يتخيل أن كيتير سيُحييه بهذه الجرأة.
إنه تمامًا مثلي عندما كنت شابًا.
لكن بيسيل لم يكن ينوي مقابلته فورًا.
سأراقبك يا كيتير.
وصعد بيسيل، الذي أحب عائلته كما يحب أطفاله، إلى مكتبه.
* * *
"سيدي، البطريرك مشغول الآن ولن يتمكن من مقابلتك. لذا، ما رأيك أن تعود إلى جناحك في الوقت الحالي؟" قال جاك، الذي تبِع كيتير بسرعة.
كان كيتير يعلم أيضًا أن والده لن يخرج على أية حال. بل كان سيشعر بخيبة أمل لو قابله بهذه السهولة.
"لا أعتقد أن والدي أصم. من الواضح أنه يتجاهلني عمدًا."
رمش جاك للحظة بسبب كلمات كيتير الصريحة، ثم بدأ يختلق عذرًا:
"إذا تأقلمتَ جيدًا مع العائلة، فالبطريرك سيدعوك حتمًا."
"لا بأس. أنا فقط فضولي لأرى مدى صبر والدي."
لم يكن كيتير محبطًا من تجاهل بيسيل له، بل اعتبره تحديًا. كان يتساءل: متى سيقرر بيسيل أن يستدعيه؟
إذا استطعتَ أن تصمد ليلة واحدة، فسأعدّها مدة طويلة.
أما جاك، الذي لم يكن يعلم ما يدور في ذهن كيتير، فسأله بتردد: "أ-أفندم... ماذا تعني بذلك يا سيدي؟"
"لا شيء. لنذهب إلى جناحي. إنه ذاك الذي يشبه الكوخ، أليس كذلك؟"
ارتبك جاك وهو يشاهد كيتير يتقدمه بخطى ثابتة نحو الكوخ مباشرة.
كيف عرف؟
لم يكن لدى جاك وقت للتساؤل. رغم أن كيتير كان يبدو كأنه يمشي، إلا أن سرعته جعلته يبدو كأنه يركض.
"س-سيدي! انتظرني من فضلك!"
بينما كان جاك يلاحقه بسرعة، بدأ الجنود الذين كانوا يحرسون المكان يتهامسون عن كيتير.
"هل هذا هو الشخص الذي ذكره البطريرك؟ إنهما متشابهان فعلًا، أليس كذلك؟"
"نعم، إنه يشبه تمامًا صورة الشاب البطريرك المعلقة في المبنى الرئيسي."
"هل تعتقد أن قدومه سيكون مفيدًا لعائلتنا؟ أشعر بالقلق..."
"لا تكن سخيفًا. هل ارتكب البطريرك خطأً يومًا؟ دعنا نركّز على واجبنا فقط."
"معك حق."
لكن قبل أن يعودوا إلى أماكنهم، وصل أحد الجنود متأخرًا وقاطعهم.
"مرحبًا، هل سمعتم من أين جاء؟"
"كل ما نعرفه أنه كان قادمًا، لكن لم يُذكر من أين بالضبط."
"هذا سر، لكن... هناك إشاعات تقول إنه من مدينة أبسينث الخارجة عن القانون."
"أبسينث؟!"
"ذلك الجحيم؟"
كان أورين وحده من يعرف أن كيتير جاء من ليكيور، أما الباقون فظنوا أنه من أبسينث.
كانت مدينة أبسينث مشابهة لليكيور من حيث كونها مدينة بلا قانون، لكن سمعتها كانت أسوأ بكثير.
"لا أصدق أن اللورد كيتير من أبسينث!"
كان صادمًا أن للبطريرك ابنًا غير شرعي، لكن الأمر كان معقولًا إلى حدٍ ما... أما إن كان من أبسينث، فذلك أمر آخر تمامًا.
وسرعان ما أصبحت وجوه الجنود أكثر جدية.
قال الجندي الذي ذكر أبسينث أولًا، بوجه متجهم: "لقد زرت أبسينث من قبل، وكل من يعيش هناك مجانين بصفات قذرة. إذا كان اللورد كيتير من هناك أيضًا... فاحذروا منه."
"لم أتمكن من رؤية ملامحه جيدًا، لكنه لم يبدُ كذلك..."
"لا تثق بذلك. من الأفضل ألا تُغضبه."
"بل الأفضل ألا تقترب منه أبدًا. أليس ذلك أكثر أمانًا؟"
"أوافقك تمامًا."
انتشرت هذه الإشاعة بهدوء في أنحاء القصر — إشاعة أن كيتير لم يأتِ من مكانٍ عادي، بل من مدينة أبسينث الخطرة. لم تكن هناك شائعات تقول إنه ارتكب شيئًا شريرًا، ومع ذلك، أصبح يُصنّف تلقائيًا كشخص يجب تجنبه.
كل الأسباب التي أدت إلى تجاهل كيتير في حياته السابقة، بدأت تتضح. وبالطبع، لم يهتم كيتير بأيٍ منها.
وصل أخيرًا إلى المكان الذي سيعيش فيه من الآن فصاعدًا.
"سيدي، هذا هو الحمام، وعلى اليسار يوجد خزانة الملابس..." قال جاك بحماس وهو يشرح له محتويات المكان.
لكن كيتير كان ينظر حوله وكأنه يتفقد المكان دون اهتمام.
"إنه تمامًا كما توقعت."
"عذرًا؟ ماذا تعني بأنه كما توقعت؟"
"لا تقلق بشأن ذلك. جدي، ماذا يفعل إخوتي؟"
"ج-جدي؟ سيدي... هل أبدو بهذا العمر؟"
فرك جاك جبينه الأملس متفاجئًا من مناداته بـ"جدي".
"أنت فقط تذكرني بجدي الطيب. على كل حال، هل ستجيبني؟"
"أوه..."
توقف جاك عن الكلام. لقد تلقى أوامر صارمة من البطريرك بعدم السماح لكيتير بالاقتراب من إخوته، لذا لم يستطع أخذه إليهم.
كيتير، الذي كان يعلم الوضع بوضوح، هزّ رأسه وقال:
"لا بأس إن لم تخبرني. لا مشكلة إن وجدتهُم بنفسي، صحيح؟"
"أم..."
بُهِت جاك من جديد. كل كلمة يقولها كيتير كانت غير متوقعة.
سمعت أن اللورد كيتير قضى حياته في أبسينث... فكيف يتصرف بهذه الثقة وكأنه وُلد في هذا المكان؟
لم تمر سوى ساعة واحدة منذ أن وصل كيتير، لكن تصرفاته بدت وكأنه تأقلم تمامًا مع البيئة من حوله.
عندما حاول كيتير الخروج فجأة، شعر جاك بأنه بحاجة لافتعال أمر ليؤخره.
قال جاك: "سيدي، ألا تظن أنه من الأفضل أن تبدأ بحمام وتغيير الملابس؟ سيتقبلك الناس بشكل أفضل إن أظهرت وقار النبلاء."
كانت حجة مقنعة ومعقولة... لكنها لم تكن كافية لإيقاف كيتير.
"مظهرٌ جيد؟ لا تُضحكني. كيف سيفكرون بإيجابية في لقيط مثلي؟"
شعر جاك بالدوار من تلك الكلمات الصريحة والفجّة.