الفصل 1: سمفونية الدماء والجنون

"اخرج. رائحة فشلك تزكم أنفي."

لم يكن المدير بحاجة للصراخ لكي يمزقني. كانت نبرة صوته الهادئة، الباردة، والمشبعة بقرف لا حدود له، كافية لسلخ جلدي وأنا حي.

رمى بملفي الأصفر على الأرضية المصقولة، فتناثرت الأوراق وتطايرت في الهواء كجثة طائر ممزقة، تهبط ببطء لتعلن نهاية سنوات من العبودية الصامتة.

نظر إليّ من وراء نظارته الطبية السميكة، وعيناه تلمعان باحتقار لم يكلف نفسه عناء إخفائه.

"جيمس، أنت مجرد جثة تمشي على قدمين في هذه الشركة. لم تضف شيئًا، ولن تترك فراغًا. انتهى أمرك. اغرب عن وجهي قبل أن أستدعي الأمن لرميك كالقمامة."

لم أجب. ماذا عساي أن أقول؟ الكلمات ماتت في حلقي واختنقت بحبال صوتي منذ زمن طويل. كنت مجرد ترس صدئ في آلة ضخمة قررت أخيرًا استبداله.

انحنيت ببطء، ركبتي تطقطق من التوتر، لألملم أوراقي المبعثرة تحت نظرات زملائي. كانوا يراقبون بصمت، بعضهم يشيح بوجهه تظاهرًا بالعمل، والبعض الآخر يبتسم بشماتة واضحة. شعرت بأنظارهم تلسع ظهري كالسياط الملتهبة، تحرق ما تبقى من كرامتي.

وضعت الأوراق في صندوق كرتوني مهترئ، وحملته بين يديّ المرتعشتين.

خرجت من المكتب، ومشيت في الممر الطويل للمرة الأخيرة. صوت خطواتي كان يتردد كثقل جنائزي. عبرت البوابة الدوارة للمبنى الزجاجي الشاهق وخرجت إلى الشارع.

استقبلتني المدينة بوجهها الحقيقي. كانت السماء تبكي مطرًا أسود، غزيرًا وباردًا، وكأنها قررت أن تشاركني القذارة التي أشعر بها، أو ربما كانت تحاول غسلي من ذنوب لم أقترفها.

السيارات تمر مسرعة، تنثر المياه القذرة على الرصيف، وأبواقها تعزف موسيقى الفوضى.

نظرت إلى الصندوق بين يدي. سنوات من الجهد، السهر، والتملق... كلها مختزلة في هذا الصندوق اللعين.

لم أتوجه لحاوية القمامة لأرمي الصندوق بهدوء؛ بل تملكني غضب مفاجئ. صرخت صرخة مكتومة ورميته بقوة هائلة على الرصيف المبلل.

تناثرت الأوراق في برك الطين. وبحركة هستيرية، بدأت أدوس عليها بقدمي. سحقت الوثائق، الشهادات، الصور التذكارية السخيفة...

سحقتها حتى اختلط الحبر بطين الشارع والوحل الأسود، وتحولت ذكرياتي المهنية إلى عجينة قذرة تحت حذائي الممزق.

"تبًا لكم جميعًا... ليحترق هذا العالم!"

كانت معدتي تتقلص من الجوع، تلتوي كأفعى تعصر أحشائي، وجيبي يصرخ بالفراغ والفقر. بدأت رحلة العودة إلى شقتي، ذلك القبر الضيق الذي أسميه منزلًا.

كنت أمشي تحت المطر بلا مظلة، المياه تتسرب إلى عظامي، لكنني لم أشعر بالبرد. النار التي كانت تبدأ بالاشتعال في صدري كانت كفيلة بتدفئة مدينة بأكملها.

وصلت إلى المبنى السكني المتهالك. صعدت السلالم التي تفوح منها رائحة البول والقطط الميتة.

فتحت باب شقتي، فاستقبلتني الرطوبة التي تنخر في الجدران، والعفن الذي يرسم خرائط البؤس في الزوايا كلوحات فنية شيطانية.

رميت جسدي المبلل على الأرضية الخشبية المتآكلة في منتصف الغرفة الفارغة تقريبًا.

مددت يدي نحو الزاوية، وسحبت زجاجة رخيصة من الكحول الحارق، وفتحتها بأسلاني.

جرعتها دفعة واحدة، سائل لادع كوى حلقي وجوفي، لكنه كان المخدر الوحيد المتاح لنسيان هذا الواقع البائس.

وفجأة، اهتز هاتفي في جيبي المبلل. أخرجته ببطء. الضوء الساطع للشاشة آلم عينيّ في ظلام الغرفة.

الاسم على الشاشة: إميلي.

تسارع نبض قلبي. إميلي... النقطة المضيئة الوحيدة في هذا النفق المظلم. ربما تتصل لتواسيني؟

ربما شعرت بألمي؟

ضغطت على زر الرد، يدي ترتجف كمدمن في مرحلة الانسحاب، وصوتي يخرج مهتزًا ضعيفًا:

"إميلي؟ حبيبتي... أنا..."

قاطعتني فورًا.

لم يكن صوتها دافئًا كما عهدته. كان صوتها حادًا، قاطعًا، كشفرة حلاقة باردة تمرر على الجلد ببطء:

"لا تتحدث. فقط اسمع يا جيمس. ليس لدي وقت لترهاتك."

تجمدت الكلمات في فمي.

تابعت هي بنبرة خالية من أي مشاعر إنسانية: "جيمس، أنا سئمت. سئمت من انتظار جثة لتعود للحياة. أنت فقير، بائس، فاشل، وتجرني معك إلى القاع. انظر لنفسك... أين مستقبلك؟ أين طموحك؟"

"لكنني أحبك... وسأجد عملاً آخر..." خرج صوتي مبحوحًا، مثيرًا للشفقة حتى لنفسي.

ضحكت. ضحكة قصيرة، جافة، وساخرة. كانت أسوأ من الصفعات. "الحب لا يشتري الطعام يا جيمس. الحب لا يدفع الإيجار. لقد استيقظت أخيرًا. لقد وجدت رجلاً حقيقياً. سأتزوج ديفيد الشهر القادم. لا تتصل بي مجدداً، رقمك محظور."

انقطع الخط. صمت مطبق عاد ليحتل الغرفة. تحول الهاتف في يدي إلى حجر ثقيل، أثقل من جبال الأرض. حدقت في الشاشة السوداء التي تعكس وجهي الشاحب.

"ديفيد؟ ذلك الوغد الثري..."

صرخت صرخة حيوانية، صرخة قهر مزقت هدوء الشقة، وقذفت الهاتف بكل قوتي نحو الجدار المقابل.

تحطم!

تناثرت الشظايا البلاستيكية والزجاجية في كل مكان، تمامًا كما تناثر قلبي.

"خائنة... كلكم خونة! عاهرات! حثالة!"

بدأت الدماء تغلي في عروقي، وعينيّ تحولتا إلى جمرتين.

شعرت بصداع يضرب رأسي كمطرقة حديدية. ولكن القدر... القدر السادي لم ينتهِ مني بعد.

كان يجهز لي الضربة القاضية.

رن الهاتف الأرضي القديم المعلق في الممر.

ذلك الهاتف المغبر الذي لا يرن إلا للمصائب والديون. صوته كان مزعجًا، عاليًا، كجرس إنذار في غارة جوية.

زحفت نحوه على أطرافي الأربعة، كوحش جريح. رفعت السماعة، وأنفاسي تتلاحق.

"من؟" سألت بشراسة، مستعدًا لشتم أي شخص على الطرف الآخر.

جاءني صوت رجل غريب، رسمي، وجاد جدًا. "سيد جيمس روهان؟ معك ضابط الشرطة ماركوس من القسم الخامس. نأسف لإبلاغك بهذا الخبر..."

توقف قلبي عن النبض لثانية. شعرت ببرودة تسري من أطراف أصابعي إلى نخاعي الشوكي. "والدتي... هيلين؟" همست بالاسم.

"نعم. والدتك، هيلين روهان..."

"ماذا بها؟ تكلم!" صرخت في السماعة، لعابي يتطاير.

تنهد الشرطي بأسف مهني بارد: "شاحنة بضائع فقدت السيطرة عند التقاطع السابع. دهستها على الرصيف. الأمر حدث بسرعة... الجثة... نأسف يا سيدي، لم يتبقَ منها الكثير لتتعرف عليه، لكننا وجدنا بطاقتها. عليك الحضور للمشرحة فورًا للتعرف على ما تبقى منها."

سقطت السماعة من يدي، تتدلى وتتأرجح وتصدر صوتًا رتيبًا. لم أسقط هذه المرة. لم أبكِ. شيء ما انكسر بداخلي.

سمعته بوضوح. لم يكن صوت تحطم قلب، بل صوت تحطم عقل. كان صوت وتر مشدود انقطع فجأة.

"أمي..."

خرجتُ من الشقة كالمهووس. لم أنتظر المصعد المعطل. قفزت عبر السلالم، أتعثر وأقوم، أتعثر وأقوم. خرجت إلى الشارع، وبدأت أركض.

لم يكن ركضًا عاديًا. كان هروبًا من الواقع. المطر يضرب وجهي كالحصى. الملابس تلتصق بجسدي وتعيق حركتي، لكنني لم أهتم. ركضت وسط الشارع، السيارات تطلق أبواقها، السائقون يصرخون ويشتمون، الأضواء تعميني.

"ابتعد أيها المجنون!" صرخ سائق تاكسي كاد يدهسني.

لم ألتفت. واصلت الركض. أنفاسي كانت تحرق صدري كالنار، رئتاي تستغيثان، وعضلات ساقي تتمزق من الإجهاد، لكنني دفعت جسدي إلى ما وراء حدوده.

كنت أسمع صوت ارتطام قدمي بالأسفلت المبلل يمتزج بصوت دقات قلبي في أذني...

دوم... دوم... دوم...

"لا يمكن... لا يمكن... إنها كذبة... كلها كذبة..."

كنت أتمتم بكلمات غير مفهومة، والمارة ينظرون إليّ برعب. رجل بملابس ممزقة، مبلل، عيناه حمراوان، يركض كشيطان يلاحقه الجحيم.

تعثرت في حفرة مليئة بالطين، سقطت على وجهي بقوة، وتذوقت طعم التراب والدم في فمي. نهضت فورًا، لم أمسح الدم عن وجهي، وأكملت الركض.

المسافة للمستشفى كانت بعيدة، لكنني قطعتها في زمن قياسي، مدفوعًا بالأدرينالين والجنون.

وصلت إلى بوابة المستشفى، اقتحمتها وأنا الهث بصوت مسموع، صدري يعلو ويهبط بعنف. تجاهلت موظف الاستقبال، تجاهلت الممرضات، ركضت عبر الممرات البيضاء الطويلة.

"أين المشرحة؟! أين هي؟!" صرخت بصوت جعل المرضى يرتعدون.

أمسك بي رجلا أمن، حاولت مقاومتهم، حاولت عض أحدهم، لكن قواي كانت قد خارت. "سيدي! اهدأ! أخبرنا من تريد!"

"أمي... هيلين... المشرحة..."

قادوني، أو بالأحرى سحبوني، نحو الطابق السفلي. كلما نزلنا، كانت البرودة تزداد، ورائحة الموت تصبح أقوى.

رائحة مميزة، خليط من المعقمات القوية، الفورمالين، واللحم البارد الفاسد.

وقفنا أمام باب معدني ثقيل. خرج طبيب يرتدي وزرة بيضاء ملطخة ببعض البقع الحمراء الصغيرة.

"أنت ابن هيلين؟"

أومأت برأسي، عاجزًا عن الكلام.

"تفضل... لكنني أحذرك. المشهد ليس سهلاً."

دخلت الغرفة. الجدران مبلطة بالسيراميك الأبيض البارد. طاولات معدنية مصطفة، وعليها أغطية بيضاء تغطي أشكالاً بشرية. سار الطبيب نحو طاولة في الزاوية.

وضعت يدي على فمي لمنع نفسي من التقيؤ، ليس من الرائحة، بل من الخوف. أمسك الطبيب طرف الغطاء الأبيض.

"هل أنت مستعد؟"

لم أكن مستعدًا. لن أكون مستعدًا أبدًا. لكنني هززت رأسي.

سحب الطبيب الغطاء. توقف الزمن. وتلاشى الكون.

ما رأيته لم يكن أمي. لم يكن البشر الذي أعرفه. كانت... كومة. كومة من اللحم المفروم، العظام المهشمة التي تبرز من الجلد الممزق بلون أبيض مصفر، والأحشاء المختلطة بالدماء المتجلطة السوداء. الرأس... يا إلهي، الرأس.

نصف الجمجمة كان مسحوقًا تمامًا، العين اليسرى مفقودة، والوجه الذي كان يبتسم لي كل صباح تحول إلى قناع من الرعب.

هذه المرأة التي ضحت بحياتها لأجلي، انتهت كبقايا لحم على طاولة باردة.

"هل هذا كل شيء؟" سألت الطبيب ببرود جعل القشعريرة تسري في جسده. "سيدي... أنا آسف..."

غادرت دون كلمة أخرى.

عدت إلى شقتي. الظلام كان دامسًا، لكنني كنت أرى بوضوح. كل شيء كان أحمر في عيني.

دخلت المطبخ. فتحت الدرج ببطء. أخرجت سكين اللحم الكبير. نصلها عريض، حاد، ولامع. تأملت انعكاس وجهي على النصل. لم أكن أشبه جيمس القديم. كنت أبدو كشيطان يبتسم.

"لا وظيفة. لا حب. لا أم. لا حياة."

خلعت قميصي، وتركت جسدي النحيل عرضة للهواء البارد. وقفت أمام مرآة الحمام المكسورة.

"حان وقت العرض الأخير."

رفعت السكين. لم تكن يدي ترتجف هذه المرة. كانت ثابتة كالفولاذ. وضعت النصل البارد الحاد مباشرة على الشريان السباتي في عنقي. ضغطت قليلاً، فسال خيط رفيع من الدم القرمزي على صدري.

"وداعًا، أيها العالم القذر."

وبحركة وحشية وقوية، سحبت السكين بقوة عبر عنقي من الأذن إلى الأذن.

تــشــخ!

صوت تمزق اللحم كان عاليًا في صمت الغرفة. انفجرت نافورة من الدماء الساخنة، صبغت المرآة، الحوض، والجدران باللون الأحمر القاني.

شعرت بحرارة الدماء تغطي صدري وبطني. ترنحت، محاولاً التنفس، لكن الهواء كان يخرج من الفتحة الواسعة في عنقي مصحوبًا بصوت قرقرة مرعب ومقزز.

سقطت على ركبتي، والدم يندفع مني كالشلال، يشكل بركة لزجة تتوسع حولي بسرعة. غرزت أصابعي في جرح عنقي المفتوح، ليس لمحاولة إيقاف النزيف، بل لأشعر بدفء حياتي وهي تهرب مني.

بدأت الرؤية تتلاشى وتتحول إلى سواد، لكنني... كنت أبتسم. ابتسامة واسعة، مجنونة، وملطخة بالدماء.

سقط جسدي بالكامل في بركة الدماء، وعيناي شاخصتان نحو السقف، والسكين ما زالت في يدي. آخر ما سمعته كان صوت دمي يقطر على الأرض... قطرة... تلو الأخرى.

مات جيمس، غارقاً في دمائه، تاركاً خلفه لوحة فنية من اليأس القرمزي.

2025/12/08 · 145 مشاهدة · 1521 كلمة
Moncef_
نادي الروايات - 2025