الفصل 2: لن تنال السلام أبدا يا جيمس

في غرفةٍ حجريةٍ باردة، استيقظ جيمس ليجد نفسه محاصراً بين جدرانٍ صامتة وسريرٍ وحيدٍ متوسط الحجم. انتفض واقفاً، وعيناه تشتعل بالكراهية والضياع. لم يكن يدرك أين هو، ولا كيف وصل إلى هذا المكان المظلم.

عندما بدأت ذكريات موت أمه الغالية تطوف في ذهنه، تلاها طعنة خيانة حبيبته، انهار جسده المثقل بالألم. هوى على ركبتيه ودفن وجهه بين يديه، لتجتاحه نوبةٌ هستيرية من البكاء المرير.

بكى بحرقةٍ لم يعرفها من قبل؛ كانت الدموع تتدفق من عينيه كالمطر الغزير في عاصفةٍ هوجاء. خصلات شعره الأبيض كانت منسدلةً على صدره العاري، مما أضاف للمشهد كآبةً وحزناً عميقاً.

استمر جيمس على هذه الحال لفترةٍ لا يعلم طولها، يمزقه شعورٌ عارم بالندم. كان الألم الأكبر الذي يثقل كاهله هو تركه لوالدته دون دفنٍ لائق.

لقد هرب من واقعٍ مرير لم يستطع مواجهته بعد كل تلك السنين من المعاناة؛ أن يستسلم في النهاية، كان هذا هو العبء الذي لم يستطع تحمله،

نهض جيمس عن الأرض كجثةٍ خرجت لتوها من قبرها، جسده يتمايل بلا اتزان يكاد يسقط من جديد. لكن مع نهوضه المتعثر، اخترق صراخٌ حاد وموجع سكون الغرفة، أمسك رأسه بكلتا يديه بقوة هستيرية، وكأن صاعقةً هوجاء ضربته في الصميم.

كميات هائلة ومروعة من الذكريات اجتاحت عقله دفعة واحدة كفيضانٍ جارف، لكن الغريب والمخيف أنها لم تكن ذكرياته هو.

لم يستطع التعامل معها أو استيعابها؛ صور ومشاهد غريبة تتلاحق بلا رابط.

الألم الذي لا يُطاق جعله يصرخ مجدداً، ثم سقط على الأرض بعنف شديد، ارتطمت ركبتاه بالأرضية الحجرية القاسية.

وقبل أن يغلق عينيه المستنزفتين ويفقد وعيه، انفتح باب الغرفة فجأةً وبسرعة جنونية.

هرعت فتاة شابة نحوه وهي تصرخ باسمه بذعر، لكن جيمس لم يستطع تحمل ثقل الألم الغريب أكثر من ذلك، استسلم للظلام وأغلق عينيه على صوت صرخاتها المتلهفة.

كان جيمس ضائعاً بشكل مرعب؛ لم يكن يعرف أين هو الآن تحديداً. الشيء الوحيد الذي كان متأكداً منه هو أنه قد ذبح نفسه بيديه، فلماذا إذن هو هنا؟ ماذا يفعل في هذه الغرفة الحجرية؟ ومن تكون تلك الفتاة التي تصرخ باسمه؟

العديد من الأسئلة المنطقية اجتاحت عقله "الميت" المفزوع.

حتى الذكريات الغريبة التي داهمته قبل قليل لم يستطع استيعابها؛ كانت مشاهد غير متزنة ومبتورة، كأجزاء من أحجية مفقودة.

بدأ جسده يشعر بغرابة، كأنه غير مكتمل أو ليس ملكه تماماً.

فجأة، ومضت حقيقة مرعبة في ذهنه: لقد فهم شيئاً واحداً مؤكداً. إنه لم يمت، بل انتقل إلى جسد شخص آخر.

لقد أصبح سجيناً في هوية غريبة عنه تماماً.

أراد جيمس بشدة أن يصدق هذا الأمر الجديد، أن يصدق حقيقة انتقاله إلى جسدٍ آخر، لكن في الوقت ذاته، كان يرفض الفكرة تماماً.

هو لم يكن يريد أن يعيش أصلاً؛ لقد ذبح نفسه بيديه تحديداً لأنه لم يعد يطيق البقاء في هذا الكون المقرف.

دخل جيمس في دوامةٍ لا نهاية لها من المشاعر المتضاربة؛ مزيجٍ خانق من الحزن والكآبة والرعب.

كانت الكراهية هي القاسم المشترك بينها: كراهية الذات، كراهية الحياة بأسرها، وكراهية النفس التي لم تجد الخلاص حتى في الموت.

راح يتمتم بكلماتٍ متقطعة، يسأل السماء أو الفراغ المحيط به ببؤس: "الموت... الموت... الموت... لماذا لا تريدني؟ لماذا ترفض منحي السلام؟" كان جسده الجديد يرتعش تحت وطأة هذا العذاب الوجودي الذي لا يرحم.

ولكن جيمس كان في مكانٍ مظلمٍ وصامت، لم يسمعه أحد.

كان يسأل نفسه بصوتٍ خافت، شاعراً بسخافة الموقف برمته؛ سخافة أن يكون حياً رغم أنفه، وسخافة أن يسأل الموت الذي هرب منه إلى جسد غريب ومجهول.

"جيمس!"

سمع جيمس صوت الشابة التي كانت تركض نحوه قبل لحظات من أن يغشى عليه.

لم يختفِ الصوت تماماً، بل بدأ يصل إليه كأنه قادم من نفقٍ طويل ومظلم لا نهاية له، صدىً بعيد ومشوّش بالكاد يمكن التقاطه.

كان فاقداً للقدرة على الحركة، لا يستطيع الرد عليها، ولا يستطيع فعل أي شيء على الإطلاق؛ جسده الجديد كان مشلولاً تماماً.

وحده حاسة سمعه بقيت متيقظة ونشطة في خضم هذا الفراغ المطبق، لتلتقط نداءاتها المتكررة التي تلاشت في النهاية مع غرقانه التام في الظلام.

"جيمس! أرجوك، أرجوك استيقظ! لا تتركني وحدي يا جيمس!"

ببدأت المرأة تصرخ بجزع، قلبها يضرب بشدة كطبل حرب، ودموعها تتساقط بحرقة وهي تضع رأسها فوق يد جيمس التي لم يعد يحرك منها ساكناً.

اقترب طفل صغير يمسك طرف فستانها بتوتر، وعيناه البريئتان مليئتان بالخوف والأسئلة: "أمي، هل أبي ميت؟ هل سيستيقظ؟ هل أصيب في رأسه عندما وقع على الأرض؟ لماذا تبكين يا أمي؟"

حاولت الفتاة الشابة التقاط أنفاسها وهي تنظر إليه، لكن الطفل أكمل جملته والدموع تتساقط من عينيه الصغيرتين وهو يرى أمه تبكي بحرقة وأبوه مغشياً عليه في الفراش: "أمي، لماذا تبكين؟ هل أبي..."

قاطعته وهي تحتضنه بقوة وحنان شديدين، محاولةً طمأنته رغم خوفها هي: "لا يا بني، أبوك سيستيقظ، لا تبكِ يا عزيزي". همست وهي تمسح دموعهما المتشابكة بيدٍ مرتعشة.

كان الجو في الغرفة مشبعاً بالحزن والكآبة والخوف والتوتر، هالة سوداء من اليأس خيمت على المكان وكثافة الدموع كادت تخنق الأنفاس.

وفي خضم هذا المشهد القاسي، كان جيمس يسمع كل شيء بوضوح تام من خلف حجاب الغيبوبة.

كان يريد أن يرد، أن يطمئنهم بكلمة واحدة، لكنه لم يستطع. أراد أن يصرخ: "أنا هنا!" ولكنه كان عاجزاً تماماً.

ورغم جهله التام بهوية هؤلاء الأشخاص، فقد أحس بحزنٍ عميق يمزق قلبه.

هل كان هذا الشعور نابعاً من إنسانيته المجردة، أم أنه صدى لمشاعر صاحب الجسد الأصلي الذي يكن لهم محبة شديدة؟

كلما سمع بكاءهم يزداد، شعر بجزءٍ من قلبه يتقطع ألماً. كان يصرخ في نفسه بأقوى ما لديه، يبذل كل طاقته الداخلية ليحرك إصبعاً واحداً، ولكن لا شيء يجدي.

فقط الظلام المطبق، وعدم القدرة على فعل شيء، كانا رفيقيه الوحيدين في هذا الظلام.

حاول جيمس تحريك يده بكل ما أوتي من قوةٍ كامنة. المرة الأولى، الثانية، الثالثة، العاشرة... لا شيء يحدث، جسده الجديد مازال متجمداً وخاملاً. لم ييأس، بل حشد كل إرادته المتبقية في محاولة يائسة أخيرة.

2025/12/08 · 102 مشاهدة · 906 كلمة
Moncef_
نادي الروايات - 2025