عندما سمع دانيال شتاينر بإعلان استسلام دولباف، أنكره في البداية. قال إن ذلك قد يكون خدعة تكتيكية من قوات الدفاع المعادية، فلا ينبغي أخذ المعنى على ظاهره.
أصر دانيال شتاينر على وجوب الحذر من دولباف حتى النهاية، وأصدر أوامره لاستدعاء سرية الاستطلاع لتأمين نقاط الدخول الرئيسية إلى المدينة وتثبيت الإجراءات الأمنية.
نفذت سرية الاستطلاع الأوامر، وأبلغت دانيال أنه لا توجد أفخاخ داخل المدينة.
نعم. لم تكن تلك خدعة. لقد رفع دولباف الراية البيضاء فعلاً أمام لواء دانيال شتاينر.
وبعد أن تأكد دانيال من صدق استسلام دولباف، دخل المدينة برفقة لوائه، متجهاً نحو مقر القيادة وسط نظرات المواطنين الباردة.
توقفت العربة المدرعة التي كان يستقلها دانيال أمام مقر القيادة، محاطة بمركبات اللواء من الأمام والخلف.
نزل دانيال من العربة، رتب هندامه، ودخل مبنى القيادة برفقة لوسي وسرية من نخبة الجنود.
كان هناك ضباط من قوات الدفاع يرتدون زي قوات الحلفاء، لكن لم يجرؤ أحد منهم على اعتراض دانيال شتاينر، بل كل ما فعلوه هو إحناء رؤوسهم بصمت.
نظر إليهم دانيال بازدراء، ثم واصل السير حتى بلغ غرفة القيادة والتحكم.
"افتحوا الباب."
ومع الأمر، ركل الجنود الباب بأقدامهم الثقيلة.
دوّى صوت الباب وهو يُفتح بعنف. ومن خلال الباب، بانت رؤوس المنحنين من الضباط والمستشارين، وعلى رأسهم دولباف وهو يعض على شفتيه.
قبل أن يصدر دانيال أي أوامر، دخل الجنود إلى غرفة القيادة بشكل منظم، ووجهوا بنادقهم نحو الضباط.
كان ذلك لردعهم و لمنع أي محاولة للمراوغة أو الخيانة.
تفحّص دانيال الغرفة بعينيه، ثم بدأ يتقدم بخطى بطيئة.
تردد صدى خطواته في الغرفة، ومع كل صوت، كانت أكتاف ضباط قوات الدفاع ترتجف.
وسط هؤلاء الذين لم يجرؤوا على رفع رؤوسهم خوفًا، كان دولباف الوحيد الذي يحدق في دانيال بتعبير صارم.
وقف دانيال أمام المنصة، متلقياً نظرات دولباف، ثم تحدث:
"العقيد دولباف."
ضاقت عينا دانيال شتاينر.
"هذا غير متوقع. كنت أظنك ستصر على القتال حتى الموت."
رغم أنه كان يريد أن يسأل مباشرةً عن سبب الاستسلام، إلا أنه حاول التلميح فقط، حرصًا على نظرات من حوله.
لكن من وجهة نظر دولباف، بدا الأمر وكأنه سخرية.
"تتحدث وكأن لي خياراً. لو كنت قد طالبت بالقتال حتى النهاية، ألم تكن لتحرق هذه المدينة؟ أيها الشيطان الحقير…!"
صمت دانيال.
لم يكن يعرف كيف يجيب.
كانت تلك إساءة فهم واضحة، لكنه لم يستطع قول الحقيقة.
فجنود الإمبراطورية يملؤون المكان، ولن يكون مناسباً كشف كل شيء.
وحتى لو قال الحقيقة، لن يصدقه دولباف.
طالت لحظة الصمت، وبدأ العرق البارد يتصبب من جبين دولباف.
لقد شعر بهيبة في نظرات دانيال الباردة.
استشعر من عينيه شيئًا مرعبًا، ففتح فمه وتحدث:
"تبدو غير راضٍ عن استسلامنا. هل كنت تنوي فعلًا إحراق المدينة؟ دانيال شتاينر… هل أنت حقًا إنسان مثلي؟"
تمادى في سوء الفهم، وتفسيره الخاطئ جعل الأمر أكثر إزعاجًا.
نظر إليه دانيال بازدراء، كما لو أنه لم يعد يحتمل المزيد.
"هل هذا كل ما لديك من أعذار، أيها المهزوم؟"
اتسعت عينا دولباف.
ورغم أن الغضب كان يملأ عينيه، إلا أنه كبح رغبته في مهاجمة دانيال، مُدركًا أن اليد العليا الآن لدانيال شتاينر.
وحين تأكد دانيال من صمت دولباف، التفت إلى لوسي:
"نائبتي، أبلغي أنه بعد تأمين قائد العدو، يجب فرض حصار شامل على المدينة والسيطرة على المنشآت الحيوية. كما يجب إجراء تفتيش شامل تحسباً لوجود مجموعات مقاومة داخلية لا تعترف بالاستسلام."
أومأت لوسي برأسها.
"أمرك. وماذا عن مصير القائد والضباط هنا؟"
"أولويتنا الآن هي توثيق شروط ونطاق الاستسلام، لذا سيتم احتجازهم مؤقتًا في هذا المكان."
"سأنقل التعليمات حالاً."
أجابت باحترام ثم غادرت غرفة القيادة.
بينما كانت البنادق لا تزال مصوبة نحوهم، نظر دانيال نحو دولباف:
"العقيد دولباف. سيصل إلينا قريبًا وثيقة الاستسلام الرسمية. من الأفضل أن تتعاون طواعية."
ثم استدار وغادر غرفة القيادة.
وحين بدأت خطواته تبتعد، همس أحد الضباط في الغرفة:
"مؤسف حقًا…"
كان المتحدث هو دولباف.
"دانيال شتاينر… أنا أُشفق عليك من كل قلبي. أعرف أمثالك جيدًا… أولئك الذين لا يجدون معنى لحياتهم إلا في الحرب."
خيم الصمت على الغرفة، وتردد صوت همسات دولباف المليئة بالأسى.
"أريد أن أعرف… لماذا تكره السلام إلى هذا الحد؟ ما الذي حدث لك في الماضي، لتصبح مهووسًا بالحرب إلى هذه الدرجة؟"
كان كلامه كفيلًا بأن يصيب دانيال بالغصة لو سمعه، لكنه لم يكن موجودًا، وكل من في الغرفة وافق دولباف في قرارة نفسه.
"قائد اللواء يحب الحرب… لا شك في ذلك."
"ألم يُلقِ خطاب التعبئة الشاملة بنفسه؟"
"سمعت أنه يتيم… هل فقد والديه على يد قوات الحلفاء؟"
حتى الجنود كانوا يفكرون بذلك.
*
في الوقت ذاته، في مقر القيادة العليا — قاعة اجتماعات العمليات بإشراف رئيس هيئة الأركان العامة.
"صحيح أن تقدم الجمهورية شرس، لكن ليس لدرجة لا يمكن صدها. نفذت الفرقة الثانية عشرة انسحابًا تكتيكيًا من الخط الدفاعي الأول مسافة 6 كيلومترات جنوبًا، لكنها أعادت تنظيم صفوفها، وشنت هجومًا مضادًا واستعادت موقعها في الساعة التاسعة صباح اليوم."
استمع رئيس الأركان أَرمان إلى التقرير، وسرح في تفكيره للحظة.
وبينما كان يتصفح المستندات أمامه، التفت إلى ضابط الاستخبارات:
"سمعت أن الجمهورية تستخدم مدافع ميدان جديدة، هل تأكدتم من قدراتها؟"
"نعم. تبيّن أنها مدافع ميدان من العيار المتوسط قابلة للجرّ، وليست ذات أداء مرتفع. في الواقع، هي أضعف من المدافع القياسية التي نستخدمها. لكن الخطر يكمن في الكمية الكبيرة التي يعتمدون عليها وتكرار القصف المكثف."
هز أَرمان رأسه بارتياح.
"رغم أن الوضع غير مريح، إلا أننا ننجح في صد هجمات العدو دون خسائر كبيرة. بما أن الأعداء يميلون لاستخدام قواهم في المراحل الأولى من الحرب، يبدو أننا قادرون على صد غزو الجمهورية."
كانت معرفته المبكرة بتدخل الجمهورية هي ما جعله يعيد توزيع القوات على الجبهة، وتمكن من منع الانهيار.
"لكن المشكلة الآن هي باقي دول التحالف."
رغم أنهم لا يتحركون حاليًا، إلا أنهم لو قرروا التدخل، فالإمبراطورية ستصبح في وضع أشبه بعود ثقاب في مهب الريح.
"لهذا السبب، كما قال دانيال شتاينر…"
يجب على الإمبراطورية أن تُظهر للعالم أنها ما زالت قوية، لردع توسّع رقعة الحرب.
"إن فهمت الدول الأخرى ضعفنا، سيتكالبون علينا."
أفضل وسيلة الآن هي استعراض قوة الإمبراطورية.
"إن تمكن دانيال شتاينر من احتلال بنبارك، فسيكون ذلك إيذانًا بكبح توسع الحرب."
رغم شعوره بالذنب لتكليفه الضابط الشاب بمهمة بهذه الضخامة، إلا أن الأوضاع لا تسمح بترف الاختيار.
فالضباط الأكفاء يجب استخدامهم في الخطوط الأمامية.
طرق طارق الباب.
وبينما كان أَرمان مستغرقًا في التفكير بشأن بنبارك، دخل ضابط اتصال من شعبة الاستخبارات.
"سيدي رئيس هيئة الأركان! أنا ضابط الاتصال من شعبة الاستخبارات! لديّ أمر عاجل لأطلعكم عليه!"
"أدخل."
فتح الباب، ودخل الضابط، متوترًا تحت أنظار رئيس الأركان وكبار الضباط، لكنه سرعان ما استجمع رباطة جأشه وأدى التحية.
ردّ أَرمان التحية، فقال الضابط بصوت مرتجف:
"أعتذر لمقاطعة الاجتماع! لكن الأمر يتعلق باللواء دانيال شتاينر."
لم يكن بحاجة للاعتذار.
فأَرمان نفسه أمر بأن تكون تقارير احتلال بنبارك أولوية قصوى.
"هل يتعلق الأمر بطلب دعم من اللواء دانيال شتاينر؟"
ربما العدو يحاول كسب الوقت بانتظار التعزيزات. حتى دانيال شتاينر لن يستطيع تجاوز ذلك بسهولة.
لكن الجواب كان مفاجئًا:
"كلا، سيدي! حسب المعلومات الواردة للتو، تمكن اللواء دانيال شتاينر من احتلال بنبارك! أتيت لأبلغكم بذلك بنفسي!"
عجز أَرمان عن الرد من شدة الصدمة.
"احتلال بنبارك…؟"
كان كبار الضباط يحدقون أيضًا في الضابط غير مصدقين.
فقد توقع الجميع أن احتلال بنبارك سيتطلب شهرًا على الأقل، لكن دانيال شتاينر أنجزه في أقل من أسبوعين.
بعد لحظة صمت، قال أَرمان:
"إنه لخبر مفرح حقًا. كم عدد الخسائر التي تكبدناها خلال الاشتباك؟"
"حسب التقارير الواردة من اللواء، فقد تكبد العدو—قوات الدفاع—خسائر كارثية تكاد تصل إلى الإبادة على مستوى كتيبتين. أما خسائرنا المقدرة فهي…"
تابع الضابط وكأنه لا يصدق نفسه:
"أربعة شهداء وتسعة جرحى فقط."
سادت القاعة همهمات مفاجئة.
"هذا رقم غير معقول. أليس هذا مبالغة؟"
"حتى لو كان دانيال شتاينر عبقريًا، فهذا كثير…"
"لقد هاجمنا قوة بحجم فوج، وليس دفاعًا بل هجومًا! كيف يكون ذلك ممكناً…؟"
حتى أَرمان، الذي كان عادةً يردع أي تقليل من شأن دانيال، وجد نفسه هذه المرة يشاطرهم الشك.
"أيها الضابط… فقط للتأكد…"
ارتسمت على وجهه ملامح نادرة من الدهشة.
"هل أنت تمزح الآن؟"
بهذا القدر كانت إنجازات دانيال شتاينر صادمة حقًا.