الفصل الأول – "نير ڤيرتون"
كان أول شيء شعرتُ به هو البرد. ليس بردًا اعتياديًا. لا النسمة اللطيفة التي تسللت من نافذة مفتوحة، ولا حتى رياحًا ليلية في شتاء عابر. بل بردًا قادمًا من داخلي. من نخاعي. من شيء في جوهر هذا الجسد نفسه… وكأن العظام هنا قد اعتادت أن تكون مغمورة في الجليد.
فتحتُ عيني ببطء. الظلام. ثم… ضوء خافت.
السقف الذي فوقي لم يكن مألوفًا. نقوش معقّدة، بلون أسود رماديّ، تنتشر كعروق موتى عبر الأحجار المصقولة. كان السقف ينبض بشيء… كأن حجره حي. بارد، لكنه يراقبني.
ارتجفتُ.
ليس من الخوف. بل من الفهم. الفهم العميق بأنني لست في غرفتي. لست في شقتي الصغيرة ذات الجدران القذرة في حيٍّ بالكاد يُذكر على خارطة الأرض. لست على الأرض أصلًا.
لم يكن عليّ أن أطرح الكثير من الأسئلة. عقلي بدأ يتدفق… أسرع مما توقعت.
نير ڤيرتون.
الإبن الوحيد لدوق الظلال.
الفتى المثالي، الغامض، الهادئ، صاحب العين السوداء التي ترى "النية"، والذي يحب بطلة الرواية: آيلا، الفتاة اليتيمة التي تنقلب حولها الدنيا بسبب علاقة حبّها الملعونة معه.
تبًا…
أنا في رواية رومانسية.
…
رحت أتنفس ببطء، أنفاسًا ثقيلة، وكل نفسٍ بدا كأنه يخرج من فم شخص لم يعتد الحياة. الهواء هنا له طعم الحديد. وكأن كل جزيء يحمل أثر دمٍ قديم.
رفعت يدي ببطء… نحيلة، بيضاء، أصابع طويلة، وأظافر نظيفة للغاية. هذه ليست يدي.
هذا ليس جسدي.
لكنني الآن "هو".
نير.
ولم أكن أحتاج وقتًا طويلًا لأفهم أنني لم أكن داخل "قصة حب". كنت داخل شيء مريض، مشوّه، تم تلميعه بزينة رومانسية مقززة لتُخفي جوهره الحقيقي.
رواية الحب هذه؟ كانت غلافًا لقصة أكثر سوادًا بكثير.
لقد قرأتها من قبل. لا… بل سقطتُ فيها.
كانت تلك الرواية التي دفعتني لتحطيم حاسوبي المحمول ذات ليلة من شدّة الاشمئزاز من غبائها. رواية مشهورة وسط جمهور "الفتيات الحالمات"، حيث الحبّ ينتصر على الشر، ونير ڤيرتون، الابن الهادئ، يذوب أمام بساطة "آيلا" ويحوّل قلب أبيه الدموي إلى ملجأ للأطفال.
…نعم. دوق الظلال يتحوّل إلى مربي أيتام.
أكاد أضحك.
لو لم أكن أنا من في جسد نير الآن.
أغمضتُ عيني مجددًا، ببطء… ثم فتحتها.
الضوء الخافت القادم من النافذة الزجاجية الطويلة إلى يساري، كان أشبه بشعاع قمر مصفّى من خلال جمجمة.
المنطقة المحيطة بي صامتة… صمتٌ عميق… لا شيء يتحرك.
هذا الجسد… يحمل شيئًا في داخله.
الذكريات.
بدأت تتسرب إلى عقلي، ببطء، كالحبر الأسود في الماء النقي. ذكريات هذا الطفل… نير.
لم يكن كما تصوروه.
لا "هادئ"، ولا "مثالي"، ولا "نبيل".
بل مراقِب.
مراقِب هادئ، يتظاهر بالهدوء، يخفي نفورًا هائلًا من كل من حوله.
ذكرياته كانت… مرعبة.
في سن السادسة، وقف أمام جثة أحد حُراس القصر، الذي ارتكب خطأً واحدًا: الكذب على الدوق.
نير شاهده يُشنَق في الساحة، وعيناه – السوداوان كعمق بئر – لم ترمش.
في التاسعة، قُدم له طفل عبد، كهدية "للتدريب على القيادة". بعد أسبوع، أعاده مشلولًا.
قال للجميع إنها تجربة.
الكل صدّق. بل هلّلوا له على "عبقريته في التربية".
هل تصدقون أن هذا الطفل كان من المفترض أن يكون "البطل الثانوي الرومانسي"؟
رغبتُ في التقيؤ.
ثم… شيء ما شدّني من الداخل.
لم يكن ألمًا.
بل… صوتًا.
‹النظام تم التفعيل…›
تجمد عقلي.
‹الهوية: نير ڤيرتون›
‹العُمر: 16›
‹السلالة: بشريّ نقي (سلالة نبيلة من عائلة ڤيرتون)›
‹السمة الموروثة: "عين الحقيقة"›
‹الرتبة السحرية: مقيّدة›
‹القدرات الخاصة: [غير مفعل]›
كان هذا نظامًا. نظامًا لم يُذكر في الرواية الأصلية.
أو ربما… كان نير يخفيه.
أغمضتُ عيني للحظة. ليست فقط الرواية رومانسية… بل هناك عناصر لم تُكتب أصلًا.
أو ربما لم تُكتشف قط.
الاحتمالان سيئان.
وقفتُ من السرير ببطء.
حركات الجسد الجديد كانت سلسة… لكنه هشّ بطريقة مرعبة. الجسد نحيل، لكنه مليء بطاقة لم تُفك قيودها بعد.
ارتديت رداءً أسود كان معلقًا إلى جانبي. ثقيل، مرصع بخيوط فضية داكنة، وشعار العائلة: ظل يتلوّى حول نصل أسود.
كان مناسبًا… أكثر مما يجب.
نظرت إلى المرآة القريبة.
الوجه كان وسيمًا. ملامح حادة، بشرة شاحبة، شعر فاحم، وعينان سوداوان تمامًا، دون حدقة.
عينا الشيطان.
لكنني أنا من يسكن هذا الجسد الآن.
أنا… من يقرر المسار.
لست "نير" الهادئ.
ولا "نير" الرومانسي.
أنا… شيء جديد.
لا أحتاج لحب. لا أحتاج لبطلة.
ما أحتاجه هو فهم هذا العالم… معرفة قذارته. وأول شيء يجب أن أفعله:
فهم هذا الأب.
دوق الظلال.
الشخصية التي جعلت جميع قارات هذا العالم تصمت عند اسمه. ليس فقط لأنه قوي… بل لأنه يعلم كل شيء. كل كذبة. كل نية. كل خيانة.
والآن… عليّ أن أقف أمامه، وأقنعه أنني لا زلت "نير".
وإلا، سأُشنق في الساحة كأي خائن.
لكنني لم آتِ من الأرض لأموت هنا.
جئت… لأحرق هذه الرواية الغبية، وأعيد كتابتها من الدم.
ببطء، فتحت باب الغرفة.
صوت فتح الباب وحده، كان كفيلًا بإرسال قشعريرة في عمودي الفقري.
في الخارج… يقف خادم عجوز، منحنٍ، لا يجرؤ على النظر نحوي.
– «صباح الخير، سيدي الشاب.»
صوته مرتجف.
نظرت إليه، وقلت، ببرود مدروس:
– «أين هو والدي؟»
نظر الخادم إلى الأرض، كأن سؤالي كان تهديدًا، ثم همس:
– «في غرفة العرش، كعادته مع الفجر…»
ابتسمتُ ابتسامة صغيرة جدًا… بالكاد تُرى.
غرفة العرش إذًا؟
ليبدأ هذا العرض.
...
...
حسنًا، لقد قرأت هذه الرواية.
لا، لم أفعل ذلك برغبةٍ مني.
بل لأن صديقي، شريكي في الجرائم الأدبية التي نرتكبها كل يوم ضد عقولنا، أصرّ عليّ قائلًا بنظرة حالمة وعينين تلمعان كفتاة في بداية المراهقة:
– "أقسم لك، بعد الفصل 150، الأحداث تبدأ تتحول، وتكتشف أن كل شيء كان مؤامرة! حتى الرومانسية قد كانت جزء من لعبة سحرية ضخمة!"
كدتُ أقتله حينها.
لكنني كنت في مزاج سيئ، وقلت لنفسي: “فليكن، لنخوض في هذه الكارثة.”
ثم سقطتُ...
فصلًا تلو الآخر، أبتلع الجرعة تلو الأخرى من السُمّ الوردي. كلمات مليئة بالقلوب والأنفاس الخجولة والعيون اللامعة، كلها تخدش جلدي كالسكاكين.
نير المثالي.
آيلا البريئة.
اللحظات التي يتقابلان فيها أمام شجرة الكرز...
الأغاني المكتوبة في منتصف الحوارات...
القفزات الزمنية المخصصة فقط لتبيان مقدار الحب الذي نما بينهما...
تبا لك يا “لين”، هذا اسمك، صحيح؟ صديقي الحقير.
مررتُ بـ400 فصل قبل أن أصرخ كمن ابتُلي بمصيبةٍ لا تندمل:
– كفى! هذا ليس عالمي! هذه ليست الرواية التي وعدتني بها!
لكن آنذاك، كان الأوان قد فات.
كنت قد عرفت العالم.
ورأيت شيئًا لم تلاحظه كل تلك القارئات المهووسات بالقبل المسروقة:
العفن.
هذا العالم ليس بريئًا.
الرواية، رغم غلافها الرومانسي، كانت مسمومة من الداخل. كتلة من السحر الأسود، المغالطات السياسية، ومجتمعات الطبقات المنحطة، تختمر تحت السطح… لكن المؤلفة أخفت كل ذلك تحت طبقات من السكر والورود.
أمرٌ عجيب أن الرواية استمرت لـ760 فصلًا، معظمها عن الحب، في حين أن جملة واحدة من دوق الظلال كانت تكفي لإبادة قرية كاملة.
نعم، لقد لاحظت.
دوق الظلال كان موجودًا دومًا في الخلفية، يتحدث كلمات مقتضبة، تظهره كأب بارد، لكنه عادل.
لكنه لم يكن كذلك.
لقد قتل 17 من أقرب مستشاريه في الأشهر الأولى من ظهوره، فقط لأنه "لم يعجبه لون صوتهم"، حسب الرواية.
وهذه العبارة لم تُفسَّر أبدًا.
لكنني فهمتها الآن.
الآن، وأنا أتحرك في أروقة هذا القصر، وأشعر بالحجارة تراقب خطواتي، كما لو أن الأرض نفسها تخشى أن أتعثر في حضرة والدي… فهمت.
هذا ليس قصرًا.
بل ضريح ضخم… لملك لا يموت.
...
غرفة العرش.
لم يكن الدخول إليها أمرًا بسيطًا. الطريق كان بطول رعب الطفولة نفسه.
جناح كامل من الممرات المعتمة، تفوح منها رائحة الخشب المحترق، والمعدن المسقي بالدم. الدروع المعلقة على الجدران لا تُظهر وجوه الفرسان، فقط خوذاتهم الخالية، كأن من يرتديها لا وجه له أصلًا.
الخدم يركضون بصمت، رؤوسهم منخفضة، لا أحد ينظر إليّ. ليس احترامًا… بل خوفًا.
أشعر بذلك في الهواء. اسمي فقط، نير ڤيرتون، يكفي ليُزرع الرعب في قلوبهم.
لكن ليس لأني "محبوب".
بل لأنني ابن ذلك الرجل.
دقات قلبي كانت متزنة… ليس لأنني لا أخاف، بل لأنني أعلم تمامًا ما ينتظرني.
في الرواية الأصلية، لم يُذكر الكثير عن العلاقة بين نير ووالده.
لكن من بين الـ400 فصل التي قرأتها، لم يتحدث نير مع والده وجهًا لوجه سوى مرة واحدة.
مرة واحدة فقط.
وكانت تلك المرة كافية لإعادة تشكيل مجرى القصة بأكملها.
أتذكرها جيدًا.
الفصل 412.
فيه قال نير لآيلا – أثناء لحظة حب حالمة وتحت شجرة الكرز طبعًا – جملة واحدة فقط عن والده:
– "حين تنظرين في عينيه، ترين وجهك مشوّهًا، كأنك رأيت نفسك تموت آلاف المرات."
تخيل، أن تقول هذا عن أبيك، وتعود لاحتساء الشاي تحت ضوء القمر.
...
الآن… أنا أمام الباب.
باب ضخم. أسود كالهاوية. محفور عليه شعار العائلة: نصل مغروس في ظلّ بشريّ ينزف. الباب لا يُفتح باليد.
بل بالسحر.
رفعت يدي.
اليد نفسها، اليد التي لم أعتدها بعد، بدأت ترتجف قليلًا.
لكنني قلتها.
– "نير ڤيرتون، يطلب الدخول."
لحظة صمت.
ثم…
– «ادخل، إن كنت ما تزال تجرؤ على استخدام ذلك الاسم.»
الصوت... لا يشبه البشر.
بل يشبه جدارًا يتكلم. صدى مخنوق في أعماق الأرض.
ثم… انشق الباب.
ببطء… كأن الحجر يصرخ.
دخلت.
...
غرفة العرش لم تكن غرفة.
بل مذبح.
مساحة دائرية هائلة، ترتفع فيها الأعمدة لأعلى كأنها لا تنتهي، وكل واحدة محفور عليها اسم من سقطوا في خدمة هذا المكان.
العروش ليست للجلوس…
بل للهيبة.
والعرش الذي في المنتصف… لم يكن مصنوعًا من الذهب.
بل من العظام.
وعليه... جلس هو.
الدوق ڤاليدور ڤيرتون.
قيل في الرواية إنه أطول من أي رجل، وإن جلوسه يوازي وقوف اثنين.
لكن الحقيقة؟
هو لم يكن "طويلًا".
بل أكبر من أن يُقاس.
جسده مغطى برداء ثقيل كالدخان المتجمد.
وجهه؟ لا يُرى.
عيناه؟ فقط نقطتان من ظلام يحدّقان بك.
عندما نظرت إليه، شعرت بشيء يخترقني.
كأن ذنوبي التي لم أرتكبها بعد، ظهرت أمامه.
قال، بصوته العميق:
– "أي جزء فيك قرر أن تستيقظ اليوم؟"
صمتّ.
ثم تنفستُ ببطء.
قلت:
– "الجزء الذي ما زال يُدعى نير."
ضحك.
ضحكة خافتة… قصيرة… لكنها جعلت أحد الأعمدة يهتز.
– "كذب جميل. لكن لا بأس…"
سكت.
ثم قال:
– "هل ستصبح عدوًا لي، يا نير؟"
لم يسبق أن سأل أبٌ ابنه هذا السؤال، أليس كذلك؟
لكن هذا ليس أبًا.
وهذا الجسد… لم يكن لي.
قلت، وأنا أُثبت نظرتي داخله:
– "ليس بعد."
...
سكون.
الهواء اختفى.
ثم… دوّى صوته كصاعقة.
– "أحسنت."