الفصل الثاني – "ثروة على أنقاض الصمت"

هل ستصبح عدوًا لي، يا نير؟

سؤاله ما يزال يطنّ في أذني، يتردّد كأنه لم يكن صوتًا، بل صدى لطعنات هواء في قلبي.

لكنني لم أتراجع.

نظرت إليه في عينيه، أو ما بدا أنهما عينان. لم أكن متأكدًا. لا أحد يمكنه أن يكون متأكدًا مما يراه حين ينظر إلى هذا الرجل. ليس لأن عينيه مظلمتان، بل لأنك… حين تنظر إليهما، تشعر بأنك تنظر إلى ما تبقّى منك بعد أن تُمحى.

"ليس بعد."

هكذا قلت، بصوتٍ ساكنٍ كجثةٍ ترفض أن تتحلل.

ضحك.

ضحكته لا تُشبه ضحكة البشر.

هي ليست سخرية، وليست فرحًا، وليست تهكّمًا.

بل هي صوت نهاية شيء ما… شيء بداخلك.

– "أحسنت." قالها وكأنه يمنحني وسامًا.

أو حكمًا بالإعدام المؤجل.

لم يتحرك. لم يقل المزيد.

جلس هناك، كتمثال ضخمٌ صنع من قِطع الأرواح. كإله قديم نسيه الناس، لكنه لم ينسَهم.

...

مرت لحظات.

ثم التفت بنظره عني، كأن وجودي لم يعد يستحق حتى الازدراء.

– "انصرف."

مجرد كلمة واحدة.

لكنها كانت أمرًا.

بل طردًا.

كأن وجودي نفسه بدأ يُمحى من هذه الغرفة.

لم يصرخ. لم يرفع يده. لم يستخدم سحرًا.

لكنه طردني.

وطُردت.

...

خرجت.

مشيت على نفس الأرض، لكن خطواتي كانت مختلفة.

قبل قليل، كنت أدخل وأنا أتهيأ للموت أو ما هو أسوأ.

الآن… أنا خارج.

على قيد الحياة.

أوه، هذا لا يعني أنني "آمن".

بل فقط أنني "مُؤجل".

مُؤجل التنفيذ.

...

سرت في الممرات مجددًا. الخدم الذين تجنّبوا نظراتي سابقًا، باتوا ينظرون إلي من زوايا أعينهم، ثم يهربون.

إنهم لا يعرفون ما الذي حدث داخل الغرفة.

لكنهم يعرفون هذا:

نير خرج. ولم يُمحَ.

وهذه سابقة.

في الرواية، أي شخص يُستدعى من قِبل الدوق، يخرج ميتًا، أو مكسورًا، أو أعمى، أو مختلًا.

لكنني خرجت.

بعينين سليمتين.

بعقلٍ ما زال يصرخ، لكنه موجود.

بل بأعصابٍ لا تزال تعمل رغم ما مرّت به.

...

أعود الآن إلى غرفتي.

لم أعتد على جسدي بعد. كل شيء فيه خفيف جدًا.

كأنني روح تحرك لحمًا لا تعرفه.

لكني وصلت.

غرفة نير ڤيرتون.

غرفة ابن الدوق.

يا إلهي...

كنت قد رأيت وصفها في الرواية، لكنها لم تكن سوى بضع جمل سطحية عن "أناقة نير" و"بساطة الأثرياء".

لكن الواقع؟

أنا لا أمشي على سجاد.

بل على قماش منسوج بخيوط فضية نقية.

الجدران مصنوعة من رخام أسود تتخلله عروق من الياقوت الأحمر.

النافذة، فقط نافذة واحدة، لكنها أطول من غرفة نوم كاملة في شقتي القديمة.

أقف عندها، أنظر إلى الخارج…

والعالم تحتي.

المباني تمتد كبحر من الأحجار. الخدم يتحركون كبقع صغيرة.

وفي أعلى كل شيء، قصر الظلال.

وقمة هذا القصر… غرفتي.

غرفة نير.

...

أغمضتُ عيني للحظة، ثم انفجرت ضاحكًا.

ضحكتُ بصوت مرتفع. عالٍ. وقح.

– هههههههييييييييييييييي!

يا إلهي، هذا سخيف!

أنا، الشخص الذي قضى حياته كلها بالكاد يستطيع دفع إيجار شقة متعفنة فوق محل أسماك، أصبح الآن… نير ڤيرتون.

ابن أقوى رجل في العالم.

وريث عائلة تمتلك أراضٍ بحجم قارة، وجيشًا يمكنه إبادة مملكة، ومكتبة تحتوي كتبًا محرّمة من عصور لم تُذكر حتى في التاريخ.

– "ههههيييي… إذا نظرنا للجانب الإيجابي فقط… فأنا غني!"

أعدتُ الجملة بصوتٍ عالٍ، كمن يحاول أن يُقنع نفسه بحقيقة خرافية.

– "غني! ابن دوق! لدي قصر! خدم! سلاحف برونزية كديكور! حتى الوسائد مرصّعة بأحجار كريمة!"

مشيت إلى خزانة الملابس… فتحتها…

وكدت أُغمى علي.

إنها غرفة بحد ذاتها.

كل قطعة فيها تُساوي سيارة.

حتى الأحذية… كل واحد منها موضوع على حامل فردي، وتحته ملصق صغير يوضح نوع الجلد المُستخدم وتاريخ الصنع. بعضها مصنوع من جلد كائنات سحرية نادرة، أحدها مصنوع من "جلد تنين بكر"، مكتوب بجانبه: "قُتل عام 487 بواسطة ڤيرتون الأب".

بجانبه عباءة.

سوداء.

بسيطة في مظهرها… لكنها ثقيلة جدًا.

أمسكت بها. وعندما قرّبتها مني، أحسست بشيء...

نبض.

هي تنبض.

...

لحظة.

هذه ليست عباءة.

إنها درع حيّ.

أعدتها بسرعة إلى مكانها.

...

ثم جلست.

أغمضتُ عيني.

فجأة، صورة صديقي لين مرت في ذهني.

وجهه، حين أخبره أنني أصبحت غنيًا. ابن دوق. داخل رواية رومانسية كان يتغزّل بها!

ضحكت مجددًا.

– "سيموت، أقسم لك. سيموت فورًا!"

وجهه، وهو يسمعني أقول: "آه، نسيت أخبرك، أصبحت نير. نير ڤيرتون."

سيلطم وجهه.

سيصرخ.

سيركض لحذف حسابه من موقع الروايات.

ربما… سيحاول أن يجد طريقة ليلحق بي!

...

لكن سرعان ما تلاشت الضحكة.

وجاء الصمت.

البرد.

تسلّل من جدران الرخام.

تذكرتُ عينا والدي.

تذكرتُ صمته.

طردني، نعم.

لكنه لم يقل شيئًا.

ولا شيء... أكثر رعبًا من الصمت في حضرة ڤيرتون.

...

ثم همستُ لنفسي:

– "لا أحب هذا المكان."

لكنني هنا.

وسأبقى هنا.

سأكون غنيًا، نعم.

لكن سأفتح هذا العالم قطعة… قطعة.

وسأعرف:

لماذا "نير" لم يكن يتحدث عن والده؟

لماذا الرواية كانت تتجاهل الدم الذي على الجدران؟

ولماذا عائلة ڤيرتون لم تُسقط من عليائها قط؟

أنا هنا.

في قلب الرواية.

وأنا لست نير.

لكنني سأجعل هذا الاسم… شيئًا آخر.

...

لم أنم.

أقصد… جسدي نام، لكنه لم يهدأ.

عقلي ظلّ يعمل، يفتّش بين شظايا ذاكرتي، يُقلبها كمن يبحث عن مفتاح سقط في محيط.

أحاول أن أجد ما لم يُكتب.

أُحاول أن أفهم ما لم يُقال.

...

السماء خلف النافذة بدأت تُنذر بالفجر، ولكن الظلام ما زال مهيمنًا.

كأن القصر لا يريد للضوء أن يدخل.

وكأن الليل هنا… أبدي.

...

جلست على طرف السرير. لم يكن نومًا بل اختناقًا تحت الوسائد الفخمة.

نظرت إلى المرآة أمامي.

رأيت وجهي.

وجه نير.

المشكلة ليست أنني لا أرى نفسي.

بل أنني لا أرى نير أيضًا.

كأن الجسد نفسه يرفض أن يعترف بي، ويرفض أن يعترف بصاحبه الأصلي.

...

وفجأة...

صورة.

لا، ليست صورة.

ذكرى؟ ربما.

لكنها لم تكن ذكرى لي.

بل… فراغ.

كأن عقلي حاول أن يتذكّر شيئًا محددًا، لكنه اصطدم بحائط أملس لا يحتوي حتى على خدشٍ يشير إلى وجود شيء قبله.

...

"أمه."

قلت الكلمة بصوتٍ مسموع.

أين هي أم نير؟

...

أتذكّر الرواية.

قرأت 400 فصل من هذا الجحيم الوردي الرومانسي – 400 فصل مليئة بالمبالغات، بالبكاء، بالنظرات المسروقة، وبالعبارات الفارغة التي لا تنتهي.

لكني لم أرَ أي ذكر جاد لأم نير.

ولا حتى ظلّها.

لا لقطة يظهر فيها نير وهو يفكر بها.

لا مشهد يقول فيه: "أمي كانت تفعل كذا..."

أو "أمي كانت تقول لي..."

بل حتى عندما كان يعاني من آلام نفسية – وهي كثيرة – لم يكن يذكرها كملجأ أو كذكرى.

ولا حتى كفقد.

كأنها لم تكن أبدًا.

...

لكن انتظر.

أتذكر شيئًا الآن.

فصل 198.

مجرد جملة واحدة على لسان أحد الخدم في القصر، عندما كان أحد الشخصيات يتحدث عن جمال عائلة ڤيرتون.

قال الخادم حينها:

"والدة نير كانت جميلة جدًا… لكنها سافرت قبل سنوات، حين كان لا يزال طفلًا صغيرًا."

وهذا كل شيء.

جملة واحدة.

واختفت بعدها إلى الأبد.

لم تُذكر مجددًا، لا في كلام الشخصيات، ولا في وصف القصر، ولا حتى في أحلام نير نفسه.

...

هذا غريب.

مريب.

ماذا تعني رواية رومانسية تُفترض أنها تُشبع القارئ عاطفيًا، لكنها تتجاهل الأم تمامًا؟

حتى الدوق، والد نير، لم يُذكر أنه افتقدها أو تحدّث عنها.

كأنها...

"كأنها حُذفت عمدًا."

...

نهضت.

ذهبت إلى طاولة المكتب.

جلست.

أخذت ورقة وقلمًا.

وكتبت في الأعلى:

"أشياء ناقصة عن نير ڤيرتون."

وكتبت تحتها:

1. لا توجد أي مشاعر تجاه أمه.

2. لم يتذكرها أبدًا.

3. لم يسأل عنها.

4. لم تظهر له ذكريات معها.

5. الرواية لم تذكر اسمها.

6. الرواية لم تذكر حتى جناحها في القصر.

7. الرواية لم تذكر متى غادرت بالضبط.

8. لا وجود لصورة واحدة لها في القصر.

9. لم يتحدث أحد عنها بعد تلك الجملة.

...

ثم رسمت خطًا تحت النقاط.

وكتبت تحته:

"إما أن الرواية تُخفي شيئًا، أو أن نير نفسه لا يريد أن يتذكرها."

...

لكن لماذا؟

ما الشيء الذي يمكن أن يجعل طفلًا، عمره خمس سنوات فقط حين غادرت والدته، يمحوها تمامًا من وجوده؟

حتى الذكريات العابرة للأطفال في ذلك السن، تتشبث.

طفل فقد أمه... لابد أن يحتفظ بصوتها، عطرها، ملمسها، قصصها قبل النوم.

لكن نير؟ صفر.

...

وهنا خطر في بالي احتمالان:

الاحتمال الأول: أن هناك أجزاء من ذكريات نير لم تصلني بعد. ربما سُدَّت بيني وبينه. ربما هذا الجسد لا يثق بي بعد. أو أن هناك "أختامًا" عقلية في كيانه تمنعني من الوصول إلى تلك الذكريات.

الاحتمال الثاني: وهو الأسوأ…

أن نير نفسه… قد محاها.

أو أن شخصًا آخر… محاها منه.

من الذي يمكنه فعل هذا؟

في هذا العالم، أعني.

إن كان الأمر متعلقًا بالسحر، أو التعويذات الذهنية، أو التحكم بالذاكرة، فهناك فقط عائلة واحدة تمتلك هذا النوع من النفوذ…

عائلة ڤيرتون.

والد نير.

أبوه.

مستحيل.

أيعقل أن يكون الدوق قد مسح ذكريات ابنه عن والدته؟

لماذا؟

هل لأسباب سياسية؟

هل لأنه اكتشف خيانة منها؟

هل لأنها فعلت شيئًا يستحق أن تُمحى؟

أم أن...

أم أن ما كانت تعرفه… كان مرعبًا لدرجة أنه لا يجب أن يبقى حيًا في ذهن أي أحد؟

نهضت من مكاني.

قلبي ينبض بشدة.

هناك شيء خاطئ. هناك شيء فاسد.

ولأول مرة، شعرت أن هذه الرواية التي كنت أقرأها على مضض… ليست كما كانت تبدو.

ما كنت أظنه رواية رومانسية سيئة الطرح…

ربما كان مجرد قناع لقصة أعمق، مرعبة، ومليئة بالأكاذيب المحبوكة بإتقان.

عدت إلى السرير.

لكنني لم أنم.

النافذة بدأت تُضيء تدريجيًا.

الضوء يتسلل كالسيف عبر ستائر سوداء ثقيلة.

يومٌ جديد بدأ.

لكن السؤال بقي:

أين أم نير؟

ومن الذي أراد أن ننساها جميعًا؟

2025/06/01 · 262 مشاهدة · 1432 كلمة
Vicker
نادي الروايات - 2025