الفصل الثالث – "وجه العائلة"
أخٌ أكبر.
كيف نسيت؟
رغم كل الوقت الذي أمضيته في قلب فصول الرواية، رغم ضجري من كل فقرة وردية، وكل تنهيدة مغرقة في الحب السطحي، هناك تفاصيل كانت دائمًا أمامي…
لكنني لم أكن أنتبه.
أو لم أرد أن أنتبه.
نير ڤيرتون لم يكن الابن الوحيد.
...
كان لديه أخ.
واحد فقط.
الأخ الأكبر.
الوريث الفعلي، العقل المدبر، الوجه السياسي.
هو الذي يحضر الاجتماعات، يمثل العائلة، يتكلم باسم الدوق.
...
أما دوق الظلال؟
الرجل المرعب الذي يُروى عنه أنه مزّق خمسة عشائر في ليلة واحدة، الذي يقال إن عينه ترى الأكاذيب، الذي لا يظهر في أي مشهد فعلي في أول 400 فصل سوى مرتين، وكلتاهما مشهدان غامضان، غير مباشرين، وملطخان بالسحر والدم…
هل هو مجرد طيف؟
شبح كُتب ليكون الغموض المحيط بالقلعة؟
أداة للكاتبة لتصنع توترًا مفتعلًا؟
"ما هذا القرف؟"
نعم، أنا غاضب.
ليس فقط لأن الكاتبة قررت أن تستخدم شخصية مثل دوق الظلال كأداة روائية بلا عمق…
بل لأنني الآن جزء من هذه الفوضى.
...
فتحت النافذة.
الهواء البارد في الطابق العلوي من القصر كان يحمل رائحة الحجارة القديمة.
تأملت الحديقة من فوق، فوضى منظمة من النباتات السوداء، والأشجار المعقودة كأنها تعاني من عقد داخلية.
ثم همست:
"إذًا، أين هو أخي؟"
...
أتذكر اسمه...
"أليستر ڤيرتون."
العقل السياسي للعائلة.
الشخص الذي كان دومًا حاضرًا في الاجتماعات.
الذي يعرفه الجميع، ويخشاه النبلاء، ويتجنبون استفزازه.
لا يملك نفس الغموض الوحشي الذي يحيط بوالده، لكنه يملك شيئًا آخر...
سلطة من نوع مختلف.
سلطة... رسمية.
سطحية في الرواية، لكنها تحمل خلفها شيئًا كامنًا… شيئًا لم يُستكشف.
...
ابتعدت عن النافذة.
ذهبت إلى الخزانة الكبيرة.
فتحتها.
الملابس، كما هو متوقع، منظمة بحسب المواسم، الألوان، والمناسبات.
اخترت سترة قاتمة، رسمية، ذات نقوش رمادية على الأكمام، وسروالًا جلديًا أسود يليق بالهيبة المصطنعة التي يتوقعون أن أتحلى بها.
وأثناء ارتدائي، جاء الطَرق.
ببطء.
ثلاث ضربات متباعدة.
هادئة، واثقة.
...
"سيدي نير، أخوك أليستر ينتظرك في الجناح الشرقي."
قالها الخادم دون أن يرفع صوته.
ابتسمت… ابتسامة لم تصل إلى عينيّ.
"ها نحن ذا."
...
"فالإمبراطور طلب اجتماعًا بخصوص المشاريع الاقتصادية الجديدة."
قالها الخادم بينما يقودني في ممرات القصر.
"هل الإمبراطور بنفسه؟"
"أجل، جلالة الإمبراطور. يريد استعراض خطط العائلات الكبرى، وقد أرسل مندوبه الليلة الماضية. أليستر بدأ بالإعداد من الفجر."
رائع...
أنا الآن داخل جسد مراهق في السادسة عشر، جزء من عائلة مرعبة، في عالم يعج بالسحر والدم…
ومضطر لمقابلة أخٍ أكبر في قاعة من رخام بارد للحديث عن... الاقتصاد؟
"من كتب هذا؟!"
...
لكن...
كان هنالك شيء آخر يشغل ذهني الآن.
ليس دوق الظلال، ولا الإمبراطور، ولا المشاريع الاقتصادية.
بل... تلك الفتاة.
نعم، قبل أن يقع نير في دوامة الحب السام مع "آيلا" بطلة الرواية، كان مهتمًا بفتاة أخرى.
ابنة دوق أيضًا.
جميلة جدًا، وصفها الروائي كان شاعريًا إلى درجة مزعجة.
"شعرها كالحرير الأسود في ليلةٍ بلا قمر."
"عيونها مثل قطع الياقوت المغسولة بماء الثلج."
"صوتها كصوت الريح في أنفاق العرش المهجورة."
وغيره من الهراء الرومانسي المبتذل.
لكن...
كانت المشكلة الحقيقية أن الفتاة لم تهتم بنير مطلقًا.
لا ردّ، لا التفات، لا حتى شفقة.
ومع ذلك…
الكاتبة خصصت فصولًا كاملة لرؤية مشاعره تجاهها، لتصوير كيف يتألم بصمت، كيف يتخيل نظرة منها، كيف يحفظ كلماتها القليلة، وكيف يكتب لها رسائل لم يرسلها أبدًا.
فصول من الطرف الواحد.
فصول من القرف العاطفي الذي سلب مني ساعات من حياتي.
"ولم تنتهي حتى بحدث مؤلم."
بل نسيتها فجأة، كأنها لم تكن، فقط لأن آيلا دخلت الرواية.
"هذا ليس تطور شخصية، هذا تلاعب."
...
"نير… يا لك من أحمق."
قلت في سري وأنا أقترب من الجناح الشرقي.
...
ثم توقفت.
الهواء هنا مختلف.
لا يوجد رطوبة، ولا برودة.
فقط… سكينة مخيفة.
دخلت.
الجدران مرصعة بدرجات سوداء وفضية، والنوافذ مزخرفة بشعارات العائلة: ظلٌ يقف على جبل، وخنجر من نور مخفي خلفه.
في وسط الغرفة، يقف رجل طويل القامة، شعره رمادي أنيق، ووجهه جامد.
"أليستر ڤيرتون."
أخي.
أخي الأكبر.
التفت إليّ، نظرة ثابتة، فيها وزن، فيها شك، فيها شيء لا يمكن تسميته.
"استيقظت أخيرًا؟"
قالها كأنه يقرأني.
أجبت:
"أجل… لم أكن أتوقع دعوة من الإمبراطور بهذه السرعة."
اقترب.
وقف أمامي، أطول مني بنصف رأس، عيونه رمادية كثلجٍ جاف.
"لماذا؟ ألا تتابع الرسائل اليومية؟"
قلت دون تردد:
"كنت أقرأ… شيئًا آخر."
...
صمت.
حدّق في وجهي لثوانٍ.
ثم تحرك إلى الطاولة، حيث أوراق متكدسة، وخرائط، ومخطوطات مختومة بخاتم العائلة الإمبراطورية.
"الإمبراطور يريد منا تقديم خطة حول إعادة إعمار المقاطعات الغربية."
قالها وهو يفتح إحدى الخرائط.
"أنا سأقود الاجتماع كالعادة، ولكن وجودك سيكون رمزًا للتماسك الأسري. لا تتحدث كثيرًا، فقط كن حاضرًا."
...
ابتسمت من الداخل.
"رمزٌ للتماسك؟ حقًا؟"
قلت بهدوء:
"كما تريد، أخي."
وقفت صامتًا أمام أليستر.
بيننا طاولة ثقيلة من الخشب الأسود، تمتد على طول ثلاثة أمتار، تعلوها خرائط ومجلدات وسجلات مختومة بشمع ذهبي. شعرت كما لو أن وزن هذه الطاولة وحده كافٍ لسحق أي وهمٍ عن الحرية.
لم يقل شيئًا آخر.
ولا أنا.
كأن صمتنا كان جزءًا من الطقس السياسي في هذا القصر.
أدار ظهره بهدوء، وبدأ يقلب بعض الأوراق.
ثم قال، بنبرة هادئة:
"الاجتماع بعد ساعتين. سيتحرك الموكب خلال ساعة. استعد."
هكذا، بلا عاطفة. بلا تردد.
خرجت من الجناح الشرقي دون أن أجيب.
السلالم بدت أطول من المعتاد.
كل درجة كانت تبعدني عن صمتي... وتقربني من الواجهة التي يجب أن أرتديها.
أنا… نير ڤيرتون.
الابن الثاني لعائلة الظلال.
الاسم الذي لا يبتسم.
العين التي لا تعترض.
الظل الذي يجب أن يُرى… لا أن يُسمع.
عدت إلى جناحي الخاص.
الخادم الذي أحضرني من قبل كان واقفًا بهدوء، كأنه لم يتحرك أبدًا.
انحنى قليلاً:
"هل ترغب في الحمام، سيدي؟"
أجبته بإيماءة خفيفة.
...
استغرقت الاستعدادات أكثر مما توقعت.
بدأ الأمر بالحمام المائي، حيث فُتحت الصنابير النحاسية بعناية ليملأ الحوض الحجري بماء دافئ، وُضعت فيه أوراقٌ مجففة ذات رائحة خشبية خفيفة.
رائحة لم أتمكن من تحديد مصدرها، لكنها كانت مألوفة بشكل غريب.
هل كان نير يستخدمها دائمًا؟ أم أن الجسد يتذكر أشياء لا أذكرها؟
جلست داخل الماء، أشعر بالثقل.
ثقل داخلي.
ثقل لا علاقة له بالملابس، ولا بالسياسة.
ثقل لم أفهم مصدره بعد.
في زاوية الغرفة، انعكاس وجهي على سطح المرآة المعدنية بدا غريبًا عليّ.
تأملت ملامحي…
العينان الداكنتان، الحاجبان الحادّان، الذقن المائل قليلاً إلى اليمين.
وجه صلب… لكنه فارغ.
فارغ من نير.
وفارغ مني.
كأني جئت لأحتل مساحة بين الفراغين.
بعد ذلك، ارتديت الزي الرسمي.
لم يكن زِيًا فخمًا.
بل رمزيًا.
اللون الأسود يكسو القماش الحريري، وفي الياقة نقوش دقيقة تمثل شجرة عارية، تتفرع جذورها إلى الأسفل بدلاً من الأعلى.
"شجرة ڤيرتون."
رمز العائلة.
الجذور قبل الأغصان.
التاريخ قبل الأمل.
الخادم أعاد ربط الحزام الجلدي حول خصري، وربط زر الكم الأيسر.
ثم ناولني قفازين بلون الظلال الرماديّة.
ارتديتهما ببطء.
حركة تلو الأخرى.
كأني أرتدي قفصًا ناعمًا على يدي.
ثم جاءت العربة.
**
خرجت من القصر برفقة أربعة خدم ومرافق خاص.
العربة كانت ضخمة، مصنوعة من خشب أملس مطعّم بالفضة، ونافذتها الجانبية مرصعة بالرموز الإمبراطورية: الشمس المنقسمة.
رمز الإمبراطور.
رمز العدالة… كما يدّعون.
ركبت، وجلست وحدي.
الخادم جلس أمامي، لا يتكلم، فقط يرمقني حينًا بعد حين بنظرات قصيرة.
الطريق إلى القصر الإمبراطوري طويل.
المدينة كانت لا تزال نائمة جزئيًا.
ضباب خفيف يتسلل بين الحجارة القديمة، والشوارع مبللة من مطرٍ خفيف هطل قبل ساعات الفجر.
الناس يتحركون كأشباح باهتة.
محلات تُفتح، عمال تنظيف يجرون عرباتهم الصغيرة، جنود يراقبون كل شيء بلا مبالاة.
وكل ذلك… خلف زجاج العربة الصامت.
كأنني أنتمي إلى صورة مرسومة… لا إلى العالم الحقيقي.
حين وصلت إلى البوابة الشرقية للقصر الإمبراطوري، استُقبلتُ بصمت.
الخدم انحنوا.
الحراس ضربوا رمحهم بالأرض.
صوت معدني عميق، متعمد، مهندَس لكي يذكّرك بأنك أمام نظام لا يرحم.
دخلت القصر.
السجاد الأحمر العتيق لم يكن لامعًا، بل مطفأ، كأنه يشرب الضوء.
المنحوتات على الجدران تمثل معارك قديمة، وشخصيات تاريخية لم أتعرف على أحد منها.
كل شيء يوحي بالقدم… والسلطة… والنهاية.
قادني المرافق إلى غرفة الاجتماعات الجنوبية.
لكن…
رتم الخطوات كان بطيئًا.
بشكل متعمد.
كأن كل شيء في هذا القصر يريد أن يذكّرك بأنك لا تملك الوقت… بل الوقت هو الذي يملكك.
وأخيرًا… وصلت.
أمام الباب الكبير.