​[منظور نير ڤيرتون]

​مرت ثلاثة أيام.

ثلاثة أيام منذ أن غادرت الأستاذة إيلارا جناح الشفاء، وتركت وراءها حقيقة المرحلة الرابعة كقنبلة موقوتة. ثلاثة أيام من العزلة الاختيارية، من الصمت المطبق، حيث لم أكن أسمع سوى صوت دقات قلبي، وصوت الأفكار التي كانت تتصارع في رأسي كجيشين من الشياطين.

​الارتياح الذي شعرت به لنجاتنا من الإقصاء تبخر بسرعة، وحل محله وزن أثقل بكثير. وزن المعرفة. معرفة أن حربًا فردية تنتظرنا.

ومعرفة أن النظام، ذلك الحكم الكوني البارد، قد نقش كلمة "فاشل" بجانب اسمي.

​لم أعد أهتم بالراحة. لم أعد أهتم بالطعام الفاخر. كل حواسي، كل ذرة من كياني، كانت تركز على شيء واحد فقط: القوة.

القوة الخام، المطلقة، التي ستسمح لي بتمزيق صفحات هذه الرواية اللعينة، وإعادة كتابة نهايتي بدم أعدائي.

​لهذا السبب، كل ليلة، بعد أن تغط الأكاديمية في نومها الهادئ، كنت أتسلل خارجًا. لم أكن أذهب بعيدًا. وجهتي كانت ذلك المكان المنسي خلف المكتبة الكبرى. ساحة التدريب المهجورة.

​كانت ملاذي. مسرحي. مختبري.

في الليلة الأولى، وقفت في وسط الساحة الحجرية المتصدعة، تحت ضوء قمر شاحب كان يلقي بظلال طويلة، مريضة، من الأشجار القديمة.

أغمضت عيني، وحاولت أن أستدعيها. تلك القوة التي أنقذتني في المتاهة، والتي أخافت برج الأوهام.

​"الظلام الشيطاني".

​ركزت، ليس على كلمة، بل على شعور. ذلك الشعور بالبرودة، بالفراغ، الذي كان يكمن في أعماق روحي، كبئر لا قرار لها. لم يكن الأمر كاستدعاء "الإيترا" التقليدي، الذي كان يشعر وكأنه سحب ماء من نهر هادئ. هذا كان أشبه بفتح جرح قديم، والسماح للظلام بالنزف منه.

​حاولت التأقلم مع السحر الشيطاني، لكن لا فائدة.

​شعرت به يتشكل. وخز بارد في صدري، انتشر عبر عروقي كسم جليدي. ثم، من جسدي كله، بدأ يتسرب. ليس كدخان، بل كحبر أسود يُسكب في الماء، مشكلاً هالة داكنة، مضطربة، حولي.

​"جيد." تمتمت. لقد أطلقت بعضًا منه.

لكن في اللحظة التي حاولت فيها التحكم فيه، في اللحظة التي حاولت فيها تشكيله في خيط بسيط، انفجرت الفوضى.

​لم أتمكن من التحكم به مطلقًا.

​الهالة المظلمة حولي اهتزت بعنف. انطلقت منها عشرات الأذرع الظلية الحادة، ليس بأمر مني، بل بحركة عشوائية، غاضبة. مزقت الهواء بصوت هسهسة حاد. إحدى الأذرع ضربت جدارًا حجريًا قديمًا، وحطمته إلى غبار.

أخرى انغرست في الأرض، وتركت خندقًا أسود، يتصاعد منه دخان بارد. وواحدة... التفتت نحوي.

​تراجعت إلى الوراء، والهلع يجمد دمي. رفعت يدي لأحمي وجهي. مرت الذراع الظلية بجانب رأسي، ومزقت جزءًا من ردائي التدريبي، وشعرت ببرودتها المطلقة تلامس جلدي، تاركة وراءها أثرًا أحمر، كأنه حرق من الصقيع.

​صرخت، وقطعت الاتصال بالقوة.

تلاشت الهالة فجأة، كأنها لم تكن موجودة.

سقطت على ركبتي، ألهث، والعرق البارد يغطي جسدي. قلبي كان يدق بعنف، ليس من الإرهاق، بل من الخوف.

​هذه القوة... لم تكن أداة. كانت وحشًا. وحشًا بريًا، غاضبًا، محبوسًا في داخلي، وهو الآن قد تذوق طعم الحرية لأول مرة... أو ثاني مرة لايهم.

​الليالي التالية تحولت إلى جحيم من التدريب القاسي جدًا.

كنت أعود كل ليلة، وأحاول مرة أخرى. كنت أصارع ظلامي الخاص. كل محاولة كانت تتركني منهكًا، وأحيانًا مصابًا بخدوش وحروق غريبة. كل فشل كان يزيد من إحباطي، ومن غضبي.

​في إحدى الليالي، بينما كنت جالسًا على الأرض، ألهث، بعد أن دمرت إحدى هجماتي العشوائية شجرة بلوط قديمة، وحولتها إلى فحم أسود، نظرت إلى السماء.

وتذكرت شرط النظام.

تذكرت ذلك الوعد المسموم.

​"الرتبة السابعة... نصف سامي." تمتمت للنجوم الباردة.

كان هدفًا بعيدًا، شبه مستحيل. كان كمن يحاول أن يلمس القمر بإصبعه.

فكيف يمكنني حتى الوصول للرتبة الثانية؟

​كان هذا هو السؤال الأكثر إلحاحًا. الرتبة الثانية لا تزال بعيدة. تتطلب تراكمًا هائلاً من الخبرة، وفهمًا عميقًا لتدفق "الإيترا". تتطلب معارك حقيقية، ومواقف حياة أو موت.

​"ربما... ربما بعد نهاية المرحلة الأخيرة، سأتقدم للرتبة الثانية."

الفكرة لمعت في ذهني كبصيص أمل واهن. هذه المنافسة، بكل وحشيتها ودمويتها، كانت أيضًا... فرصة. فرصة لاختبار حدودي، لدفع نفسي إلى حافة الانهيار، حيث يولد النمو الحقيقي. جزيرة السيادة... قد تكون هي المحفز الذي أحتاجه.

​ثم، ضربتني ذاكرة أخرى، حقيقة باردة وقاسية من قوانين الأكاديمية.

تذكرت أن المرتبة الثانية هي شرط أساسي للترقي للسنة الثانية.

تجمدت.

لم يكن الأمر مجرد طموح شخصي. كان ضرورة.

إذا لم أصل إلى الرتبة الثانية بنهاية هذا العام الدراسي، سيتم طردي.

طردي.

​تخيلت المشهد. أعود إلى قصر ڤيرتون، ليس كفائز، ولا حتى كمشارك، بل كفاشل. أقف أمام والدي، أمام أليستر. أرى الازدراء الصامت في نظراتهم. أسمع الهمسات خلف ظهري.

"ابن دوق الظلال... طُرد من الأكاديمية."

الخزي... سيكون أسوأ من الموت.

​نهضت على قدمي. لم أعد أشعر بالإرهاق. لم أعد أشعر بالألم.

كل ما شعرت به هو عزم بارد، مطلق.

​"لن أفشل."

قلت للظلام، للساحة المهجورة، لنفسي.

"لن أُطرد."

​عدت إلى تدريبي. لكن هذه المرة، لم يكن الأمر يتعلق بالتحكم فقط. كان يتعلق... بالهيمنة.

بدلاً من محاولة تشكيل الظلام، حاولت أن أفرض عليه إرادتي. أن أجعله يفهم من هو السيد.

أطلقت العنان له مرة أخرى. الهالة السوداء انفجرت مني. الأذرع الظلية انطلقت في كل اتجاه.

لكن هذه المرة، لم أتراجع.

وقفت في وسط العاصفة، وصرخت. ليس بصوتي، بل بروحي.

"أنا سيدك!"

"أنت ملكي!"

"أنت تطيعني أنا!"

​شعرت بالظلام يقاوم. شعرت به يحاول أن يلتهمني، أن يسحبني إلى جنونه.

لكنني دفعت بقوة أكبر. استخدمت كل غضبي، كل يأسي، كل ذكرياتي عن الخسارة، وحولتها إلى سلاح.

للحظة، شعرت بأن روحي على وشك أن تتمزق.

ثم، حدث شيء ما.

هدأ الظلام.

لم يختفِ. بل أصبح هادئًا. الأذرع توقفت عن الهجوم العشوائي، وبقيت تطفو في الهواء حولي، كأفاعٍ سوداء تنتظر أمري.

​لم أكن قد سيطرت عليه بالكامل. لم أكن قريبًا من ذلك حتى.

لكنني... كنت قد أرغمته على الاستماع.

كانت هذه هي البداية.

​عدت إلى جناحي مع بزوغ الفجر، وجسدي يرتعش من الإرهاق، لكن في داخلي، كان هناك شعور جديد.

​[منظور كايلين]

​الفجر.

لم يكن قد بزغ بعد. السماء في الخارج كانت لا تزال لوحة من اللون الأزرق الداكن، مرصعة بنجوم باردة، حادة، كشظايا من الألماس مبعثرة على قطعة من المخمل الأسود. الهواء في جناحي كان باردًا، ونقيًا، وصامتًا.

​كنت مستيقظًا. لم أنم لأكثر من ثلاث ساعات. النوم كان رفاهية، إلهاءً لم أعد أملكه.

جلست في وضعية التأمل على الأرضية الخشبية الباردة لغرفتي.

​السيف.

​فتحت عيني. لم تكن هناك أي أفكار مشتتة في عقلي. لم يكن هناك غضب من الهزيمة، ولا ترقب للمرحلة القادمة. كان هناك فقط... هدوء. هدوء جليدي، فارغ، صقلته سنوات من التدريب القاسي.

​نهضت، وتحركت برشاقة صامتة.

بدأ طقسي اليومي.

أولاً، الماء. دلو من الماء البارد كالثلج، سكبته فوق رأسي. الصدمة الجليدية أيقظت كل خلية في جسدي، وطردت آخر بقايا من النعاس، وشحذت حواسي.

ثانيًا، السيف.

​توجهت إلى حامل السيوف، والتقطت سيفي الحقيقي. لم يكن مزخرفًا كسيوف النبلاء الجنوبيين. كان بسيطًا، وعمليًا، ومميتًا.

نصله الطويل، الرمادي، كان مصنوعًا من "فولاذ الخشب الحديدي"، السبيكة السرية لعائلتي، التي قيل إنها لا تنكسر أبدًا، وتحافظ على حدتها لقرون.

جلست على الأرض، ووضعت السيف على ركبتي. بدأت في تلميعه بقطعة قماش ناعمة وزيت خاص. لم تكن مجرد صيانة. كانت محادثة. كنت أشعر بكل خدش صغير على النصل، كل ثقل في توازنه. كان يعرفني، وكنت أعرفه. كنا واحدًا.

​بعد أن أصبح النصل يلمع ببريق بارد تحت الضوء الخافت، ارتديت ملابسي التدريبية. لم تكن سوداء كملابس نير، بل كانت رمادية داكنة، عملية، ولا تعيق الحركة.

خرجت من جناحي.

​ساحة التدريب الرئيسية كانت فارغة في هذه الساعة المبكرة. كانت الشمس قد بدأت للتو في إرسال خيوطها الأولى من الضوء الذهبي الباهت فوق أسوار الأكاديمية البعيدة.

الندى كان يغطي العشب، ويتلألأ كآلاف الجواهر الصغيرة. الهواء كان باردًا، ويحمل رائحة الأرض الرطبة.

كان هذا هو معبدي.

​وقفت في وسط الساحة. لم أبدأ بالقتال. بدأت بالتنفس.

شهيق بطيء، عميق، يملأ رئتي بالهواء البارد.

زفير أبطأ، يطرد كل التوتر، كل الشك.

كررت ذلك عشر مرات. مئة مرة. حتى أصبحت أنفاسي صامتة، منتظمة، كحركة المد والجزر.

​ثم، بدأت التدريب القاسي.

​لم يكن تدريبًا عشوائيًا. كان نظامًا، صقله أجيال من أسلافي.

المرحلة الأولى: الأساس.

بدأت في أداء "أشكال الخشب الحديدي". لم تكن حركات سريعة، أو مذهلة. كانت بطيئة، ومتعمدة. كل حركة كانت تتدفق إلى التي تليها بسلاسة تامة. "شجرة الصفصاف الباكية". "مخلب الذئب الجليدي". "صمت الجبل".

كل شكل كنت أكرره مئة مرة. كنت أركز على كل عضلة، على كل وتر. على التوازن المثالي لجسدي. على الطريقة التي ينتقل بها وزني من قدم إلى أخرى. على الطريقة التي يصبح بها سيفي امتدادًا سلسًا لإرادتي.

العرق بدأ يتصبب مني، رغم برودة الصباح. العضلات في ذراعي وظهري وساقي بدأت تحترق، تصرخ، تتوسل إليّ لأتوقف.

لكنني لم أفعل.

الألم كان مجرد إلهاء آخر.

​.....

.....

بعد ساعتين من ممارسة الأشكال، انتقلت إلى تدريب التحمل. لم تكن هناك دمى تدريبية لأحطمها. لم أكن بحاجة إليها.

خصمي كان الهواء. كان الزمن.

بدأت في التحرك. سلسلة لا تتوقف من القطع، والطعن، والمراوغة، والصد. كنت أقاتل جيشًا من الأشباح. سيفي كان يرسم خطوطًا فضية في الهواء، ويصدر صوت أزيز حاد، كأنه يغني أغنية الحرب.

لم أتوقف لثانية واحدة.

عندما كانت ذراعي اليمنى تتعب، كنت أنقل السيف إلى اليسرى وأواصل.

عندما كانت ساقاي ترتجفان، كنت أجبرهما على الحركة.

عندما كانت رئتاي تحترقان، كنت أجبرهما على سحب المزيد من الهواء.

مرت ساعة. ساعتان. الشمس ارتفعت في السماء، وبدأت تدفئ الحجارة من حولي. لكنني لم أشعر بدفئها. كل ما شعرت به هو النار التي تشتعل في عضلاتي، والجليد الذي يغلف عقلي.

أخيرًا، بعد أن وصل جسدي إلى حافة الانهيار المطلق، توقفت.

ترنحت للحظة، ثم سقطت على ركبتي في وسط الساحة، ألهث، والعرق يتقطر مني كالمطر.

لكن التدريب لم ينتهِ.

لقد بدأ الجزء الأصعب للتو.

جلست في وضعية التأمل، ووضعت سيفي على ركبتي.

وأغمضت عيني.

عدت إلى البرج.

عدت إلى تلك الصحراء السوداء، وإلى تلك النسخة الفارغة مني التي هزمتني.

أعدت عرض المعركة في عقلي، مرة تلو الأخرى.

رأيت كل أخطائي. كل تردد. كل حركة ضائعة.

لقد هزمني، ليس لأنه كان أقوى، بل لأنه كان... أنقى.

لم يكن لديه كبرياء، ولا شك، ولا خوف. كان مجرد... سيف. تجسيدًا للقطع، والطعن، والموت.

"جوهر السيف... هو في الفراغ."

كلمات والدي.

حاولت أن أصل إلى ذلك الفراغ. أن أفرغ عقلي من كل شيء. من المنافسة، من نير ڤيرتون، من اسم "الخشب الحديدي".

لكن عقلي... كان يرفض.

كانت الأفكار تتسلل. "عليك أن تصبح أقوى." "عليك أن تفوز." "ماذا كان ذلك الظلام الذي استخدمه نير؟"

​فتحت عيني، وأطلقت زفيرًا محبطًا.

كان الأمر أصعب مما تخيلت.

كيف يمكن لشخص أن يتوقف عن التفكير؟ كيف يمكن لإرادة أن تمحو نفسها؟

​في تلك اللحظة من الإحباط، تذكرت نير.

تذكرت حركاته في المتاهة. كانت فوضوية، غير متوقعة. كانت مليئة بالظلام، والغضب. كانت عكس كل ما تعلمته.

لكنها كانت... فعالة.

لقد نجا. لقد قاتل بضراوة.

وذلك الظلام... لم يكن مجرد سحر. كان جزءًا منه. كان قوة خام، بدائية، لم يتم صقلها.

هو كان الفوضى. وأنا كنت النظام.

​"أريد أن أواجهك." تمتمت في الهواء البارد. "أريد أن أرى ما إذا كان نظامي المطلق، قادرًا على هزيمة فوضاك المطلقة."

هذه الفكرة... أعطتني هدفًا جديدًا. لم يعد الأمر يتعلق بالفوز. بل أصبح يتعلق بالفهم.

​​قضيت الأيام السبعة التالية في نفس الروتين القاسي.

كل يوم، كنت أدفع بجسدي إلى ما بعد حدوده. وكل يوم، كنت أجلس في صمت، وأحاول أن أجد ذلك الفراغ في روحي.

وفي فجر اليوم الأخير، اليوم الذي يسبق رحلتنا إلى جزيرة السيادة...

حدث شيء ما.

كنت أمارس "شكل صمت الجبل"، حركة بطيئة، تتطلب توازنًا مطلقًا.

وفجأة، اختفى كل شيء.

صوت الطيور التي بدأت تغني. إحساس النسيم البارد على جلدي. ثقل السيف في يدي.

كلها اختفت.

لم يكن هناك سوى... فراغ.

تحرك جسدي من تلقاء نفسه. لم أكن أنا من يحركه. السيف انطلق في يدي، ليس بسرعة، وليس بقوة. بل... بحتمية.

رسم قوسًا مثاليًا في الهواء.

ولم أسمع صوت أزيز.

سمعت... صمتًا.

صمتًا قاطعًا. كأن النصل قد محا الصوت من الوجود وهو يمر.

فتحت عيني.

كنت ألهث.

نظرت إلى ورقة شجر كانت قد سقطت أمامي. كان عليها خط قطع نظيف تمامًا، كأنه رُسم بشفرة حلاقة. لقد قُطعت إلى نصفين وهي تسقط.

لقد فعلتها.

لجزء من الثانية، لمست الفراغ.

​نهضت على قدمي. جسدي كان يصرخ من الإرهاق الذي تراكم على مدى أسبوع.

لكن روحي... كانت حادة.

حادة كحافة سيفي.

نظرت نحو الأفق، حيث كانت الشمس ترتفع.

الجزيرة كانت تنتظر.

والفوضى كانت تنتظر.

لكنني لم أعد خائفًا.

لأنني وجدت سلاحًا جديدًا.

سلاحًا لا يمكن لأحد أن يراه، أو أن يفهمه.

سلاح الصمت... والفراغ.

وأنا كنت مستعدًا... لاستخدامه.

​[منظور سيلين دي فالوا]

​البرد.

لم يكن مجرد غياب للدفء. كان حضورًا. كيانًا حيًا، حادًا، يملأ كل ركن من أركان جناحي. لم تعد هذه غرفة في أكاديمية دافئة، بل أصبحت قبرًا جليديًا من صنعي أنا.

​كنت قد أمضيت لأيام السبعة الماضية في تحويل هذا المكان إلى صورة مصغرة عن موطني في الشمال. طبقة سميكة من الصقيع السحري، الأبيض المزرق، كانت تغطي الجدران والأرضية والسقف، تتلألأ ببرودة قاسية تحت الضوء الخافت للمصابيح البلورية التي كانت تبدو كشموس بعيدة، تحتضر.

الهواء كان جافًا، وحادًا، وكل نفس كنت ألتقطه كان يلسع رئتي، كأنني أتنفس غبارًا من الألماس. قطرات الماء المتكثفة كانت تتجمد على الفور على النوافذ، وتشكل أنماطًا معقدة، جميلة، وميتة.

​كان هذا هو معبدي. وكان هذا هو جحيمي.

​كنت أجلس في وسط الغرفة، في وضعية التأمل، على الأرضية الجليدية مباشرة. لم أكن أرتدي فراءً دافئًا، أو طبقات من الصوف.

كنت أرتدي فقط رداء تدريب أبيض، رقيقًا، من الكتان. كان جسدي يرتجف، رعشة عنيفة، لا إرادية، لم أكن أحاول إيقافها. بل كنت أحتضنها.

​الألم كان جزءًا من الطقس. البرد كان هو الأداة.

أغمضت عيني، وغصت في أعماق كياني، إلى ذلك المكان الهادئ، البارد، حيث يكمن جوهري السحري. بحيرة متجمدة، لا قرار لها، من الطاقة الزرقاء.

​بدأت التدريب.

لم يكن تدريبًا لإتقان تعويذة جديدة، أو لزيادة سرعة إلقاء السحر. كان تدريبًا للإرادة. تدريبًا لمحو وصمة العار.

لم أطلق أي رماح جليدية، أو جدران صقيع. كل ما فعلته هو... التنفس.

مع كل شهيق، كنت أسحب الطاقة من جوهري السحري. ومع كل زفير، كنت أطلقها. ليس كتعويذة، بل كضباب. ضباب بارد، أزرق باهت، كان يخرج من فمي وأنفي، وينتشر في الغرفة، ويزيد من برودتها.

كان الأمر بسيطًا في ظاهره. لكنه كان تعذيبًا.

مع كل زفير، كنت أشعر بأن دفء حياتي يتسرب مني، يُستبدل ببرودة سحري. بدأت أطرافي تخدر. تحولت شفتاي إلى اللون الأزرق. تشكل الصقيع على رموشي، وعلى خصلات شعري الأسود التي كانت تنسدل على وجهي.

جسدي كان يصرخ. كان يتوسل إليّ لأتوقف. كان يريد الدفء، الحياة.

لكنني تجاهلته.

تذكرت ذلك الكهف. تذكرت ذلك الظلام. تذكرت ذلك الرعب المطلق الذي حطمني، وجعلني أبكي كطفلة ضائعة.

"ضعف."

الكلمة كانت كصوت سوط يجلد روحي.

"آل دي فالوا لا يعرفون الضعف."

صوت والدي، البارد، القاسي، تردد في ذاكرتي.

ضغطت بقوة أكبر. أطلقت المزيد من الضباب. المزيد من البرد. الرعشة في جسدي أصبحت أعنف. شعرت بألم حاد في صدري، كأن جليدًا يتشكل حول قلبي.

​استمر هذا لساعات. ساعات من الجلوس في البرد الذي صنعته، وأنا أحول جسدي إلى قطعة من الجليد، وأجبر روحي على التحكم في هذا الجليد.

عندما أشرقت شمس اليوم التالي، كنت لا أزال هناك. لم أتحرك.

لكن الرعشة... كانت قد توقفت.

بعد أن وصلت إلى حالة من التجمد شبه الكامل، حيث لم يعد جسدي يشعر بالبرد، بل أصبح هو البرد نفسه، بدأت المرحلة التالية.

فتحت عيني، التي كانت تحيط بها هالة من الصقيع.

رفعت يدي ببطء.

من الضباب البارد الذي يملأ الغرفة، بدأت تتشكل نقاط صغيرة من الضوء الأزرق.

مئة. ألف. عشرة آلاف.

شظايا جليدية حادة، صغيرة كالإبر، كانت تطفو في الهواء حولي، تتلألأ كأنها سرب من الجنيات القاتلة.

التحدي لم يكن في خلقها. كان في التحكم بها.

بدأت في تحريكها. ببطء في البداية. جعلتها تدور حولي في دوامة هادئة، منتظمة.

ثم، أسرع.

تحولت الدوامة إلى إعصار صامت من الشظايا الزجاجية. صوت حفيفها كان الصوت الوحيد في الغرفة.

ثم، بدأت في تشكيلها.

جعلتها تتجمع لتشكل صورة ذئب جليدي، يقفز في الهواء. ثم تنين، يفرد أجنحته البلورية. ثم وجه.

وجه والدي.

كان وجهًا مثاليًا، منحوتًا من آلاف الشظايا الحادة، وعيناه الفارغتان تحدقان فيّ بتلك النظرة الباردة، الخائبة.

شعرت بوخزة من الألم في قلبي.

وللحظة... فقدت تركيزي.

اهتزت الصورة. انفجر وجه والدي الجليدي إلى سحابة فوضوية من الشظايا. انطلقت بعضها نحوي بسرعة لا تصدق.

لم أتحرك. تلقيت الضربة.

شعرت بالشظايا تخترق رداء تدريبي الرقيق، وتغوص في جلد ذراعي وكتفي. لم تكن جروحًا عميقة، لكنها كانت حادة، مؤلمة، كآلاف اللسعات.

"التركيز."

قلت لنفسي، والدماء بدأت تسيل من جروحي، لتتجمد على الفور على جلدي.

"المشاعر... هي ضعف."

أعدت السيطرة على السرب الفوضوي. وأجبرته على العودة إلى تلك الدوامة المنظمة.

استمر هذا التدريب لثلاثة أيام أخرى.

كل يوم، كنت أصبحت أفضل. أسرع. أكثر دقة.

وكل يوم، كان جسدي يمتلئ بالمزيد من الجروح الصغيرة، المتجمدة. كانت خريطة لأخطائي، تذكيرًا دائمًا بأن الكمال لا يزال بعيدًا.

في اليومين الأخيرين، بدأت في ممارسة قدرتي النهائية.

"سجن الجليد الأبدي".

لم تكن تعويذة هجومية، ولا دفاعية. كانت تعويذة سيطرة مطلقة.

وقفت في وسط الغرفة. أطلقت العنان لكل طاقتي دفعة واحدة.

لم يعد الأمر ضبابًا، أو شظايا.

بل بدأ الجليد يتشكل. جليد أزرق داكن، صلب، وشفاف.

ارتفع من الأرض، ونزل من السقف، وتشكل في الهواء.

أعمدة جليدية حادة. جدران سميكة. قفص.

قفص كروي، ضخم، حاصرني بالكامل. سطحه كان أملسًا كالمرآة من الداخل، ومغطى بمسامير حادة من الخارج. كان جميلاً، ومميتًا.

استنزفتني التعويذة تمامًا.

سقطت على الأرض، ألهث، وشعرت بأن جوهري السحري فارغ، ومؤلم.

لكنني كنت قد فعلتها.

نظرت إلى انعكاسي على السطح الداخلي للقفص.

رأيت فتاة شاحبة، ذات شعر أسود، وعينين ياقوتيتين، وجسد مغطى بالجروح.

لكنني رأيت أيضًا شيئًا آخر.

رأيت... ملكة.

​في تلك اللحظات من الإرهاق المطلق، كانت الأشباح تعود.

تذكرت سيرافينا. الشيطانة. فوزها كان منطقيًا، لكنه كان مقلقًا.

إرادتها كانت تشبه إرادتي، لكنها كانت ملتوية، خبيثة. كانت تستمتع بالفوضى. بينما أنا... كنت أسعى إلى النظام المطلق.

كنا قطبين متناقضين لنفس العملة. والمعركة بيننا... كانت حتمية.

​في فجر اليوم الأخير، قبل أن نتوجه إلى جزيرة السيادة، وقفت في وسط جناحي المتجمد للمرة الأخيرة.

لم أعد أرتجف.

جلدي كان باردًا الملمس، شاحبًا، كأنه جزء من الجليد المحيط بي.

رفعت يدي.

"سجن الجليد الأبدي."

في لحظة، ودون أي جهد واضح، تشكل القفص البلوري حولي. كان مثاليًا. صلبًا، وقاتلاً.

نظرت إلى انعكاسي.

الفتاة الخائفة التي بكت في كهف المتاهة... قد ماتت. لقد جمدتها، ودفنتها تحت طبقات لا نهائية من الجليد والانضباط.

ما تبقى... كان شيئًا آخر.

​استدرت، وذوبّت الجليد من على الباب.

خرجت من غرفتي، وعدت إلى دفء الأكاديمية.

شعرت بالحرارة كأنها حمى، كأنها شيء غريب، غير طبيعي.

البرد... أصبح هو حالتي الطبيعية.

​"فليأتوا." تمتمت، وصوتي كان كحفيف الريح على قمة جبل متجمد.

"سوف ينكسرون جميعًا... على جليدي."

​[منظور ديغون ستونهاند]

​الألم.

كان صديقًا قديمًا.

لم يكن ضيفًا غير مرغوب فيه في جسدي، بل كان ساكنًا دائمًا، همسًا خافتًا في عضلاتي، وصدى مكتومًا في عظامي.

لقد تعلمت منذ الصغر أن أرحب به، أن أستمع إلى قصصه. الألم يعني أنك لا تزال حيًا. الألم يعني أن هناك حدودًا، وأن عليك تحطيمها.

​لكن هذا الألم... كان مختلفًا.

كنت جالسًا على سريري في جناح الشفاء، وظهري مستقيم كالعادة. المعالجون السحريون كانوا قد أنهوا عملهم. الجرح الهائل في صدري وظهري، الذي تركه "الناحب الشاحب"، كان قد أغلق. لم يتبق منه سوى ندبة ضخمة، حمراء، تمتد كابتسامة بشعة.

لكن تحت الجلد، كانت العظام المكسورة لا تزال تئن، والعضلات الممزقة كانت تصرخ في كل مرة أتنفس فيها.

​لم يكن هذا هو الألم الذي يزعجني.

ما كان يزعجني هو... الفشل.

​"أنا الدرع."

الكلمات التي تمتمت بها قبل أن أغرق في الظلام كانت تتردد في ذهني، ليس كذكرى بطولة، بل كوصمة عار.

الدرع... قد انكسر.

لقد فشلت في حماية فريقي. فشلت في حماية نير، الذي كان يقف خلفي. لقد تلقيت الضربة التي كانت موجهة له، نعم، لكنني سقطت. والاستبعاد الذي تلا ذلك... كان نتيجة مباشرة لسقوطي.

​كان هذا هو الألم الحقيقي. ألم أعمق من أي عظم مكسور، وأشد حرقة من أي لحم ممزق.

أنا، ديغون ستونهاند، سليل عشيرة "اليد الصخرية" التي لم ينحنِ رجالها أبدًا... لقد انحنيت.

​قضيت الأيام السبعة التالية في مكان واحد فقط.

لم تكن ساحة التدريب العادية، بدمى القش وأرضيتها العشبية الناعمة. كان ذلك مكانًا للفتيان.

مكاني كان في "المحجر المنسي"، ساحة تدريب قديمة في أقصى الطرف الشرقي للأكاديمية، مكان لا يذهب إليه أحد. كان حفرة ضخمة، بقايا منجم قديم، جدرانه من الجرانيت الرمادي الخام، وأرضيته مغطاة بالصخور المحطمة والغبار.

كان مكانًا للدمار. كان مثاليًا.

​كل يوم، قبل أن تبزغ الشمس، كنت أذهب إلى هناك. كنت أخلع الجزء العلوي من زيي التدريبي، وأقف حافي القدمين على الأرض الصخرية الباردة.

وبدأت التدريب القاسي.

​لم يكن تدريبًا للسيف، أو للمهارة. كان تدريبًا للجسد، وللروح.

​المرحلة الأولى: الجبل الذي لا يتزعزع.

كنت أقف في وسط المحجر. كنت أغمض عيني، وأتنفس ببطء. لم أكن أستدعي سحرًا، بل كنت... أتصل. أتصل بالصخرة تحتي، بالجبل الذي بُنيت عليه هذه الأكاديمية، بقلب هذا العالم.

شعرت بالطاقة الخام، البدائية، للأرض وهي تتسرب عبر قدمي، تصعد في ساقي، وتندمج مع عظامي وعضلاتي.

ثم كنت أفتح عيني، وأصرخ. "هاجم!"

من زوايا المحجر، كانت تستيقظ أربعة غولمات تدريبية ضخمة. لم تكن سريعة، لكنها كانت مصنوعة من حجر الجرانيت الصلب، وقبضاتها بحجم رأسي.

كانت تهاجمني.

ولم أكن أراوغ. لم أكن أصد.

كنت... أتلقى الضربات.

الضربة الأولى كانت تصطدم بصدري. كنت أشعر بالصدمة تهز كل ذرة في كياني. الهواء يُطرد من رئتي. كنت أتذوق طعم الدم في فمي.

لكنني لم أسقط.

ضربة أخرى على ظهري. شعرت بأن عمودي الفقري على وشك أن يتكسر.

لكنني لم أنحنِ.

ضربة على ساقي. سمعت صوت طقطقة خافتة، وشعرت بألم حارق.

لكنني بقيت واقفًا.

استمر هذا لساعات. كنت أتلقى الضربات، وأنا أركز كل إرادتي، كل طاقتي الأرضية، في نقطة واحدة: الصمود. كنت أحول جسدي إلى امتداد للصخرة تحتي. كنت أصبح الجبل.

في نهاية اليوم الأول، كنت مغطى بالكدمات، وأنزف من أنفي وفمي، لكنني كنت لا أزال واقفًا.

بعد أن حولت جسدي إلى درع، حان وقت تحويله إلى سلاح.

لم أستخدم سيفًا. السيف كان أداة. كنت أريد أن أكون أنا السلاح.

كنت أقف أمام جدار المحجر الصخري. كنت أتنفس. ثم أطلق العنان لكل شيء.

لكماتي كانت تسقط على الصخر كالمطارق.

بوووم! بوووم! بوووم!

مع كل ضربة، كانت شظايا الصخر تتطاير. مع كل ضربة، كانت يداي تنزفان، وعظام مفاصلي تتشقق. لم أهتم.

كنت أصرخ مع كل ضربة، ليس من الألم، بل من الجهد، من إطلاق العنان لكل تلك القوة المكبوتة.

في اليوم الثالث، تمكنت من تحطيم جدار كامل، وحولته إلى كومة من الركام. يداي كانتا كتلتين من اللحم الممزق والعظام المكسورة، لكن عندما كانت آيلا تأتي في المساء لتعالجهما، كنت أرى في عينيها مزيجًا من الخوف والاحترام.

في الليل، كنت أجلس في وسط الدمار الذي صنعته. لم أكن أتأمل. كنت أتذكر.

كنت أرى تلك المخالب البيضاء وهي تخترق جسدي. كنت أرى نظرة الصدمة على وجه نير.

لقد فشلت.

هذه الكلمة كانت تدق في رأسي كالمطرقة.

"لن يحدث مرة أخرى."

كنت أكررها كتعويذة. "لن يحدث مرة أخرى."

الدين الذي أدين به له... لن أدفعه بالكلمات. سأدفعه بالفعل. في جزيرة السيادة، إذا تعرض لأي خطر، سأكون أنا الجدار الذي سيتحطم عليه ذلك الخطر.

هذا كان قسمي.

​في بعض الأحيان، كانت أفكاري تتجه إلى الآخرين.

كايلين. سريع. حاد. جيد.

سيلين. باردة. الجليد قوي، لكنه ينكسر.

سيرافينا. خطيرة. تتكلم كثيرًا. الكلام سلاح الضعفاء.

آيلا. صغيرة. معالجة. يجب حمايتها.

ونير. غريب. مظلم. وقوي. لقد وقف أمامي عندما سقطت في المتاهة. لقد واجه الموت. أنا... مدين له.

​في فجر اليوم الأخير، قبل أن نتوجه إلى جزيرة السيادة، وقفت في وسط المحجر للمرة الأخيرة.

أمامي، كانت تقف أكبر صخرة متبقية، بحجم عربة حصان.

لم أكن أنوي لكمها.

أخذت نفسًا عميقًا. شعرت بالأرض تحتي. لم تكن مجرد صخرة. كانت حية. كانت جزءًا مني.

رفعت يدي. لم أركز على القوة في عضلاتي. ركزت على القوة في الأرض نفسها.

"تحركي." تمتمت.

ولأول مرة، لم أكن أسحب القوة فقط. كنت... آمرها.

توهجت الأرض حولي بضوء بني باهت.

ثم، لمست الصخرة بإصبعي.

​لم يكن هناك انفجار.

الصخرة... تحولت إلى رمال.

ببساطة. تدفقت كشلال صامت من الغبار البني، تاركة فراغًا حيث كانت تقف.

​نظرت إلى يدي. ثم نظرت نحو الأفق.

لم يتغير تعبير وجهي.

لكن في الداخل... الدرع لم يعد مجرد درع.

لقد أصبح جزءًا من الأرض نفسها.

كنت مستعدًا للمرحلة القادمة.

----

----

----

ملاحظة المؤلف: السلام عليكم

أود أن أعبّر عن امتناني الكبير لتفاعلكم مع فصول الرواية. إن تعليقاتكم وتحليلاتكم العميقة ليست مجرد كلمات، بل هي مصدر إلهام ودافع قوي يمنحني الحافز للاستمرار في الكتابة وتقديم فصول جديدة تحمل المزيد من التفاصيل والأحداث.

إن مشاركتكم بآرائكم وتوقعاتكم حول مجريات القصة تسهم في خلق جو من التفاعل والإبداع، وتضفي على العمل حياة متجددة تزيد من قيمته وجماله.

لذلك، أدعوكم إلى الاستمرار في إثراء النقاش والتحليل، فكل مشاركة منكم تترك أثرًا كبيرًا وتشجعني على المضي قدمًا.

الكاتب: Ashveil

2025/08/20 · 104 مشاهدة · 3817 كلمة
Ashveil
نادي الروايات - 2025