[منظور نير ڤيرتون]
الصمت الذي تلا شجارنا الطفولي على الشاطئ الرمادي كان أثقل من أي صراخ.
لم نعد نتبادل الإهانات، بل أصبحنا كيانين منفصلين، يسيران جنبًا إلى جنب في كابوس مشترك، كل منهما غارق في بحر من أفكاره المظلمة.
دخلنا غابة العظام، وذلك الصوت الحزين، الذي يشبه بكاء آلة تشيلو كونية، أصبح دليلنا الوحيد في هذا العالم المستحيل.
"ماهي أفضل ردة فعل عند سماع أغنية جنائزية في قلب جزيرة مظلمة لا يصلها إلا ضوء دموي من قمر قرمزي؟"
صرخ صوت المنطق في عقلي.
"الإجابة بسيطة: الذهاب عكس مسار الصوت بأسرع ما يمكن. إذًا، لماذا؟ لماذا بحق الجحيم نحن نمشي تجاهه؟ اللعنة!"
كنت أعرف الإجابة، رغم أنني كرهتها. لأن هذا الصوت، بكل ما فيه من حزن ورعب، كان هو الشيء الوحيد الذي يكسر هذا الصمت المطلق، هذه العزلة القاتلة.
كان منارة من نوع ما. منارة من اليأس، ربما، لكنها لا تزال منارة.
الهروب منه كان يعني الهروب إلى لا شيء، إلى فراغ لا نهاية له من أشجار العظام والرماد الرمادي.
على الأقل، السير نحوه كان يمنحنا هدفًا، وهمًا بالتقدم.
الهواء في الغابة كان باردًا، ورطبًا، وثقيلاً. كان يلتصق بجلدي، ويتسلل إلى رئتي، ويحمل رائحة حلوة، مقززة، كرائحة زهور غريبة تتعفن، ممزوجة برائحة طين عميق، قديم، لم يرَ نور الشمس أبدًا.
الأشجار البيضاء كانت ترتفع فوقنا كأضلاع هيكل عظمي لعملاق ميت، وأوراقها الفضية كانت تصدر ذلك الحفيف الموسيقي الحزين مع كل هبة ريح، كأنها آلاف الأرواح المعذبة تهمس بأسرار هذا المكان الملعون.
شعرت بالجوع. ليس جوعًا حقيقيًا بعد، بل ذلك القلق الخفيف الذي يسبق الجوع. يدي تحركت بشكل لا إرادي نحو خاتم الأبعاد.
"هل أخبرها؟" فكرت، وألقيت نظرة خاطفة على مورنا التي كانت تسير بجانبي بصمت، ويداها على مقبضي سيفيها.
"هل أخبرها أنني خزنت ما يكفي من الأكل والشرب في هذا الخاتم ليكفينا لعدة أيام، وربما أسابيع؟"
الدرس الذي تعلمته من المرحلة الرابعة كان قاسيًا.
الموارد هي الحياة.
لكن... نحن هنا معًا. لسنا في منافسة. نحن في صراع من أجل البقاء.
إخفاء الطعام عنها قد يكون حكمًا بالإعدام على كلانا في النهاية.
"ليس الآن،" قررت. "سأنتظر. سأرى أولاً ما إذا كانت تستحق الثقة."
استمررنا في السير، وذلك اللحن الحزين يزداد قوة، ووضوحًا.
لم يعد مجرد بكاء، بل أصبح أغنية.
أغنية معقدة، مليئة بالألم، والجمال، واليأس الذي يتجاوز أي شيء بشري.
بعد ما بدا وكأنه دهر من السير في هذا الحلم المرعب، خرجنا من الغابة إلى فسحة واسعة.
وتوقفنا.
وتوقفت أنفاسنا.
لم يكن المشهد مجرد مشهد. كان إهانة للمنطق، وصفعة على وجه الواقع.
كنا نقف في ساحة دائرية هائلة، أرضيتها من حجر بازلت أسود، متصدع، كأن شيئًا هائلاً قد ارتطم هنا منذ زمن سحيق.
وفي وسط هذه الساحة، كان ينتصب هو.
التمثال.
لم تكن كلمة "عملاق" كافية لوصفه. كان مستحيلاً.
كان ضخمًا لدرجة أن رأسه وكتفيه كانا يختفيان في بحر السحاب الأرجواني الداكن فوقنا.
كنا مجرد نملتين عند قدميه.
كان تمثالاً لكائن جالس على عرش ضخم، منحوت من نفس الحجر الأسود.
كان جالسًا في وضعية توحي بالإرهاق المطلق، بالهزيمة الكونية.
رأسه كان منحنيًا إلى الأمام، ويده اليسرى تستريح على ذراع العرش، ويده اليمنى... كانت تحمل منجلاً.
منجلاً هائلاً، نصله المقوس كان مغروسًا في الأرض الحجرية أمامه، كأنه قد أنهى للتو حصاد عالم بأكمله، ثم جلس ليرتاح إلى الأبد.
"عين الحقيقة" كانت تصرخ في عقلي، ليس بالخطر، بل بالارتباك المطلق.
لم تكن هناك أي هالة. لا طاقة سحرية، لا قوة حياة، لا أي شيء.
كان مجرد تمثال حجري عملاق. صخرة ميتة، ضخمة.
لكننا شعرنا بالخوف.
خوف بدائي، عميق، تسلل إلى عظامنا.
كيف؟ كيف لهذا الشيء أن يكون هنا؟ من الذي نحته؟ ومن هو الكائن الذي كان ضخمًا بما يكفي ليكون نموذجًا له؟
كانت تلك الأغنية الحزينة... تنبعث منه.
ليس من فم، بل من الحجر نفسه. كان التمثال يبكي.
وفجأة، بينما كنا واقفين هناك، مشلولين بالرهبة والرعب، تغير الجو.
السماء، التي كانت جافة، كئيبة، بدأت تبكي معنا.
بدأت الأمطار تهطل.
لم تكن أمطارًا عادية. كانت قطرات باردة، وثقيلة، وعندما كانت تلامس الحجر الأسود للتمثال والساحة، كانت تصدر صوت هسهسة خافت، وتتحول إلى بخار.
الضوء القرمزي للقمر كان ينكسر عبر القطرات، مما جعل المشهد يبدو وكأن السماء تنزف دمًا ودموعًا.
"علينا أن نجد ملجأً!" صرخت، وصوتي كان بالكاد مسموعًا فوق صوت المطر المتزايد.
نظرنا حولنا بيأس. لم يكن هناك أي مكان.
فقط هذه الساحة المفتوحة، وهذا التمثال الذي يبكي.
ثم، رأيتها.
مورنا هي من رأتها أولاً.
"هناك!" أشارت بيدها التي تمسك بسيفها.
عند قاعدة العرش الحجري الضخم، خلف ساق التمثال التي كانت بحجم برج قلعة، كان هناك فجوة. كهف.
"من الجيد أنه واسع!" فكرت، وركضنا.
ركضنا عبر الساحة، والمطر يجلدنا، والأرض الحجرية أصبحت زلقة، وخطيرة.
وصلنا إلى الكهف، وانزلقنا إلى الداخل، هاربين من غضب السماء.
الكهف كان أعمق مما بدا عليه. لم يكن مجرد فجوة، بل كان نفقًا طبيعيًا يمتد في عمق قاعدة التمثال.
كان جافًا، ومظلمًا، ورائحته كرائحة الغبار القديم، والصمت.
جلسنا على الأرض، وظهورنا مسنودة إلى الجدار الحجري البارد، ونحن نلهث. كنا مبللين تمامًا، ونرتجف.
في الخارج، كانت العاصفة تزمجر، وصوت بكاء التمثال الحجري امتزج مع صوت المطر والرعد، ليخلق سيمفونية من الحزن المطلق.
قضينا ما يقارب الساعة في هذا الصمت المتوتر.
لم يتكلم أي منا. كنا نستمع فقط، وننتظر. ننتظر ماذا؟ لم نكن نعرف.
ثم، تغير شيء ما.
الأغنية الحزينة للتمثال... توقفت.
والصمت الذي تلاها كان أشد رعبًا من أي صوت.
"ماذا...؟" بدأت مورنا، لكنني أشرت إليها بيدي لتصمت.
سمعت صوتًا جديدًا.
صوتًا لم يكن ينتمي إلى هذا المكان.
صوت... زحف.
صوت رطب، ثقيل، قادم من الخارج، من قلب العاصفة. صوت شيء ضخم، يتحرك ببطء، وبثبات، عبر الساحة الموحلة.
زحفنا ببطء شديد نحو مدخل الكهف، ونظرنا بحذر من خلال ستارة المطر.
وما رأيناه... جعل قلبينا يتوقفان عن النبض.
كان يمر أمام الكهف.
وحش من الرتبة الخامسة.
لم يكن يشبه أي وحش قرأت عنه، أو رأيته. كان كتلة هائلة، لزجة، من اللحم الرمادي المائل للخضرة، تشبه دودة أو يرقة عملاقة، طولها لا يقل عن ثلاثين مترًا.
لم يكن له أطراف، بل كان يزحف على بطنه، تاركًا وراءه أثرًا من سائل لزج، يتوهج بضوء فسفوري مريض.
لكن الرعب الحقيقي... كان وجهه. أو بالأحرى، وجوهه.
جسده بالكامل كان مغطى بوجوه بشرية، كانت تبرز من لحمه الرمادي.
وجوه رجال، ونساء، وأطفال. كانت عيونهم مفتوحة، وفارغة، وأفواههم مفتوحة في صرخات صامتة، أبدية. كانت الوجوه تتحرك، تتمتم بكلمات غير مسموعة، ودموع سوداء، لزجة، كانت تسيل من عيونها.
"آكل الأحزان..." تمتمت والاسم خرج من أعماق ذاكرتي المنسية. وحش أسطوري قيل إنه يتغذى على يأس وحزن الكائنات الحية، ويضيف وجوه ضحاياه إلى جسده.
مر الكابوس المتجسد أمامنا ببطء، لم يكن يعلم بوجودنا. كان منجذبًا إلى شيء آخر.
إلى ذلك الحزن المطلق الذي كان ينبعث من التمثال.
ضغطت نفسي على جدار الكهف، أحاول أن أصبح جزءًا منه، أن أتوقف عن التنفس، عن الوجود.
نظرت إلى مورنا. كانت تفعل نفس الشيء. لكنني رأيت شيئًا آخر.
رأيت يديها، التي كانت مخفية خلف ظهرها، ترتجفان بعنف.
لكن وجهها... وجهها كان قناعًا من اللامبالاة. كانت تحاول أن تبدو عادية.
كانت تحاول أن تكون قوية، حتى في مواجهة هذا الرعب الذي يتجاوز الفهم.
استمر الوحش في زحفه، حتى اختفى في الضباب والمطر على الجانب الآخر من الساحة.
بقينا في مكاننا لدقائق طويلة بعد رحيله، لا نجرؤ على الحركة.
ثم، التفتت مورنا نحوي.
"إذًا،" قالت، وصوتها كان هادئًا بشكل مخيف.
"هذا هو ما يعنيه أن تكون الرتبة الخامسة."
لم يكن سؤالاً. كان إقرارًا.
إقرارًا بأننا كنا مجرد حشرتين، مختبئتين في شق، بينما كان سامي الموت يمر بجانبنا.
وفي تلك اللحظة، في ذلك الكهف المظلم، تحت تمثال باكي، وفي جزيرة تطفو على بحر من السحب، أدركت حقيقة جديدة، ومرعبة.
البقاء هنا... لم يكن مسألة قوة.
كان مسألة حظ.
حظ ألا تقع عيناك على ما لا يجب أن يُرى.
...
...
...
الصمت الذي تلا رحيل "آكل الأحزان" لم يكن صمتًا مريحًا. كان صمت قبر، صمت مكان شهد رعبًا لا يمكن وصفه وعاد إلى سكونه المريض.
بقينا أنا ومورنا في عمق ذلك الكهف لدقائق طويلة، لا نجرؤ على الحركة، وأصوات أنفاسنا المتقطعة كانت تبدو كصراخ في هذا الهدوء المطلق.
لكن الخوف، مهما كان ساحقًا، لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. ببطء، بدأ الإحساس يعود إلى أطرافي المتجمدة.
ومع الإحساس، عاد شيء آخر، شيء أكثر خبثًا، وأكثر إرهاقًا من أي وحش.
"الإرهاق الروحي."
لم يكن مجرد تعب. كنت قد شعرت بالإرهاق الجسدي من قبل، لدرجة أن عضلاتي كانت تحترق.
وكنت قد شعرت بالإرهاق الذهني، لدرجة أن رأسي كان على وشك الانفجار. لكن هذا... كان مختلفًا.
منذ قدومي إلى هنا، إلى هذه الجزيرة الملعونة، شعرت به ينمو في داخلي، كطفيلي غير مرئي.
شعرت به يسحب طاقتي، ليس من جسدي، بل من جوهري. "عين الحقيقة" كانت تتطلب جهدًا هائلاً لتفعيلها، ورؤيتها كانت مشوشة، كأنني أنظر من خلال ستارة من الضجيج الأبيض.
قوتي، ذلك "الظلام الشيطاني"، كانت نائمة، ثقيلة، كوحش شبع ورفض أن يستيقظ.
"أنا حقًا أحاول أن أتجنب الأمر،" فكرت، وأنا أتكئ على الجدار الحجري البارد، "لكنه قوي جدًا."
نظرت إلى مورنا. كانت تجلس في الطرف الآخر من الكهف، وتلمع نصلي سيفيها بقطعة قماش، بحركات ميكانيكية، بطيئة.
لكنني رأيت الحقيقة. التوهج البنفسجي في عينيها كان باهتًا، كجمرتين على وشك أن تنطفئا.
حركاتها، التي كانت عادة حادة وسريعة، كانت الآن بطيئة، وثقيلة. كانت تعاني من نفس الشيء. هذا المكان... كان يمتص أرواحنا ببطء.
"علينا أن نرتاح،" قلت، وصوتي خرج أجشًا، ومتعبًا.
رفعت رأسها ونظرت إليّ.
لم يكن هناك أي سخرية في عينيها هذه المرة. فقط إرهاق عميق، ومطلق.
"الراحة لن تفيد،" قالت بصوت خافت. "هذا المكان... مسموم."
"علينا أن نحاول،" أصررت. "ربما يذهب الإرهاق. لن نتمكن من المضي قدمًا ونحن في هذه الحالة."
أومأت برأسها ببطء، كأن الحركة نفسها تكلفها جهدًا هائلاً.
استلقينا على الأرضية الباردة للكهف، كل منا في زاويته، كجريحين في ساحة معركة، ينتظران إما الشفاء، أو الموت.
أغمضت عيني، لكن النوم لم يكن ملاذًا. كان مجرد غوص في بحر من الكوابيس الرمادية.
رأيت وجوهًا تصرخ بصمت. رأيت خيوط سوداء مقطوعة. ورأيت قمرًا قرمزيًا يبكي دمًا.
عندما استيقظت، لم أشعر بأي تحسن.
لا يزال الإرهاق موجودًا، بنفس القوة، كعباءة من الرصاص ملقاة على روحي.
نهضت، ومشيت بترنح نحو مدخل الكهف.
لكن المشهد في الخارج... كان قد تغير.
الشمس لم تشرق. القمر القرمزي المرعب لم يعد هناك.
بل كان هناك هذه المرة... قمر أزرق؟
"ما هذا؟" تمتمت، وعيناي متسعتان من عدم التصديق.
كان قمرًا هائلاً، يملأ السماء، ولونه أزرق جليدي، باهت. كان يلقي بضوء بارد، شبحي، على العالم، ضوءًا لا يحمل أي دفء، ولا أي حياة.
كان ضوءًا سريريًا، يجعل أشجار العظام البيضاء تبدو أكثر هيكلية، ويجعل ظلالها أشد سوادًا وعمقًا.
لم يكن هذا تغييرًا طبيعيًا في الوقت.
كان تغييرًا في طبيعة الواقع نفسه.
"هذا المكان... يغير قواعده،" فكرت برعب.
"علينا أن نخرج من هنا،" قلت بصوت عالٍ، موجهًا كلامي إلى مورنا التي كانت قد نهضت وتقف خلفي.
قررت أن أذهب. لا يهم إلى أين. فقط أن أتحرك.
أن أهرب من هذا الكهف الخانق، من هذا الشعور بأننا ننتظر الموت.
خطوت خطوة واحدة خارج الكهف، إلى الضوء الأزرق البارد.
لكن لسبب ما... توقفت.
لم يكن قرارًا واعيًا. كان جسدي هو من تجمد.
غريزة بدائية، أعمق من أي فكر، صرخت في وجهي. "لا تتحرك."
في تلك اللحظة من التوقف غير المبرر، سمعت الصوت.
صوت تمزق الهواء.
صوت شيء ضخم، يهوي من السماء بسرعة لا تصدق.
رفعت رأسي.
ورأيت الموت يهبط.
طائر عملاق، أكبر من أي طائر رأيته في حياتي، كان يهبط من السماء الزرقاء الداكنة.
لم يكن يرفرف بجناحيه، بل كان يسقط كنيزك. أجنحته كانت مصنوعة ليس من ريش، بل من آلاف الشظايا الحادة، التي تشبه زجاج السبج الأسود، وكانت تلمع ببرود تحت ضوء القمر الأزرق.
جسده كان نحيلاً، ورشيقًا، ورأسه كان رأس صقر، لكن عينيه كانتا كبيرتين، ومستديرتين، وتتوهجان بضوء فضي، كقمرين صغيرين.
بوووووووم!
هبط عند التمثال الحجري الضخم، على بعد أمتار قليلة من كهفنا، في المكان الذي كنت سأقف فيه تمامًا لو أنني واصلت السير.
قوة الهبوط وحدها حطمت الأرضية الحجرية، وأرسلت موجة صدمة جعلت كهفنا يرتجف.
كان وحشًا من الرتبة الخامسة. "رخ الظل القمري". هالته كانت عاصفة من الطاقة السوداء والفضية، باردة، وحادة كشفرة جليدية.
لكن لم يكن الوحش هو ما جمد الدم في عروقي.
كان الشيء الذي يطفو فوق رأسه.
كانت هناك دائرة سوداء بالكامل، تطفو على بعد سنتمترات قليلة من رأسه.
لم تكن ظلًا، ولم تكن مادية. كانت... فراغًا. ثقبًا صغيرًا في الواقع، على شكل دائرة مثالية، لا يعكس أي ضوء، ولا يصدر أي شيء.
وكان مكتوبًا فوقها، بحروف من ضوء رمادي باهت، كأنها محفورة على الهواء نفسه...
علامة استفهام.
"؟"
"ما هذا... بحق الجحيم؟" تمتمت مورنا بجانبي، وصوتها كان يرتجف لأول مرة.
لم أجب. لم يكن لدي إجابة.
لكن الرعب... لم يكن قد انتهى بعد.
بينما كنا نحدق في هذا المشهد المستحيل، صرخت "عين الحقيقة" في عقلي.
"تحت... الأرض!"
نظرت إلى الأسفل. رأيت طاقة هائلة، أضخم بألف مرة من طاقة الرخ، تتجمع تحت الساحة الحجرية.
الأرض بدأت تهتز بعنف.
تشققات ضخمة بدأت تظهر، وتنتشر كشبكة عنكبوت.
ثم، انفجرت الأرض.
لم تكن انفجارًا. كانت... ولادة.
خرجت من باطن الأرض، في طوفان من الصخور المحطمة والغبار، دودة عملاقة.
كانت ضخمة. ضخمة بشكل فاحش. جسدها، الذي كان مغطى بصفائح بيضاء، متداخلة، تشبه العظام، كان بقطر الكولوسيوم نفسه.
لم تكن لها عيون، لكن مقدمتها كانت عبارة عن فم دائري، هائل، مليء بصفوف لا نهائية من الأسنان التي تشبه شفرات المناشير، والتي كانت تدور بسرعة مرعبة، وتصدر صوت طحن يصم الآذان.
كانت من الرتبة السادسة.
الرخ من الرتبة الخامسة، الذي كان يبدو ك سامي الموت قبل لحظات، أطلق صرخة رعب حادة. حاول أن يطير، أن يهرب.
لكنه لم يكن سريعًا بما فيه الكفاية.
انطلقت الدودة من الأرض، وفمها مفتوح على مصراعيه.
والتهمت الطائر في لحظة.
سمعنا صوت صرخة الرخ وهي تُقطع فجأة، وصوت تكسر وتحطم شظايا السبج وأعظامه وهو يُسحق بين تلك الأسنان الدوارة.
تناثرت بضع قطرات من الدم الأسود، وبعض الريش المكسور، ثم... لم يتبقَ شيء.
أغلقت الدودة فمها، وجزءها العلوي كان يتمايل ببطء في الهواء، كبرج من العظام والموت.
والشيء الأكثر رعبًا...
فوق رأسها... كان هناك نفس الشيء.
دائرة سوداء.
وعلامة استفهام.
ارتعبت. شعرت بأنني على وشك أن أفقد وعيي من الخوف
الخالص. "ربما... ربما تقتحم الدودة الكهف وتدمره."
هذه لم تكن معركة. كانت مجرد... سلسلة غذائية. سلسلة غذائية من الكوابيس.
وكنت أنا ومورنا... في أسفل هذه السلسلة.
نظرت إلى مورنا. كانت ترتجف، لكنها كانت تحاول يائسة أن تبدو عادية.
كانت تمسك بمقبضي سيفيها بقوة حتى ابيضت مفاصل يديها، لكنها كانت تنظر إلى الدودة العملاقة بنظرة تحليلية باردة، مصطنعة.
"حسنًا،" تمتمت، وصوتها كان مرتجفًا قليلاً رغماً عنها. "على الأقل... لن نشعر بالجوع لبعض الوقت. هذا الشيء يكفي لإطعام جيش."
في خضم هذا الرعب المطلق، لم أستطع إلا أن أبتسم ابتسامة باهتة، مجنونة.
حتى في مواجهة نهاية العالم... كانت لا تزال هي نفسها.
الدودة العملاقة توقفت عن الحركة. فمها الدوار صمت.
شعرت بأنها... تستشعر.
تبحث.
ثم، ببطء شديد، مرعب، بدأ رأسها الهائل يستدير... في اتجاهنا.
تجمدت الابتسامة على وجهي.
لقد رأتنا.
لا. لقد... شعرت بنا.
...
...
...
بقيت أنا ومورنا متجمدين في مدخل الكهف لدقائق طويلة، لا نجرؤ على الحركة، ولا حتى على التنفس بصوت عالٍ، كأننا نخشى أن تعود تلك النهاية البيضاء الطاحنة إذا أصدرنا أي صوت.
الساحة الحجرية في الخارج كانت الآن تحمل ندبة أبدية. حفرة ضخمة، سوداء، حيث انشقت الأرض، ولا يزال بخار غريب، كريه الرائحة، يتصاعد منها ببطء في الضوء الأزرق الباهت للقمر.
التمثال العملاق، الذي كان يبكي أغنيته الحزينة، صمت تمامًا، كأنه هو الآخر قد أصابه الهلع.
"لقد... لقد ذهبت."
صوت مورنا، الذي كان همسًا مرتجفًا، كسر حالة الشلل التي أصابتني.
"لماذا؟" تمتمت، والكلمة خرجت مني كحشرجة. "لماذا لم تهاجم؟"
كان الأمر يتجاوز المنطق. وحش بتلك القوة، بتلك الوحشية، رآنا.
شعر بوجودنا. ثم... رحل. الوحوش في هذا العالم لا ترحل.
إنها تقتل.
"لا تسأل أسئلة غبية،" قالت مورنا، وصوتها استعاد بعضًا من حدته المعتادة، كأنها تحاول أن تغطي على رعشة جسدها بالغضب.
"لنشكر حظنا السخيف ونتحرك من هذا المكان الملعون."
لكنني لم أستطع التحرك. كان هناك شيء آخر، شيء يزعجني أكثر من مجرد نجاة غير مبررة.
"تلك الدائرة..." قلت، وأنا أنظر إليها. "الدائرة السوداء فوق رأسها. هل رأيتها؟"
استدارت نحوي، ووشاحها الأسود يرفرف. في الضوء الأزرق، لم أستطع رؤية فمها، لكنني رأيت عينيها البنفسجيتين تضيقان في ارتباك وغضب.
"هل جننت أخيرًا وبدأت تهذي بالهراء؟" قالت، وصوتها كان يقطر ازدراءً.
"أي دائرة تتحدث عنها بحق الجحيم؟ كل ما رأيته كان دودة مقرفة بحجم جبل. لم أرَ أي دوائر سخيفة."
تجمدت. لم ترها؟
"وعلامة الاستفهام؟" أضفت بصوت خافت.
"هل رأيت علامة الاستفهام فوقها؟"
ساد صمت طويل، ومحرج.
"ڤيرتون،" قالت ببطء، كأنها تتحدث إلى طفل مجنون.
"أنت لم تنم جيدًا. أنت مرهق. وأنت الآن تهذي. لا توجد أي دوائر، ولا أي علامات استفهام. توقف عن هذا الهراء قبل أن أضطر إلى ضربك على رأسك لأعيد إليك صوابك."
لم تكن تسخر. كانت قلقة حقًا. قلقة على سلامة عقلي.
وهذا... كان أشد رعبًا.
"أنا الوحيد الذي يراها."
الحقيقة هبطت عليّ كلوح من الجليد. تلك الرموز... الدائرة السوداء وعلامة الاستفهام... لم تكن جزءًا من الواقع المادي.
كانت شيئًا آخر. شيئًا لا تراه إلا "عين الحقيقة". أو ربما... شيئًا لا أراه حتى بـ "عين الحقيقة"، بل بشيء أعمق، شيء مرتبط بهذا "النظام" اللعين الذي يسكن روحي.
هل كانت هذه رسائل؟
تحذيرات؟ أم مجرد أعراض لجنون يزحف ببطء؟
عدت بفكري إلى السؤال الأهم.
"لماذا لم تهاجم الدودة؟"
حاولت أن أركز "عين الحقيقة" مرة أخرى، أن أمسح الساحة، أن أبحث عن أي أثر، أي طاقة متبقية.
لكن رؤيتي كانت مشوشة، كأنني أنظر من خلال زجاج مغطى بالصقيع.
وهنا استوعبت.
"الإرهاق الروحي..." تمتمت. "عندما دخلت الكهف... ما مدى تشوه 'عين الحقيقة' بسبب الإرهاق؟"
لقد كان هذا الإرهاق يمتص طاقتي، نعم، لكنه كان يفعل شيئًا أسوأ. كان يشوه إدراكي.
كان يعمي سلاحي الوحيد. هل كانت قراءتي لهالة الرخ صحيحة؟ هل كانت قراءة الدودة صحيحة؟ أم أنني كنت أرى فقط ظلالاً باهتة للحقيقة؟
إذًا، لماذا تراجعت الدودة؟ لا يمكن أن تكون قد شعرت بالشفقة.
الفكرة التي تشكلت في عقلي كانت مجنونة جدًا، غير منطقية تمامًا، لدرجة أنني ضحكت ضحكة خافتة، فارغة.
"لحظة..." تمتمت، والضحكة ماتت على شفتي.
"...هل كانت الدودة خائفة؟"
"خائفة؟" التفتت مورنا إليّ، والغضب عاد إلى صوتها. "ذاك الشيء الذي ابتلع وحشًا من الرتبة الخامسة كأنه حبة عنب؟ خائفة من ماذا؟ منا نحن؟ لا تكن مثيرًا للشفقة."
"ليس منا..." قلت ببطء، وعيناي تتجولان في الكهف المظلم الذي كنا نقف فيه. "بل من..."
لم أكمل جملتي.
لأن الكهف... اهتز.
لم يكن اهتزازًا من الخارج. لم يكن زلزالاً. كان اهتزازًا داخليًا، عميقًا، كأن قلبًا حجريًا ضخمًا، كان نائمًا لدهور، قد بدأ ينبض مرة أخرى.
بوم... بوم...
صوت مكتوم، ومنتظم، بدأ يتردد من الجدران، ومن الأرض، ومن السقف.
"ما الذي يحدث؟" صرخت مورنا، وهي تستل سيفيها، وعيناها البنفسجيتان تتوهجان بعنف.
ثم بدأ الرعب الحقيقي.
الجدران. الجدران الحجرية الملساء التي كانت تحيط بنا، لم تعد ملساء. بدأت تتموج، كأنها جلد. بدأت تلين، كأنها طين.
ثم، بدأت تبرز منها... أشياء.
أيدٍ.
مئات الأيدي، بدأت تخرج من الجدران، ومن الأرض، ومن السقف.
لم تكن أيديًا هيكلية، ولا أيديًا شبحية. كانت أيديًا حجرية، شاحبة، ذات أصابع طويلة، ونحيلة، ومغطاة برموز رونية باهتة كانت تتوهج بضوء أزرق مريض.
كانت تخرج بصمت، وتتحرك ببطء، وتتلمس الهواء، كأنها أيادي عميان يبحثون عن شيء يمسكون به.
"اللعنة!" صرخت، وتراجعت إلى الوراء، لكن المزيد من الأيدي كانت تخرج من الأرض خلفي.
ثم، نظرت إلى المخرج.
"المخرج... إنه يبتعد!"
لم يكن وهمًا. الفتحة التي دخلنا منها، والتي كانت على بعد خطوات قليلة، كانت الآن تبدو أبعد، والممر المؤدي إليها كان يطول، ويتشوه، والجدران على جانبيه كانت الآن مغطاة بالكامل بتلك الأيادي الحجرية المتلوية.
"لقد استيقظ."
الكلمات خرجت مني كحشرجة، والبرد في روحي كان أشد قسوة من أي برد شعرت به من قبل.
"عين الحقيقة" كانت تصرخ الآن في عقلي، ليس بضجيج أبيض، بل بكلمات واضحة، مرعبة، كأنها حكم إعدام.
[كيان مكتشف: جينيوس لوسي - سومنوس كافيرنا (الكهف النائم)]
[الرتبة: السادسة]
[المستوى: مرتفع]
[الحالة: يستيقظ]
وفهمت. فهمت كل شيء.
الدودة... الدودة من الرتبة السادسة، ومستواها منخفض، لم تكن خائفة منا.
كانت خائفة من هذا الشيء. كانت خائفة من إيقاظ هذا الكائن الأقدم، والأقوى.
لقد شعرنا بالأمان في هذا الكهف، لكننا في الحقيقة... كنا قد دخلنا إلى فم وحش نائم.
والآن... لقد استيقظ.
صرخت مورنا صرخة غضب ورعب، وبدأت تقطع الأيدي الحجرية التي كانت تقترب منها.
كانت سيوفها تترك خدوشًا عميقة في الحجر، لكن المزيد من الأيدي كانت تخرج لتحل محلها.
وأنا... كنت متجمدًا.
أحدق في هذا الكابوس المتجسد، في هذا القبر الذي أصبح واعيًا.
ورأيت يدًا حجرية، أكبر من الأخريات، ترتفع من الأرض أمامي مباشرة.
كانت تتجه نحو وجهي.
بطيئة.
حتمية.
كأنها يد القدر نفسه، قادمة لتسحبني إلى الظلام.
ولم يكن هناك أي مكان... للهرب.