لم يكن هناك شيء…
لا بداية، ولا أرض، ولا حتى حبر.
ثم، كما يُسحب السيف من غمدٍ منسي، وُجد "هو".
ليس من رحمٍ وُلد، بل من فراغ سُطِّر، كأن صفحةً بيضاء استدعت وجوده لتمنع بياضها من البكاء.
لم يُكتب له اسم، بل لقّبه الناس حسب ما رأوه فيه:
الشخص المجهول.
شاردٌ عن النص، شاردٌ عن الأقدار، شاردٌ عن سؤالٍ لا يعرفه، لكنه يسكن عينيه.
وقف المجهول فوق مرتفعات "إيستالا"، إحدى قرى العالم الظاهر.
نسيم خفيف يتراقص حوله، لا يحمل رائحة ولا ذاكرة، كأنّه كان ينتظره فقط ليبدأ الزمن.
شَعرُه الأسود الطويل كان مربوطًا بخيطٍ من قماش قديم، أما عينيه فكانتا أهدأ من أن تُفهم… وأعمق من أن تُنسى.
طوله يفوق المألوف ببضع إنشات،
جسده منحوت دون مبالغة، كأنّ الحركة خُلقت فيه قبل العظم.
ثيابه سوداء بالكامل:
عباءة طويلة ذات قماش ثقيل، تلتف حول جسده وكأنها تحجب الضوء نفسه، تحمل زواياها قطعًا من الظل، وتترك آثارًا من الظلمة في كل خطوة يخطوها.
درعٌ جلدي أسود يتناغم مع العباءة، وسيف طويل يُحمل على ظهره، مغلفٌ بقماش أسود غارق في صمتٍ غير مُسموع.
على نصل السيف، علامة غريبة محفورة بلون رمادي باهت، كأنها رماد من الزمن نفسه:
"السطر الأخير هو بداية الشك."
لم يكن يتذكر من أين جاء…
ولا من زرع في قلبه هذا الحنين الغريب إلى شيءٍ لا اسم له.
لكنه كان يعرف شيئًا واحدًا:
هناك نهاية… مكان ما، أو لحظة ما، كتبها أحدهم.
وهو، المجهول، يريد الوصول إليها… لا ليموت، بل ليفهم.
كانت أول خطواته في عالمٍ لا يؤمن به تمامًا.
وفي عينيه، نظرة من يعرف أنه ليس بطلًا، ولا مجرد شخصية… بل سؤال يمشي.
مرّ بأول قرية دون أن يتكلم،
راقب الناس وهم يكرّرون حياتهم كما يكرّر السارد جملاً مريحة.
في نظره، كان كل شيء مألوفًا أكثر من اللازم.
الوجوه متشابهة، الحوارات محفوظة، التصرفات متوقعة… كأنّ أحدهم يُملِي على الجميع من كتابٍ لا يملك غلافًا.
وفي أحد الأزقة، سمع رجلًا يُخبر ابنه:
"لا تخرج عن النص يا بني… من فعلها، لم يُكتب له عودة."
لكنه كان قد خرج.
كان يسير في الاتجاه المعاكس تمامًا.
وفي الليلة الأولى، عندما جلس وحيدًا تحت ظل شجرة لا تحمل أوراقًا،
سأل نفسه:
"من كتبني؟ ولماذا؟"
لكن الريح أجابت بصمت، كما تفعل منذ الأزل.
في تلك الليلة… حلم المجهول بكتاب.
كتاب لا يحمل عنوانًا، ولا صفحة أولى.
صفحاتُه كانت بيضاء… لكنها تنبض.
وعندما مدّ يده إليه…
شعر بأن الكتاب ينظر إليه أيضًا.
استفاق فجأة.
الليل لا يزال مطبقًا، والقرية تغفو خلفه بصمتٍ مصنوع.
لكن قلبه كان مختلفًا، ينبض كأنه يستعد لشيء… ليس قادمًا، بل مكتوبًا.
في الأفق، ظهرت أول خريطة.
لم تكن رسمة ولا ورقة.
بل شعورٌ داخلي:
أن هذا العالم، بتفاصيله المُبعثرة، مُقسم بطريقة لا يمكن للعقل أن يخطئها.
لقد بدأ يدرك.
العالم ليس واحدًا.
وإنما:
17% منه معروف ويسكنه الناس، يعيشون في سردٍ مألوف، يخافون المجهول، ويُكررون التاريخ كما يُملى عليهم.
18% منه يُعرف بـ"منطقة الألف" — أرض الشكوك، حيث القصص غير المكتملة، حيث الحكايات المتوقفة، حيث الناس يتكلمون عن ما كان يمكن أن يكون أكثر مما يتكلمون عن ما هو.
22% هي "منطقة الشياطين"، حيث الاحتمالية تنفجر بلا قيود، حيث من يتكلم يُمكن أن يُكتب، ومن يحلم يمكن أن يُحارب، حيث كل شيء مسموح لأن كل شيء غير محسوب.
3% فقط من العالم هو منطقة محايدة، مجرد فسحات بين الممالك، صمتٌ وسط عاصفة، محطة الراصدين والعابرين.
وأخيرًا… 40% من العالم هو المجهول. غير مكتشف.
منطقة لا توجد في كتب، لا تُروى في أساطير، يُقال إن من يدخلها لا يُذكر بعد ذلك أبدًا.
وهو؟
يريد أن يمشي نحو ذلك الفراغ… لا بحثًا عن نهاية فقط، بل عن من كتب البداية.
أكمل سيره مع أول ضوء للفجر.
تحت أقدامه، الأرض لم تكن طبيعية.
كان يسمع الكلمات تحت التراب — جملًا غير مكتملة، اقتباسات ممزقة، نوايا ميتة.
كان يُدرك أن هذا العالم لا يتنفس هواءً… بل سردًا.
وفي طريقه، بدأ يلاحظهم.
العيون.
وجوه تتبع خطواته من نوافذ صامتة،
أصوات تتكرر دون أن تتغير،
وهمسات تُقال مرارًا كل صباح، وكأن اليوم يعيد نفسه على خشبة مسرحٍ لا جمهور فيه.
لكن رغم هذا… كان يشعر أن هناك آخرين.
شخصيات تشبهه.
تمشي خارج الجمل.
تتحدث بصوتٍ ليس مكتوبًا.
ربما لم يرهم بعد…
لكن إحساسه بهم كان يطغى على يقينه الوحيد.
وفجأة، دون سابق إنذار، رأى أول أثر.
حروف محفورة على حجر قديم، في منتصف الغابة:
"لا تبحث عن الكاتب… إلا إذا كنت مستعدًا لتُمحى."
قرأ الجملة، ثم لمس الحجر.
لم يَشعر بشيء… لكن الكتاب في حلمه، عاد إليه، ولو للحظة.
وهنا، في عمق قلبه، تكوّنت نية لا رجعة فيها:
سيجد الكاتب.
سيفهم الرواية.
وإن لزم الأمر… سيكتب النهاية بنفسه.
حين خطا تلك الخطوة التي تلت قسمه، أحسّ بشيءٍ يزأر تحت قدميه.
لم يكن صوتًا مسموعًا، بل اهتزازًا، كأن الأرض تجاوبت مع وعده.
أكمل سيره، والضوء بدأ يخفت، والسماء تحوّلت إلى لون الحبر الباهت.
غابة كثيفة تَمتد أمامه. الأشجار فيها لا تنتمي لعالمٍ واحد — بعضها يملك أوراقًا تتساقط إلى الأعلى، وبعضها لا ظل له.
كان يتوقع الصمت… لكنه سمع عكازًا يطرق على حجر.
خطوات متثاقلة.
أنفاس بطيئة… ورائحة خشبٍ قديم وأوراق مبللة.
ثم، من وراء شجرة ملتوية، خرج رجلٌ مسن.
ملامحه لا توحي بالزمن… بل بشيءٍ أقدم من الزمن.
خليدوس.
كان يرتدي عباءة رمادية رثّة، لكنها لا توحي بالضعف، بل بالخبرة.
لحيته بيضاء كثيفة، عينيه ضيقتين، تحملان لمعةً طفيفة كأنهما تتذكران شيئًا لا أحد سواه يذكره.
على ظهره، كيس صغير من الجلد.
وفي يده، عكاز منحوت عليه رموز لم تُر من قبل.
توقف العجوز على بعد أمتار، ونظر نحو البطل بنظرة لا تُفسر.
ثم قال بصوتٍ مبحوح:
"أنت… لستَ أول من يمشي خارج النص. لكنك أول من لم يرتجف."
لم يردّ البطل.
اقترب العجوز خطوة:
"هل رأيت الكتاب؟"
هنا، تغيرت نظرة البطل قليلًا، لكنه لم يتكلم بعد.
ضحك خليدوس، هزّ رأسه، ثم جلس على صخرة قريبة كأنّه انتظر هذا اللقاء منذ قرون.
"الكتاب لا يظهر إلا لمن يتكسر الحبر في عينيه. لكنه ليس هدية… بل لعنة."
رفع البطل رأسه أخيرًا، وسأل بصوت هادئ:
"من أنت؟"
رد العجوز دون أن ينظر إليه:
"أنا من نسوني في السرد… رجلٌ كُتب لي أن أعرف، ثم مُنع عني أن أتكلم. ولكني تعبت من الصمت."
سكت لحظة، ثم أضاف:
"إن أردت أن تعرف النهاية… عليك أولًا أن تفهم البداية.
والكلّ يخاف من البداية… حتى الكاتب."
اقترب البطل أكثر، لم يعد يحمل نظرة الحذر، بل الرغبة في المعرفة.
قال العجوز أخيرًا:
"اسمي… خليدوس.
وسأريك أول طريق… لكن مقابل ذلك، عليك أن تجاوبني على سؤال واحد:
هل ستكمل القصة… إن علمت أنك مجرد احتمال؟"
سكت البطل.
نظر إلى السماء… ثم إلى الأرض… ثم إلى العجوز مباشرة.
ولم يجب.
هنا…
ابتسم خليدوس، كأن الإجابة قد قيلت.
وقال:
"إذًا تعال. لقد بدأت."
ثم نهض، وأشار بعكازه نحو ممر صغير في الأشجار، لا يمكن رؤيته إلا من زاوية واحدة.
طريقٌ لا يعبره من يُكتب له أن يرجع كما كان.
وهكذا…
وبدأت الرحلة.