لم يكن الطريق إلى كوخ "خليدوس" طريقًا بالمعنى المعروف، بل تشققًا في القشرة الظاهرة للعالم.
كل شجرةٍ على جانبيه بدت كأنها تحرسه، وكل خطوة فيه كانت تحتاج موافقة لا تُسمع.
السماء رمادية لا تمطر.
الريح خافتة لا تهب.
كأن الزمن نفسه يُبطئ ليمنح لحظةً لشيء سيُولد.
وحين وصلا، لم يكن الكوخ سوى بناء خشبي متهالك، يتحدّى فكرة الزمن.
لا نوافذ، لا بابٌ حقيقي، فقط ستار من حبال سوداء يتدلّى كأنها ألسنة قصصٍ لم تُروَ بعد.
دخل "خليدوس" أولًا.
ثم تبعه البطل بخطواتٍ حذرة، وقلبه ينبض كما لو أن في الهواء قصيدةً قديمة نُسيت لكنه تذكّرها الآن.
كان الكوخ من الداخل صغيرًا، لكنه ممتلئٌ بما لا يُحصى.
طاولةٌ دائرية في المنتصف، عليها شمعة صغيرة لا تذوب.
أربعة كراسٍ خشبية، كل واحدة منها تبدو وكأنها صنعت في عصرٍ مختلف.
ورفٌ طويل يعتلي الجدار… يحمل عشرات الكتب ذات الألوان والأحجام والأنفاس المختلفة.
لكل كتابٍ حضور.
لكل غلافٍ شخصية.
لكل عنوان… اعتراف.
اقترب البطل، دون أن يلمس شيئًا.
سأل بصوت خافت:
"هل هذه… كتب سرد؟"
أجابه "خليدوس" بنبرة لا تشرح، بل تكشف:
"بل كتب أرواح.
هذه ليست أدوات.
هذه… نتائج."
سكت قليلًا، ثم أضاف:
"كل كتاب هنا… هو قصة عُيشت حتى نهايتها المفتوحة.
بعضهم نجا. بعضهم تلاشى.
البعض الآخر… لم يُكمل، لكن قصته كُتبت برغم ذلك."
اقترب البطل أكثر، فرأى كتابًا أزرق داكنًا عليه عنوان محفور:
"الندم ليس خاتمة، بل باب آخر."
قال "خليدوس"، وهو يلمس ظهر أحد الكتب برفق كما لو أنه يمسح على كتف صديق قديم:
"القصة يا بُني… ليست حكاية تُحكى.
إنها شق في الروح، يُنبت داخلك احتمالًا جديدًا للوجود."
رفع عينيه نحو البطل وقال:
"ليس كل من يسير على قدميه، يحمل قصة.
كثيرون يمضون… دون أن يختبروا شيئًا يجعلهم يُكتبون."
جلس الاثنان عند الطاولة، بينما الشمعة تقذف ظلالًا كأنها وجوه تتكلم.
قال "خليدوس":
"القصة تمنحك ما لا يمنحه الزمن:
احتمالية.
حين تُكتب، تُصبح وجودًا ذا فروع… وكل فرع هو فرصة للفوز، أو للهرب، أو للدهشة."
وأشار إلى أحد الكتب وسحب كتابًا بنيًّا عليه ختم ناري.
"هذا، صاحبه لم يكن قويًا، لكنه قرر حماية من تبقى في قريته.
لم يتراجع، لم يطلب شيئًا… صمد فقط.
ومن قصته، وُلدت له مهارة:
[حارس الجمر]
قدرته أن لا تحترق روحه، ولا يخمد عزمه."
أعاد الكتاب مكانه ثم همس:
"بعض القصص تولد لك مهارة واحدة لا يهزمها شيء.
وأخرى… تمنحك ألف مهارة، لكن لا تنجو لأنك لم تؤمن بأيٍّ منها."
اقترب من البطل وقال ببطء:
"كل كتاب له عنوان… يمثل فلسفة صاحبه.
وغلافه… هو مرآة روحه."
نظر إلى رف الكتب مجددًا وتابع:
"الكتاب يُفعّل عندما تنكسر.
وعندما تُجبر على القرار.
حينها… تخرج أول صفحة.
وكل مهارة داخله… هي فصلٌ من فصولك التي اخترتها بدمك."
ثم أردف، وصوته أكثر حدة الآن:
"لكن هناك من لا يملك الصبر لذلك.
هناك كتّاب مزيفون.
يدفعون الاحتمالية كما تُدفع الرشاوى،
يسرقون صفحات من كُتب غيرهم،
أو يشتركون مع آخرين ليُخادعوا العالم."
اقترب أكثر، وقال بنبرة خافتة:
"لكن أنت… مختلف.
لقد رأيت كتابك في الحلم، أليس كذلك؟
ذلك الذي بلا عنوان، مغلّف بالسواد، تتصاعد منه رموز لا تُقرأ؟"
هزّ البطل رأسه ببطء.
ابتسم "خليدوس" وقال:
"ذلك هو كتاب البذرة.
لم يُكتب بعد… لكنك على وشك أن تبدأه."
ثم نهض وسحب صندوقًا حجريًا صغيرًا من زاوية الكوخ، فتحه بحذر، وأخرج منه كتابًا مغلقًا بسلسلة حديدية، بلا عنوان.
"هذا الكتاب… ينتظر أول فصلك.
وأول اختبار… قادم الليلة."
حدّق في عينيه وهمس:
"سأرسلك إلى مكانٍ خارج الخريطة.
وهناك… إما أن تُكتب، أو تُنسى."
أدار ظهره، وأخذ نفسًا طويلًا وكأن الهواء نفسه له وزن.
"استعد.
فأول كلمة… تكتب من دمك."
وهكذا، لم يخرج البطل من الكوخ محمّلًا بإجابات، بل بأسئلةٍ أكثر.
أسئلة لا يُراد لها جواب، بل تُكتب في الطريق.
وكان في الغابة، خلف الظلال…
عيونٌ أخرى ترقب المشهد بصمت.
عيونٌ لا تقرأ…
بل تُصحّح.