كان الليل يتثاءب على مهل، يمد ظلاله الطويلة فوق الحقول والطرق الصامتة، كما لو أنه يبتلع آخر ضوءٍ للوعي.
البطل خرج من الكوخ دون أن يلتفت خلفه.
بين يديه كتاب لا يحمل عنوانًا، لكنه أثقل من السيوف وأخفّ من الندم.
خطاه تقوده بعيدًا عن الصوت، لكنه لم يبتعد عن الصدى بعد.
الكوخ، خلفه، ما زال يطوي أسراره كأنّه لم يُفتح منذ ألف عام.
في اللحظة التي اختفى فيها ظل البطل بين الأشجار المائلة،
تحرك شيءٌ آخر في العتمة.
لم تُفتح الباب… بل تراجعت الحبال المعلّقة وحدها، كأنها تعرف الزائر قبل أن يصل.
دخلت فتاة لا تتجاوز 18 سنة، عمرها مُعلق بين رصانة التجربة وحدّة الغريزة.
كانت يوكيو ألفورد.
طولها متناسق، لكنّ وقفتها كانت تفرض حضورًا لا يحتاج إلى صراخ.
شعرها الأسود الحريري ينسدل على كتفيها بسلاسة، كما لو أنه يحمل ذكرى لم تُقال.
على خصرها، كاتانا ذات غمد أسود لماع، تنعكس عليه ألسنة الضوء من الشمعة الوحيدة في الكوخ.
لكن أكثر ما يُؤخذ منها… عيناها.
سوداوان كالفراغ، لا يرمشان كثيرًا، ولا يُفصِحان عن نواياهما.
في نظرتهما... ألف سؤال، ولا جواب.
جلس خليدوس على مقعده الخشبي القديم، وكأنه لم يتحرك منذ غادر البطل، لكنه تنفّس فجأة، كما لو أن الهواء دخل صدره لأجلها فقط.
قال بصوت خافت، يخلطه شيء من الذكريات:
"لقد تأخرتِ… يا يوكيو."
أجابت بنبرة هادئة، لا تحمل ودًا ولا عداء، فقط يقينًا:
"لم أتأخر… بل انتظرت حتى خرج."
جلست حيث جلس البطل قبل دقائق. وضعت سيفها بجانبها كما توضع الحقيقة قرب القصص الكاذبة.
مرّت لحظة صمت، لكنها لم تكن فراغًا… بل امتلاءً لا يحتاج إلى كلام.
قالت بعد أن نظرت نحو الكأس الفارغ:
"أهو هو؟"
قالها الصوت، بلا ذكر اسم، بلا توصيف.
أجاب خليدوس:
"هو، أو سيكون.
الكتاب اختاره، أو لعلّه اختار الكتاب."
سألته بنبرة أكثر هدوءًا، عميقة كالماء في بئر بلا قاع:
"هل تظنه سيكتب النهاية؟"
رد العجوز وهو يطرق بظفره على الخشب:
"هو لا يعرف بعد أن الورق يحترق حين تُكتب الحقيقة.
لكنه سيعرف… إما عندما يكتبها، أو عندما يُمحى."
وقفت يوكيو بهدوء.
أخذت سيفها، نظرت إلى الشمعة التي ما زالت ترفض الذوبان، ثم قالت:
"سأتّبع أثره دون أن أُشوّش خطاه.
إن تاه، سأقف على مفترق الطريق.
وإن انكسر… سأجمع شظاياه دون أن يلاحظ."
اقتربت من الباب، ولكن قبل أن تغادر، قالت بصوت منخفض:
"إنه يشبه الماضي… لكنه لا يعرف أيّ ماضٍ يخصه."
ردّ خليدوس بنظرة طويلة نحو الظلام:
"لأن بعض القصص لا تُروى… بل تعاد."
**
في الخارج، كانت السماء سوداء كما لم تكن من قبل،
وفي أعماق تلك العتمة… بدأت قصّة أخرى،
بصمتٍ، بقناع، وبسيف لا يُسحب إلا حين تتكلم الروح.
...
في نفس الوقت، على بُعد خطواتٍ من الكوخ الذي بدأ يعود إلى سباته الخشبي،
كان البطل يشقّ طريقه بين الأشجار الرمادية،
السماء من فوقه، لا نجوم فيها، فقط سُحب تتشكل كما لو أنها تُراقب سيرته.
صوته ساكن، وخطواته تحفر أثرًا في الطين لا يراه أحد.
في داخله، كانت يداه تمسكان بالكتاب الأسود المغلق،
كأنه يحمل جرحًا لا يُظهره، لكنه لا يستطيع تركه.
الكتاب لا عنوان له، لكن الجلد المحيط به كُتب بلغة لا تنتمي لأي زمن.
كان ينبض.
لا مجاز هنا.
هو حرفيًا ينبض.
شعر به في راحة يده.
كأن قلبًا صغيرًا فيه يخفق على إيقاع خطواته.
أحسّ أن كلما اقترب من المجهول، نبض الكتاب يزداد، وكأنه يرشده… أو يُحذّره.
مرّ بغابة من الأشجار المتآكلة، التي كانت تهمس فيما بينها.
بعضها قال: "لقد تحركت القصة."
والبعض الآخر همس: "ها هو حامل الظل."
لم يكن البطل يعلم وجهته بدقة.
هو لم يكن يبحث عن مكان، بل عن شعور.
الشعور بأنه يعرف من هو…
ولماذا الكتاب اختاره.
حين جلس عند جذع شجرة ضخمة، أخرج الكتاب، وضعه على ركبتيه، وسأل نفسه:
"هل أنتَ من تكتبني… أم أنا من يكتبك؟"
ولم يجبه أحد…
لكن الريح حركت صفحة.
فتحها ببطء.
وإذا بالحبر يبدأ بالظهور من العدم،
كأنه يُكتَب أمامه الآن،
سطرٌ… فسطر… حتى امتلأت الصفحة بجملة واحدة:
"لا يكتب المصير إلا من مشى على حدوده."
شهق.
نظر حوله.
لم يكن هناك أحد.
لكن داخله…
شعر أنه يُراقب.
ثم أغلقت الصفحة بنفسها.
ارتجف الكتاب.
للحظة، بدا له أن شيئًا ما بداخله يستيقظ.
لم يكن يعرف أن الكتب في هذا العالم ليست فقط مجرّد حكايات.
بل أدوات…
بل أكوان كاملة…
كل كتاب يحتوي على قصة،
وكل قصة تمنح صاحبها مهارات وتقنيات، تختلف باختلاف فلسفته، وألمه، وما كُتب فيه.
القصص ليست خيالًا هنا، بل سُلّمٌ إلى القوة،
لكن كل سُلّم يرتفع… يسقط تحته ظلٌ أطول.
نهض البطل مجددًا.
الطريق أمامه لا زال مجهولًا،
لكن في داخله، كان شيء ما قد بدأ يتغير.
وفي مكان بعيد، لم يكن يعرفه بعد،
كانت فتاة تراقب خطواته بصمت،
تحمل سيفًا لا يُسحب عبثًا،
وتنتظر لحظة الفصل… بين المكتوب، والكاتب.