مدينة سينا كانت مشهدًا لا يُنسى. بل كانت، بالنسبة لأبصار القادمين إليها، لوحة حية من الألوان، مزجت بين الفخامة والعشوائية، وبين الطبيعة والحداثة. الشوارع الواسعة التي كانت تتناثر فيها الأكشاك المتنوعة، والأبنية المتعددة الطوابق التي تشق السماء، كانت تعكس تاريخًا طويلًا لم تُمحَ معالمه. كانت المدينة تشرق كل صباح وكأنها تُفاجئ العالم بحيويتها.
عند مداخل سينا، كانت النسمات العطرة من الزهور البرية تلامس الوجوه، بينما عبق البهارات والتوابل التي كان يُباع بعضها في الأسواق القديمة ينتشر في الجو. المدينة كانت نابضة بالحياة، مليئة بالتناقضات: الأصوات العالية للبائعين الذين يروجون لسلعهم، والهدوء الغريب الذي كان يحيط يوكيو ألفورد في كل لحظة تمر بها.
في قلب سوق مدينة سينا، كانت الألوان تتراقص في الهواء، روائح الزعفران، الفواكه المجففة، والعطور الشرقية تملأ الأرجاء. لكن وسط كل هذا الزخم، كان المشهد الأكثر غرابة في أعين الناس هو فتاة ذات حضور لا يمكن إنكاره.
كانت يوكيو تمشي بخطى ثابتة إلى جوار ساي، وجهها هادئ لكن ملامحها لا تخلو من الغموض. وجهها بيضاوي، بشرتها ناصعة الصفاء كخزف براق، خديها يحملان احمرارًا طبيعيًا يزداد وضوحًا كلما توقفت أمام أحد الأكشاك، وعيناها سوداوان لامعتان كأن فيهما ليلًا لا ينتهي.
ما إن توقفت أمام كشك الحلوى الأول حتى انحنت قليلًا نحو الزجاج الملون الذي يحوي عشرات الأصناف: مصاصات دوامية، مكعبات سكّر منكهة بالنعناع والورد، أقراص فواكه مجففة مغمسة بالعسل، وسكاكر صلبة مزينة ببتلات زهرية صغيرة.
مدّت يدها، وأخذت مصاصة حمراء لامعة. نظرت إليها لحظة قبل أن تضعها في فمها ببطء. وما إن تلامست مع لسانها حتى احمرّ خدها بشكلٍ خفيف، وكأنها فوجئت بشيء لم تتوقعه.
ساي، الذي كان يقف بجانبها، لمح الاحمرار ورفع حاجبًا بدهشة.
«هل هذه أول مرة تتذوقين فيها حلوى؟»
ردّت وهي تحاول أن تحافظ على نبرة محايدة:
«لا… فقط نسيت الطعم.»
لكنه لاحظ أنها لم تسحب المصاصة، بل أبقتها في فمها، تمتصها بهدوء. لم تكن تتصرف كمن تستمتع، لكنها لم تتوقف.
ثم، وبصوت خافت يشبه الهَمْس، قالت للبائع:
«كلّ ما لديك… أريده.»
اتسعت عينا الرجل بدهشة.
«كـ… كـل شيء؟»
«كل شيء… عدا الشوكولاتة.»
سحب ساي نفسًا عميقًا وهو يراقبها تخرج كيسًا صغيرًا مزيّنًا بختم فضي من داخل عباءتها، ثم فتحت فمها وتمتمت بكلمة بلغة نادرة، فانبثق من يدها ضوء أزرق خافت تشكّل في الهواء على هيئة دائرة معقّدة من الرموز السحرية.
إنه سحر التخزين النادر… مهارة شبه منقرضة لا يعرفها إلا القلة.
بدأت السكاكر تُسحب واحدةً تلو الأخرى إلى داخل الحقل السحري، ثم تختفي وكأنها ذابت في الهواء.
البائع لم يعرف ماذا يقول، لكنه لم يعترض ما دامت القطع الذهبية تنهال عليه كالمطر.
قطعة تلو الأخرى، ثم عشرات، ثم مئات القطع الذهبية مرصوصة على الطاولة أمامه.
ثم انتقلت يوكيو إلى الكشك المجاور، ثم الذي بعده. في كل مرة تكرر المشهد:
– اختيار كل الحلوى.
– استثناء الشوكولاتة دون حتى النظر إليها.
– استخدام سحر التخزين.
– دفع ثمنٍ باهظ دون أن تساوم.
همس ساي وهو يمشي بجانبها:
«هل تحاولين فتح متجر للحلوى في المستقبل؟»
قالت بصوت خافت، والمصاصة لا تزال في فمها:
«لا. فقط أريدها قريبة… لا أعرف إلى متى سأستمر في تذوقها.»
رغم برودتها، كانت كلماتها توحي بشيء عميق لا تود الحديث عنه.
في الأثناء، بدأ الناس يلاحظون. كان من النادر رؤية فتاة بهذا الجمال الصامت، بوجهها الطفولي الهادئ، تسير وسط السوق تشتري الحلوى كأن لا شيء آخر في العالم يهم.
سيف الكاتانا يتدلّى من خصرها بثقة قاتل، وعيناها لا تكشفان شيئًا.
بدأ البعض يهمس:
«أميرة؟»
«هل هي من مملكة نائية؟»
«ربما من سلالة ملكية، من تلك العائلات الخفية…»
لكن لا أحد عرف أنها يوكيو ألفورد، الابنة الصغرى لأقوى عائلة في العالم. هويتها كانت سرًا دفينًا تحت قناع من البساطة القاتلة.
وفي لحظة، وبينما كانت تدفع ثمن كميات هائلة من المصاصات عند أحد الأكشاك، ظهر بعض الأطفال المشردين بين الأزقة، عيونهم تتبعها بشغف، يلاحقون نظراتها دون كلمة.
نظرت يوكيو إليهم، ثم نظرت إلى يدها، ثم إلى المصاصات.
اتجهت نحوهم دون أن تُسأل، وطلبت من البائع أكياسًا إضافية، ثم أعطت لكل طفل كيسًا ممتلئًا بأنواع الحلوى، خصوصًا المصاصات الملونة.
لم تبتسم، لكنها انحنت قليلًا عند تقديمها، ويديها بثبات محارب.
أخذ الأطفال أكياسهم، وبعضهم بدأ يبكي، وآخرون احتضنوا السكاكر كأنها أثمن ما يملكون.
ساي تمتم وهو يقف بجانبها:
«لستِ باردة كما تدّعين.»
نظرت إليه، والمصاصة لا تزال في فمها. خديها لا يزالان محمرّين قليلًا من السكر، لكنها لم تُعلّق.
بعد أن أنهت شراء الحلوى وتوزيعها على الأطفال، واصل ساي ويوكيو السير في شوارع السوق الرئيسية لمدينة سينا، حيث تزينت المتاجر بواجهات زجاجية براقة، وامتلأت الرفوف بكل ما يخطر على بال من أدوات سحرية، وكتب قديمة، وأسلحة نادرة، وملابس مصممة من خيوط مانا مضغوطة.
دخل الاثنان متجرًا ضخمًا خاصًا بالمعدات القتالية والدروع الخفيفة. راح ساي ينظر إلى القطع المعلقة دون أن يقترب من أي شيء. على عكسه، كانت يوكيو تسير بخطوات واثقة، عينها تقيّم كل قطعة بحدّة عسكرية مدربة.
ثم توقفت أمام رف صغير يحتوي على أقنعة سحرية بتصميمات متنوعة، التفتت نحوه وقالت:
«اختر ما يعجبك.»
رفع ساي حاجبيه في استغراب:
«أقنعة؟»
فأجابت بهدوء:
«أو أي شيء تريده. ملابس، سلاح، كتاب… أي شيء. اعتبره شكرًا.»
«شكرًا على ماذا؟» سأل باستغراب، رغم أنه بدأ يشك فيما تقصده.
نظرت إليه لوهلة، ثم قالت بصوت خفيض لا يخلو من الصراحة:
«لأنك حملتني على ظهرك طوال الطريق من الوادي بعد معركتنا مع تنين الهايدرا… بينما كنت غائبة عن الوعي.»
اتسعت عينا ساي قليلًا، لكنه سرعان ما هز رأسه:
«أنا فقط… كنت أردّ الجميل. أصبتِ بسببي. الهايدرا كان سيقتلني لو لم تتدخلي.»
«لم أطلب منك تفسيرًا، فقط خذ شيئًا.»
«لكن المال… أعتقد أنه من الأفضل الاحتفاظ به للمزاد.»
لم يكن رفضه نابعًا من الكبرياء، بل من حسّه العملي المعتاد. إلا أن يوكيو أصرّت، وقالت بنبرة غير قابلة للنقاش:
«لست قلقًا على المال… ولن تنفد مواردي.»
ظل ساي صامتًا لثوانٍ، ثم تنهد وقال:
«هل أنتِ دائمًا هكذا؟ تَصرّين على دفع ثمن كل شيء؟»
قالت وهي تميل نحو رف يحتوي على عباءة سوداء مشبعة بالطاقة:
«عندما أقرر شيئًا، نعم.»
أخذ ساي نفسًا، ثم اقترب من طاولة فيها خناجر مطعمة بالأحجار السحرية، وراح يتفحص واحدة منها بهدوء. ثم تمتم وكأنه يفكر بصوت مرتفع:
«هل عائلتك هي من وفرت لك كل هذا؟ أعني… هل عائلة ألفورد وراء كل هذا الغنى؟»
فجأة، توقفت يوكيو عن الحركة. التفتت إليه ببطء، عينها تركزت عليه بثبات، وصوتها منخفض، يكاد يكون حادًا:
«من أخبرك؟»
بدا على ساي الارتباك للحظة، لكنه لم يحاول الكذب.
«جاسمين… قالتها عرضًا البارحة.»
سادت لحظة صمت.
عادت يوكيو لتسير، لكنها لم تضف كلمة واحدة. ومع أن ملامح وجهها بقيت كما هي، كان واضحًا أن شيئًا تغير في الجو.
نظر ساي نحوها، ثم قال بهدوء:
«أعتذر… لم أكن أقصد التطفل.»
قالت دون أن تلتفت إليه، بصوت ناعم لكنه واضح:
«لا بأس.»
وبينما كانت تتقدم بين الرفوف، مدت يدها وأخذت عدة صناديق من الحلوى الفاخرة الخالية من الشوكولاتة، وأدخلتها في سحر التخزين بهدوء.
قالت بعدها، وكأنها تطوي صفحة الحديث السابق:
«اختر شيئًا قبل أن أغيّر رأيي.»
ابتسم ساي بخفة، ثم قال:
«حسنًا… سأفعل.»
بينما واصلا التجول في المتجر، جذب بريق ناعم من ركن جانبي أنظار ساي. هناك، خلف صندوق زجاجي مضاء، كان سيف طويل ذو نصل فضي مائل إلى الزرقة، يضفي وهجًا بارداً خفيفًا على كل ما حوله. مقبضه مغطى بجلد أسود داكن محفور عليه نقش ناعم بالرموز القديمة، أما الجزء الأقرب للقبضة فكان محفوفًا بخيوط دقيقة من مادة تشبه البلور، تتوهج بإيقاع بطيء وكأنها تتنفس.
اقترب ساي ببطء، وكأنه منوَّم. مدّ يده بخفة إلى الزجاج، ثم تمتم:
«…هذا هو.»
سمعت يوكيو صوته، فأدارت رأسها نحوه وسارت إليه. لم تتكلم، بل وقفت بجانبه تنظر إلى السيف.
همس ساي دون أن يحوّل عينيه:
«أشعر وكأنه… ناداني.»
قالت يوكيو بعد لحظة صمت:
«سيف ذو وعي. ليس من النوع الذي تختاره، بل هو من يختارك.»
نظر إليها، فوجدها تتأمل السيف بنظرة مركزة. أكملت:
«إنه نادر… من صنع حقبة القصص الخالدة. هذه النقوش… تخص كتبة السلاح. هل تريده؟»
هزّ رأسه، ثم قال بصوت خافت:
«نعم. لكني لن أسمح لك بإنفاق—»
قاطعته، نظرة عينيها حازمة ولكن هادئة:
«اخترته. انتهى الأمر.»
رفعت يدها دون انتظار رد، وأشارت إلى الموظف خلف الطاولة.
قالت بلهجة لا تحتمل التردد:
«سنأخذ هذا.»
الفتى العامل في المتجر فتح الصندوق بحذر وسحب السيف، ثم قدمه إلى ساي. وما إن لامست أصابع ساي النصل حتى شعر بذبذبة دافئة انتشرت في يده، امتدت إلى قلبه، كأن السيف يتعرّف إليه ويقبله.
أمسكه بكلتا يديه. لم يكن ثقيلًا كما ظنه، بل خفيف وموزون بدقة.
«…إنه مثالي.»
قالت يوكيو، دون أن تبتسم، ولكن صوتها بدا أخف من المعتاد:
«رائع. الآن أنت لست أعزل.»
ردّ ساي بابتسامة صغيرة:
«لم أعد كذلك منذ دخلت عالمي، أليس كذلك؟»
لم تُجبه، لكنها نظرت إليه للحظة طويلة، ثم استدارت لتتابع السير. ربما لم تعترف بشيء، لكن صمتها حمل أكثر من أي إجابة.
ثم، بنبرة غير عاطفية لكنها غير باردة:
«المزاد سيبدأ بعد ساعة. فلنمر على متجر العطور.»
«العطور؟» سألها.
«لديّ قائمة طويلة من الأشياء التي أحتاج إليها، وأنت الآن مدين لي بسيف.»
ضحك ساي بخفة، ثم لحق بها.
دخل الاثنان متجرًا فاخرًا للعطور والمجوهرات. الأرضية من الرخام الأبيض المنقوش، والجدران تعكس الضوء عبر بلورات شفافة مُعلقة من السقف. الرائحة التي لفّت المكان كانت مزيجًا ناعمًا من الزهور الشرقية والأخشاب النادرة، تُشعر الداخل وكأنه دخل أحد قصور الأساطير.
يوكيو توقفت أمام رف طويل مغطى بقوارير زجاجية أنيقة، أخذت تتفحص العطور واحدة تلو الأخرى، تقرأ أسماءها وتشمها بخفة. تعابير وجهها الهادئة لم تتغير كثيرًا، لكن ساي لاحظ بريقًا خفيفًا في عينيها حين توقفت عند قارورة ذات لون بنفسجي عميق.
«هذا العطر...» قالت وهي تحمله قرب وجهها. «يشبه رائحة يونا. أختي الكبرى. سأحتفظ به حتى أراها مجددًا.»
ثم أكملت بهدوء وهي تختار عطرًا آخر:
«وهذا… قد يناسبها أكثر الآن. صار ذوقها أكثر حدة مع الوقت.»
ساي لم يتكلم، فقط تابعها وهي تضع زجاجتي العطر جانبًا، ثم تنتقل إلى قسم الحُلي الصغيرة. التقطت خاتمًا ذهبيًا بسيطًا بنقشة لزهرة لوتس، ثم سوارًا من الفضة يحمل ماسة زرقاء صغيرة.
قالت دون أن تلتفت إليه:
«سأعطيها هذه الأشياء عندما نلتقي. ربما تظن أنني ما زلت لا ألاحظ ما تحب، لكنها لم تعرف أبدًا أنني كنت أراقب كل التفاصيل.»
صمتت لحظة، ثم وضعت السوار في حقيبتها ذات البعد السحري.
أما ساي، فقد وقف أمام صندوق زجاجي يحتوي على مجموعة من القلائد. لم يكن معتادًا على هذه الأشياء، لكنه وجد قلادة واحدة تحديدًا لفتت نظره:
قلادة صغيرة على شكل قطرة ماء، شفافة من البلور النقي، بداخلها دوامة خافتة من الضوء الذهبي.
سأل الموظفة عنها، فأجابت بابتسامة:
«هذا حجر احتمالية طبيعي، نادر جدًا. يحفظ الذكريات عند لمسه، ويمنح مرتديه راحة ذهنية خفيفة.»
نظر إلى يوكيو. لم يكن يعرف لماذا، لكن شعر أن هذه القلادة تناسبها.
دفع ثمنها دون أن يستشيرها، ثم اتجه نحوها ومدّ يده بالعلبة الصغيرة.
«منّي.» قالها بصوت خافت. «شكرًا لأنك أنقذتني… أكثر من مرة.»
فتحت العلبة ببطء. نظرت إلى القلادة، ثم إليه. ملامحها ظلت ساكنة كعادتها، لكنها أغلقت العلبة بعناية، ثم قالت:
«…ساعدني في ارتدائها.»
ساي تجمد لوهلة، ثم اقترب ببطء خلفها. مدّ يده ليمرر السلسلة حول عنقها، وحين كاد طرف أصابعه يلامس بشرتها — فرقعت شرارة صغيرة من الاحتمالية وارتجف جسده للحظة، وكأن تيارًا خفيفًا مر فيه.
«آه!» قال وهو يتراجع بسرعة.
استدارت يوكيو بهدوء، نظرت إليه ثم قالت ببرود معتاد، لكن بنبرة تحمل اعتذارًا حقيقيًا:
«…يحدث هذا دائمًا. لا يمكن لأحد لمسي بسهولة. طبقة احتمالي تنفر التلامس الجسدي.»
ساي فرك يده بخفة، لكنه ابتسم، رغم كل شيء.
«لا بأس. يبدو أن حتى الاحتمالية تعرف أنني يجب أن أكون حذرًا.»
نظر الناس حولهما إليهما بابتسامات خفيفة، وهمسات متفرقة بدأت تنتشر:
«أترى؟ إنهما مخطوبان على الأرجح…»
«لا، ربما زوجان ملكيان متخفيان…»
أحمر وجه يوكيو فجأة، ليس بسبب الكلمات… بل ربما — للحظة نادرة — بسبب الإحراج الحقيقي.
لكنه سرعان ما تلاشى من وجهها، وعادت لتضع القلادة في حقيبتها، قبل أن تقول:
«لنذهب إلى المزاد. حان وقت شراء ما يستحق العناء.»
ابتسم ساي، ومشى خلفها.