"…أبي؟"

رأيتُ رجلًا بشعرٍ بنيٍّ في أواخر العشرينات يقرأ كتابًا.

"…أبـي-، لا... بابا؟"

تلك العينان الخضراوان اللتان تشبهان عينَيّ، نظرتا إليّ.

"ما الأمر يا تيا؟"

عندما سمعتُ الصوت الذي كنت أتذكّره بوضوح، شعرتُ بقشعريرةٍ تسري في ذراعيّ.

ما هذا؟ أهو حقيقيّ؟

رائحة الكتب وأجواء المكتبة كانتا واضحتَين جدًا لدرجة لا يمكن اعتبارهما مجرّد ذكرى تسبق الموت.

رمشتُ بعينيّ عدة مرات لأفهم ما يجري.

لماذا أقف فجأةً في مكتبة القصر، بينما كنتُ في انتظار موتي بعدما صدمتني عربة؟

ولماذا تبدو رفوف الكتب بهذه الضخامة، ولمَ المكتب بهذا العلو؟

"تيا؟"

متى كانت آخر مرة ناداني فيها أحد بمثل هذه المودّة؟

كدتُ أبكي وأنا أنظر إلى تلك العينين الخضراوين المألوفتين.

أبي... كان هو الشاب الذي كنتُ أتذكّره من ذاكرتي.

"تيا، هل أنتِ بخير؟"

لا أعلم ما الذي يجري بحقّ الجحيم، لكن أولًا عليّ الخروج من هذا المكان.

"انتظر لحظة، هل يمكنني... هل يمكنني الذهاب إلى غرفتي؟"

أمال أبي رأسه قليلًا ثم أومأ لي وهو يغمض عينيه مرتاحًا.

"نعم، يمكنكِ. هل ترغبين أن أرافقكِ؟"

"لـ-لا! أستطيع الذهاب وحدي!"

"هاها. تبدين أكثر نشاطًا اليوم. إذًا، اذهبي بحذر."

"نعم! حسنًا، سأعود حالًا، ابقَ هنا!"

قلتُ ذلك ثم بدأتُ أركض.

وأنا أركض، كنتُ أنظر حولي داخل المكتبة، بدا أنها ما تزال على شكلها القديم.

نفس المظهر الذي كانت عليه قبل أن أصبح أمينة المكتبة وأُجري عليها التعديلات.

هذا غريب... غريب جدًا!

وحين خرجتُ من المكتبة، استقبلني ممرّ مألوف... وغريب في آنٍ واحد.

كانت غرفتي بعيدة جدًا، لذا دخلتُ غرفة عشوائية كان بابها مفتوحًا.

الغرفة ذات السرير الواحد والأثاث البسيط بدت كأنها غير مأهولة.

ظننتُ أنها غرفة الضيوف، لكن ذلك لم يكن مهمًا الآن.

عدد الغرف الخالية في القصر لا يُحصى، لدرجة أن المكان يبدو كقرية صغيرة.

"مرآة! نعم، المرآة!"

لحسن الحظ، وجدتُ مرآة بطول كامل في زاوية الغرفة.

لم تبدُ بعيدة، لكن الغريب أنني اضطررتُ إلى اتخاذ عدّة خطوات لأصل إليها.

وفور وقوفي أمامها، عرفتُ السبب.

"لماذا أنا صغيرة جدًا؟!"

جسدي كان صغيرًا إلى حدٍّ مضحك، لم يملأ حتى ثلث المرآة المصمّمة لطول البالغين.

نظرتُ إلى الأسفل، فرأيتُ يدين صغيرتين تشبهان أوراق القيقب، وبطن طفل، وقدمان ضئيلتان.

"كم عمري الآن؟"

لا يمكنني أن أسأل أحدًا. وبعد لحظة تفكير، رفعتُ طرف التنورة التي كنتُ أرتديها.

"في عيد ميلادي الثامن، سقطتُ وتعرّضت لإصابة!"

كنتُ ألعب في الحديقة حينها، وجرحتُ ركبتي بشدة على الصخور. كان الجرح كبيرًا لدرجة أنه ظلّ ظاهرًا حتى حين بلغت الخامسة والعشرين.

"لا. لا أثر للندبة."

الركبة بدت ناعمة، خالية من أي علامة.

"إذًا لم أبلغ الثامنة بعد..."

نظرتُ مجددًا في المرآة، لكن مظهري الطفولي لم يتغيّر.

رغم أنني تعرّضتُ لحادثٍ وفتحتُ عينَيّ للتو، إلا أن جسدي كان سليمًا... لكن الأغرب من ذلك هو أنني عدتُ إلى الماضي.

حتى لو كانت ولادة جديدة بعد الموت، فإن تقبّل الأمر ليس بهذه السهولة.

هذه أول مرة أختبر فيها "العودة بالزمن".

كانت ساقاي ترتجفان، فجلستُ على السرير المجاور.

لكن كوني قصيرةً لم يكن أمرًا سهلًا كذلك.

من نافذة الغرفة، بالكاد كنتُ أستطيع رؤية حديقة قصر لومباردي بسبب قصر قامتي.

"لقد عدتُ حقًا إلى الماضي."

همستُ وأنا أنظر إلى أشجار السرو الشاهقة في عمق الحديقة.

تلك الأشجار التي قُطعت عندما أصبح عمي الأول، فييز، السيّد الأعلى للعائلة.

قال حينها إن الأمر يخصّ تنسيق الحدائق، لكن من الواضح أنه لم يرد رؤية الأشجار التي كان جدّي يحبّها.

واتّضح لاحقًا أن تلك الأشجار كانت قد أُهدِيَت من الإمبراطور الأول احتفالًا باكتمال بناء القصر.

كان يُدعى بالأكبر، لكنه لم يكن يعلم حتى عن أهمية الأشجار للعائلة.

"الاحمق فييز."

لا أعلم بمَ كان يفكّر جدي، لكن فييز لم يكن يصلح قط ليكون السيّد الأعلى.

وفي نفس الوقت، عمي الأصغر لوريل لم يكن مؤهَّلًا كذلك.

إن كان فييز ضيق الأفق وغير متسامح، فإن لوريل كان كالكلب الوفي، لا يتحرك إلا بأوامر أخيه.

وحده أبي، جالاهان، كان أهلًا لهذا المنصب.

رغم أنه كان حساسًا ومفرطًا في التفكير، إلا أنه كان رجلًا متعلّمًا، حلمه الذهاب إلى الأكاديمية لإتمام دراسته.

لكن والدي توفي في وقتٍ مبكر، لذا لم تكن هنالك خيارات عديدة...

لحظة...

"أبي... هل يمكن إنقاذه؟"

أبي توفي بسبب مرضٍ قبيل عيد ميلادي الحادي عشر.

لم يكن له علاج آنذاك، ولم أستطع فعل شيء. لكن بعد بضع سنوات، أتذكّر جيدًا أنه تم اكتشاف دواء لذلك المرض.

"أستطيع إنقاذ أبي!"

ارتعش جسدي كله من الفرحة.

شعرتُ بعينَيّ تحترقان، وبدأت الدموع تنهمر.

لن أضطر إلى فقدان أبي.

بإمكاني إنقاذه.

لن أضطر إلى مشاهدة والدي يموت بهذا الألم وأنا صغيرة السن.

كان ذلك جنونًا، لكن بطريقة ما عدتُ إلى الماضي.

وفورًا، خطرت لي فكرة أخرى:

"إذًا، هل يمكنني إنقاذ عائلة لومباردي؟"

قفزتُ من مكاني وتوجهتُ إلى النافذة.

من المكتبة، كان يمكن رؤية المبنى الرئيسي الضخم لعائلة لومباردي المكوّن من أربعة طوابق، إضافةً إلى المباني الأخرى المحيطة به.

رأيتُ الضيوف، والخدم، والرجال العاملين في القصر.

كل هذا... لم يعُد له وجود في ذاكرتي.

أذكرُ جيدًا مشهد فرسان الإمبراطورية وهم يغلقون أبواب القصر الخالي أمام عينَيّ.

"أول ما عليّ فعله هو منع فييز من أن يصبح السيّد الأعلى."

كان قراره هو دعم الأمير الأول في ذلك الوقت.

لافيني أنجيناس، أمّ الأمير الأول، والإمبراطورة الحالية لإمبراطورية لامبورو، هي ابنة عمّ زوجة فييز، سيرال.

بهذه الصلة، كان من الطبيعي أن يميلوا لدعم ابنها ليصبح وليّ العهد.

لكن الأمير الأول لم يكن أهلًا لتحمّل هذه المسؤولية الهائلة، كما أن الإمبراطور جوفانيس لم يكن حاكمًا أحمق قط.

المشكلة كانت في فييز، الذي لم يفهم نوايا الإمبراطور وأصرّ على دعم الأمير الأول.

ولو أنه لم يُعلن دعمه بهذه الصراحة...

بل حتى حاول ابتزاز الأمير الثاني وإيذاءه!

لولا ذلك، لظلّت عائلة لومباردي آمنة.

فكّرتُ حينها بإقناعه، لكنني أدركتُ سريعًا أن ذلك مستحيل.

لو كان شخصًا يمكن إقناعه، لما دمّر العائلة بهذه السرعة.

إذًا، لا بد أن يتولّى المنصب شخصٌ آخر.

[ "كنتُ سأورثكِ هذه العائلة..." ]

تذكّرتُ كيف كان جدي دائمًا يردّد تلك العبارة وهو يتنهّد.

"أنا... هل يجب أن أحاول؟"

ضحكتُ قليلًا، شعرتُ كأنني أحاول الإمساك بالسحاب.

بينما كنتُ أساعد جدي وأتولّى فعليًا شؤون العائلة، كم مرة فكّرتُ بأن من الأفضل أن أتولّى القيادة بنفسي بدلًا من فييز، الذي كان يدمّر كل جهدي؟

في الواقع، مهما فعلت، فسأكون أفضل من عمّي على أيّ حال.

"على الأقل، لن أرتكب نفس الخطأ مع الأمير الثاني. ووقتها، ستبقى عائلتنا بأمان. أنا أعلم تمامًا أن الأمير الثاني سيصبح الإمبراطور في النهاية..."

إن كان الأمر كذلك، لمَ لا أضعه في الحسبان مسبقًا؟

ألن يكون ذلك مفيدًا لعائلة لومباردي؟

ليس هذا فقط. لديّ ذاكرة عمّا سيحدث خلال العشرين سنة القادمة.

إذا أحسنتُ استخدام معرفتي، يمكنني أن أقوّي عائلة لومباردي أكثر.

يمكنني أن أحمي عائلتي العزيزة بيدي.

بكل وضوح.

"سأفعلها."

إنها عائلة ستنهار إن تُركت على حالها.

مئات السنين من السيادة ستتبدّد بهذه البساطة.

لن أسمح بحدوث ذلك لعائلة لومباردي.

"سأصبح السيّدة الأعلى."

أو ربما أجعل والدي يرث المنصب من جدي.

لكن لا يمكن أن يكون فييز أو لوريل.

"إذًا، الآن..."

اتكأتُ على السرير وبدأتُ بتنظيم أفكاري قليلًا.

"السيّد جالاهان تلقّى استدعاءً من السيّد الكبير، لذا ذهب إلى المكتب، سيدتي الصغيرة."

عندما عدتُ إلى المكتبة، لم أعثر على أبي، وكان هذا ما قاله لي أمين المكتبة.

أمين المكتبة المسنّ، ذو الشعر الرمادي... بروشل.

لم أبدأ العمل في المكتبة إلا بعد أن استقال بروشل بسبب المرض.

كان في الأصل أستاذًا مشهورًا في الأكاديمية، ثم انضم إلى عائلة لومباردي.

"جدّي المكتبي."

لو كنتُ بعمري الأصلي، لكان من الغباء قول هذا لرجلٍ مثل بروشل. لكن ماذا في ذلك؟ أنا طفلة الآن.

"أرجوك، أعطني كتابًا لأقرأه."

"أي نوع من الكتب ترغبين؟"

عندما أخبرتُه باسم الكتاب، بدت على وجهه علامات الذهول.

"هل... طلب السيّد جالاهان هذا الكتاب؟"

"لا. أنا من أراد قراءته."

أفهم سبب اندهاش بروشل. لكنني نظرتُ إليه بثقة دون أن أشيح بنظري.

هذا الكتاب كنتُ أتوق لقراءته قبل أن تدهسني العربة.

لكنّه كان ثمينًا ومكلفًا جدًا، فلم أتمكّن من قراءته أبدًا.

بعد لحظات، خرجتُ من المكتبة حاملةً كتابًا ثقيلًا في ذراعيّ.

"سأذهب قرب المكتب وأقرأ الكتاب ريثما أنتظر."

سألتُ أحدهم منذ قليل، وعرفتُ أن اليوم هو اليوم الثالث من الأسبوع.

كان من عادة الجدّ أن يعقد اجتماعًا صغيرًا مع أبنائه الثلاثة وابنته في اليوم الثالث من كل أسبوع.

لكن توقيت الاجتماع يتغيّر دائمًا، لذا يضطرّ والدي وأعمامي وعمتي للبقاء في القصر طوال اليوم بانتظار نداء الجدّ.

ومع ذلك، لا أحد تجرأ على الاعتراض.

لأنّ سلطة الجدّ في قصر لومباردي كانت مطلقة.

وأنا أسير وحدي، وجدتُ المبنى الرئيسي وتمكّنتُ من الوقوف في الردهة أمام المكتب.

كان مكانًا زُرته كثيرًا عندما كنتُ أساعد جدي في أعماله.

لكن من منظور طفلة، بدا مختلفًا قليلًا.

كنتُ أرغب في التجوّل داخل المبنى، لكنني اضطررتُ للجلوس عند النافذة.

فالمسافة من المكتبة إلى هنا طويلة جدًا بالنسبة لقامتي القصيرة.

وأيضًا، جسد الطفلة الذي أمتلكه الآن ضعيف وسريع الإرهاق.

وفجأة، بينما كنتُ على وشك أخذ قيلولة...

"أنتِ، يا ابنة النصف دم."

سمعتُ صوت طفل وقح يناديني.

2025/06/28 · 6 مشاهدة · 1371 كلمة
Nero
نادي الروايات - 2025