دان: زوار.

إنتشر النور برخاء فوق بلدة ساوثپارك بينما تصاعد ضباب أبيض أخفى الأفق و تموقع الخيالة محيطين أطراف المزرعة في تأهب فبدوا كالأطياف التي لا يرى منها إلا ظلالها.


تمتم دان بكلام غير مفهوم عن الغربان و هو نائم و قد وضع رأسه ذي الشعر الذهبي على فخذ جدته التي راحت تصفف خصلات شعره الأملس الذي خالطه غبار نقيع الحوافر ل ثلاثة أيام مضت، لم يغمض له جفن فيها ، لولا محاولات السيدة جدته باربا لظل مستيقظا أكثر لقد صار كالمجنون و وقع من على حصانه من شدة التعب و هو يبحث عن جيري و يلعن كل شيئ، كل المحاولات للعثور على جيري قد باءت بالفشل، إنه لا يملك الرجال ليقف في وجه جنود الفيالق، الذين أحاطوا المداخل و المخارج كلها فصارت تخضع لهم...

من جهة أخرى السيد وايمار يلوم نفسه على ما حدث، إنه يشعر بالخزي لأنه قد خذل سيده و لم يقم بواجبه ، لو أنه مات مع الجنود لكان أرحم من نظرات سيده إليه...

لم يكن هناك ما يمكن فعله و شعر الجميع بالعجز، فكرة مهاجمة المعقل الشمالي الخاص بالجنود كانت جنونية أيضا إنها صورة أخرى للانتحار و ليس ذلك وحسب بل إن مصير عائلة "بلاكستار" سيصيب آل تريكستار أيضا لا محالة.

وقف رئيس الخدم باستقامة أمام الجدة التي كانت تراقب حفيدها بعينين محمومتين و قال بصوت أشبه بالهمس: هناك زوار يا سيدتي، إمرأة و رجل يريدان لقاء السيد دان لكن لم يسبق لي أن رأيتهما بالأرجاء.

- غريبان؟

- هذا ما يبدو عليه الأمر، بدت لكنتهما غريبة أيضا، هل أجعلهما ينتظران أم أطلب منهما العودة في وقت لاحق؟

- هل أوضحا سبب الزيارة؟

- لا لم يفعلا، قالا أنه أمر عاجل و طلبا لقاء السيد دان.

هزت الجدة فخذها هزا خفيفا جعل دان يفتح عينيه و يستيقظ من غفوته و قالت: لديك زوار يا بني هل كنت تنتظر أحدهم؟

أجاب دان في تعب واضح: لا!
ثم أردف: ليأتو إلى القاعة الكبرى سألقاهم هناك، سير أغوستو.

- أمرك سيدي.

تقدمت السيدة برشاقة عبر القاعة الكبرى حيث تموضعت طاولة كبيرة بشكل طولي، كل جانب كان يضم عشرة مقاعد بينما أكبر مقعد كان على رأس الطاولة تزين بزخارف بسيطة و صنع من الخشب الأسود المتين، كان المكان موحشا لا يصله الضوء، ذوق بسيط في اختيار الأثاث قاعة طولية ضيقة منارة بمشعلين على كل جدار.

وضع الخدم بعض البسكويت و الرائب على الطاولة، كان ترحيبا بسيطا جدا و غير متكلف كما لو أنها زيارة سريعة أو غير ودودة، عادة ما يتم استقبال الضيوف ثم إكرامهم حسب المقام الذي ينزلونه لكن هذه المرة حدث العكس إذ أن الضيف غير معلوم لصاحب البيت الذي تأخر عمدا ليدب الترقب في نفسي زائيريه.

إندفع دان من المدخل بوقار، كان متعبا، نومه متقلب و مضطرب، تفكيره كان في أخيه فقط و كيف سيخلصه. جلس و لم ينظر لزائريه بعد، حتى الإنارة كانت ضعيفة بينما جلست السيدة على بعد مقعدين ناحية يمينه و يليها مباشرة السيد المرافق لها.

رفع دان رأسه نحوهما ليرى وجهين مؤلوفين و نظر إليهما بتتابع دون أن ينبس ببنت شفة، كان السير أوغوستو يعبر المدخل في هذه الأثناء حاملا قنينة من الشراب و قدحا و وضعهما أمام سيده.

شابة صهباء بعينين خضراوين و قد ارتدت كذلك فستانا أخضر من الحرير الفضفاض و زوجا من الأقراط المزينة بأحجار كريمة من الزمرد الأخضر و تدلى حول عنقها و إلى صدرها عقد مشابه بنفس الوصف انعكست عليها أنوار المشاعل و ابتهجت عيناها في تناغم مع ألوان ما كانت تتزين به من مجوهرات. بينما كان منظرها مريحا للعين و مبهجا كان مرافقها ذو الشارب الأسود الكث متوشحا بالسواد، ملابسه رسمية و علت قمة رأسه قبعة سوداء دائرية، زم شفتيه في كآبة و شد عينيه بمكر كما لو كان يحيك شيئا في الخفاء و ربما كان يفعل حقا.

قال دان بصوت مزمجر: اللعنة! ماذا تريدان بحق الجحيم؟

همت الشابة بالإجابة و لكن السيد المرافق لها كان أسرع فقال: نعتذر عما بدا لك منا ذلك اليوم، لم تكن لدينا نية سيئة اتجاهك على وجه الخصوص كل ما أردناه هو تسهيل عبورنا و من سوء حظك أنك كنت هناك و بعد أن تقصينا حولك بغية أن نعتذر منك اكتشفنا أنك رئيس واحدة من أعرق العائلات في المنطقة لهذا جلبنا معنا اليوم عربة محملة بأنفس ما نملك من الكنوز و الحلي الباهضة و صررا من الذهب و الفضة اعتذارا لك لما حل بك بسببنا.

أنت تضيف الماء للبحر. أجاب دان بصوت صارم أخفى به توتره و قلقه الذي كان جليا قبل ذلك.

قالت السيدة بصوت رقيق و ناعم تناسب تماما مع طلتها البهية: أستسمحك عذرا أيها السيد، ما بدر لك منا كان في غاية السوء و قد يكون اعتذارنا قبيحا أيضا لكن دعنا على الأقل نعوضك نفقات العلاج و المال الذي صودر منك، كما نرغب في مساعدتك قدر الإمكان في المعضلة التي حلت بك و بأخيك.

إتسعت عينا دان لدى سماع آخر جزء من كلام السيدة بينما أفرغ السير أغوستو الشراب لسيده الذي قال بهيجان: ما الذي تتفوهين به يا امرأة؟ من أين تعلمان بهذا الأمر؟

هدر الرجل: مع الأسف لم يعد أمرا مخفيا بعد الآن، العام قبل الخاص قد سمع بأمر الإبن الثاني لعائلة تريكستار العريقة و ما حل به، جنود الدورية قبضوا عليه بتهم التآمر الباطلة لكن صادف أن كنت هناك ذلك اليوم فقد كنت واحدا من المراهنين مع أني راهنت على منافسه إلا انه كان يبلي...

قاطعه دان بنبرة حادة: أخي محتجز و أنت تسترسل في الحديث عن الهراء، إذا كان كل ما تريدانه هو الإعتذار فقد حدث، غير ذلك لا أريد أي محادثات ودودة معكما خصوصا أنكما نعتماني بالخائن و العميل و أديتما عمل الوشاية بشكل صحيح.

إرتجت الشابة في هلع مكشوف و قالت بتأن مخفية إياه: نيتنا في الإعتذار و تقديم العون لك صادقة و أرجو من أعماق قلبي أن تتقبلها حتى لو كانت مجرد إدلاء بمعلومة صغيرة.

و ما هي؟ سأل دان في باستياء.

أجاب مرافق السيدة: الرجل الذي أخبر الجنود عن أخيك هو صاحب الحانة المنظمة للنزال نفسه و يدعى "پول".

زفر دان و قال: سأتأكد بنفسي من جعله يدفع الثمن. و تابع ببرود: ليس مرحبا بكما هنا مرة أخرى، أرجو ألا أراكما ثانية. واستقام مغادرا القاعة بعد أن أفرغ قدح الشراب في فمه بينما هم السير أغوستو في دل الزائرين على طريق الخروج.

إنطلقت عربتهما عائدة بنفس ما قد جاءت به، لم يكن كبرياء آل تريكستار ليسمح لهم بأخذ سنت واحد من غيرهم فما بالك بدان نفسه، طوال تاريخهم الممتد كانت يدهم هيا العليا بينما أيدي الآخرين هيا السفلى*

ما إن تحركت العربة خارج حدود ضيعة "بلج" التابعة ل تريكستار حتى أوقفها الرجل و تلتفت بعين مكيرة إلى السيدة الشابة و قال معنفا: ما تلك النظرة التي رمقته بها يا بيبا؟ أهي إعجاب؟ و كأنها أول مرة في حياتك ترين رجلا.

أجابت الشابة في حذر: أحقا كانت كذلك؟ هل كان ذلك كل ما يشغلك؟

أمسك ذراعها بقوة و جذبها مجيبا: أنت هنا بصفتك زوجتي أيتها اللعينة، لا تفتعلي حركات غريبة و ما شابه نفذي الخطة لأحصل على المنجم و تعودين إلى والدك، لا تفتعلي المشاكل إذا أردتي رؤية عائلتك مجددا، إن فكرت في طلب المساعدة فلن أبقي على أحد و حتى هذا المتبجح(يقصد دان) لن يستطيع إنقاذ أخيه فكيف بإنقاذك أنت و أنت لا تعنين له شيئا بل مجرد غريبة.


بينما راقبهم دورغ يبتعدون بالعربة خرج دان من الباب الرئيسي ليرتص بجواره و ضيق عينيه في الأفق حيث اختفت العربة بعيدا. دبت النسمات الباردة جاعلة من دان يتعش فانتصبت شعيرات عنقه، مشاهدة ذلك جعلت دورغ يبتسم ضاحكا و ان كانت الحالة العامة لا تحتمل المرح ولا الدعابة، فتح فمه و سأل: أقالا شيئا ذا فائدة؟

كانت إجابة دان مختصرة في كلمة واحدة: "لا". ثم سأل: هل علمتم من شيئ؟

- السيد وايمار يشعر بالأسف حقا، قال أن الجنود كانوا متخفين بين الحضور و أحاطوا به فلم يستطع فعل الكثير إعترضهم بقدر ما استطاع لكنه لم يكن كافيا، كل رجاله سقطوا، كان النزال الأخير على وشك البدء حين حضر جنود المعبد و أمروا بإيقافه ، السيد جيري لم يعجبه الأمر و قام باستفزازهم و لعن الملك و الآلهة أمامهم، لهذا أمر قائدهم بالقبض عليه لتنفيذ عدالة الملك في حقه، خرج رجالنا قبالتهم و اشتبكوا معهم للدفاع عن السيد جيري، لكن رماتهم المتخفين أسقطوه واحدا تلو الآخر... السيد جيري أُصيب و السيد وايمار جاء بالخبر إلينا.

سأله دان: هل نعرف أي شيئ عن رجل يدعى "پول"؟

- لا شيئ باستثناء أنه صاحب الحانة التي في البلدة و منظم النزالات و له معاملة خاصة بينه و بين قادة الجنود، يقوم بخدمات خاصة لهم و هو مختف منذ تلك الحادثة.

- علي أن أزور حانته إذا... ماذا كان اسمها؟ حانة السا...

- الساحرة، إنه صاحبها و الساقي الوحيد فيها، لكن من الأفضل أن تأجل ذلك إلى وقت لاحق حين تخف دوريات الجنود المنتشرة في كل مكان، من الأفضل عدم الإحتكاك معهم لأن ذلك سيشكل ذريعة أخرى لافتعال المزيد من المشاكل.

- أعلم و لكن كل لحظة تمر و أخي لديهم تعجل نارا تتأجج داخلي.

- أعلم ذلك جيدا يا سيدي، لكن فكر في البقية و إذا أردت التحرك من أجل إنقاذه فلابد أن يكون ذلك مدروسا.
ألقى دان نظرة عبوسة بعينيه الباردتين حول المكان وراح يفكر، من كان ليتوقع أن يصل الحال به و بعائلته إلى الحضيض لدرجة أن يأسر أحدهم و لا يستطيعون فعل شيئ، بالأمس القريب كان والده السيد الأول لآل تريكستار، كان محاربا و فارسا لا يشق له غبار و رجلا فخم الحضور مسموع الكلمات وقور النظرات، لا يرد له أمر و لا يجرأ عليه أحد، أما الآن التأمل في فرج وشيك يبدو أقرب ما يمكن فعله.
إلتفت إلى دورغ بعد إن استولى عليه الأسى للحظات و راح يسأل: كم من الرجال نملك؟

- خمسون يطوقون المزرعة، و خمسة آخرون تحت إمرتي يجوبون البلدة، هم سمعنا و أعيننا هناك.

- أتثق بهم جميعا؟

- أثق بهم و يثقون بي، أأتنمنهم على حياتي و لا أرجع في ذلك أبدا بالمقابل يقدم الواحد منهم على فدائي بروحه كلهم متأهبون.

- لكن عددهم غير كاف، جنود المعبد أكثر عددا و عدة.

- يكفون للحراسة على الأقل.

تقدم السير وايمار على استحياء من الرجلين و ركع أما سيده قائلا: لورد دانديريون، لم أستطع النوم أو الأكل منذ ساعة ذاك، أستسمحك عذرا يا سيدي فرطت في أخيك و كان الأجدر بي أن أدفع عنه الجنود بحياتي، أعذرني على قلة حيلتي و جبني.

طفق إليه دان ليرفعه و هو يقول: قف يا رجل ولا تنتحب، فعلت ما استطعت و لم يكن خطأك أن أصابه ما أصابه.

- أنزل بي العقاب الذي أستحق يا سيدي.

- ما كنت لأفرط برجل مثلك يا سير وايمار، إذا أردت أن تعتذر فسيكون ذلك رفقة جيري لنأمل أنه لازال يقاوم و ينتظرنا، كلي ثقة أننا سننقذه، لكن أولا لألتقي بالثعبان الأقرع لنرى رأيه في الأمر. إحرصا على نشر الرجال بشكل مناسب لحراسة المكان في وجودي أو في عدمه، هل هذا واضح؟

هدر الإثنان معا: أمرك سيدي اللورد. و انصرفا تاركين إياه في تفكيره المتواصل.

2019/11/07 · 311 مشاهدة · 1721 كلمة
Leo
نادي الروايات - 2024