نور الظلال الفصل 1
"مكان ما بين الاماكن"
تبدء القصه من مكان جديد مختلف كلياً عن كل ما سبق في ليلة باردة من ليالي الشتاء ما يبدو كقلعة محصنة جدران القلعة المهترئة توحي لاي شخص مدى طول عمرها و جبروتها عليها تشققاتها و اثار مخالف و سيوف و عدد من الطوبات التي تكاد تسقط لكنها صامده كأنها تتحدى الزمن وان كان يزيدها الزمن كهلاً وضعفاً كانت واقفة كمحاربٍ مخضرمٍ خاض عدداً لا يحصى من المعارك ما يهمنا ليس ما بخارج هذه القلعه بل بما يسكن بقلبها بين المنازل الخشبية التي يبدو ان بعضها قد تعفن خشبها و المشاعل التي أشعلت لتنير الليل فيها اناس يبدو عليهم الفقر و اليأس يشعلون ناراً بحطبٍ جلبوه من المخرن الي بدا فارغاً تحكمه العناكب كأنها بنت لها مدينة داخل ذلك المخزن يتجمعوا عدد من الجنود بدروعٍ رثةٍ حول النار ليهربوا من برد الليل القارس برغم اشتعال النيران بشغفٍ امامهم كان شرار الامل في عيونهم منطفئً تُسمع خطواتٌ قادمة من بعيد، التفت الجنود بينما شرارة في وسط روحهم تشتعلُ امرأة بملابس راهبةً يغلب عليها البياض، شعرٌ ابيض من الثلج و عيون زرقاء ناعسة و تردي رداء اسود يقيها من البرد، يقوم احد الجنود برغم مظهره المتعب وحملِ درعهِ الذي يُبدي ثقلهُ عليه يقول: سيدتي! ما الذي جلبك هنا في منتصف الليل؟
بينما تغالب النعاس وترفع رأسها بتثاقل، كأنها تستجدي اليقظة من عتمة السكون تقول بصوتها الناعم : لا تقلق انا فقط اتيت لتفقد الأوضاع، مع ابتسامتها الناعسة التي تشعل الدفئ في باطن الروح مع ذلك ظل الجندي يكافح تعبه و يلح عليها قائلاً: سيدتي، ان الليل باردٌ و مخيف، و فيه كل امرٍ خطير فلما لا تذهبين لفراشك المريح و لا تخافي نحن رجالٌ يعتمد عليهم .
ترد الراهبة بنبره من الحنان و تقول: انا اعلم، انا اثق بكم لكن الامر ليس فقط هذا هناك ايضا امر هام علي مناقشته مع نيكلاس.
يرد الجندي بتعجب: ما الامر؟ هل حصل شيء ما اجبرك على القدوم الان؟
ترد بهدوء و ابتسامه: نعم، كانت وحياً، مما فهمته ان الابطال الذين ننتظرهم سيصلون اخيراً.
تفاجئ الجندي و بان عليه الفرح كأنما نسي التعب انحنى لها باحترام و يده اليمنى على صدره مظهراً كلا من احترامه و امنتانه قائلاً: اذا كان الامر كذلك فاسمحي لي ان اوصلك لنيكلاس بنفسي.
تؤمى له وتبتسم معبرةً عن قبولها بينما يتقدم امامها و يقود الطريق و هي خلفه تتستر من البرد برداءها الاسود حتى وصلت لكوخ صغير، يتسلل من نوافذه ضوء الشموع بينما تطرق الباب ببعض الهدوء تسمع بعدها صوت نهوض احدهم و يقترب من الباب و يفتح رجل شاب بشعر اسود به بعض الطول بينما كان الشيب يغزوه و رداء ازرق طويل يكاد ان يلمس الارض، الهالات السوداء تحت عينيه و بشرته الشاحبه توحي بالتعب و المرض بينما تكلم بصوته المتعب متفاجئاً: اليزابيث؟ سلفيان؟ ما الذي جلبكم هنا؟
ترد اليزابيث بنبرة من الامل: لقد جاءت النبوءة، ابطالنا سيصلون الليلة.
بدا نيكلاس فرحاً لكن بنفس الوقت مرتبكاً اخفى ارتباكه و قال بقليل من التوتر: هذا..جيد، بما انك اتيتي هناك امر ما، احتاجكم لتدخلوا الان.
حينها افسح الطريق سريعاً خطواته المستعجلة تبدو وكأنها تطلب المساعدة، دخل كل من اليزابيث و سلفيان ببعض القلق بعد إغلاق الباب ملئ المكان ضوء الشموع الغرفه، كانت الغرفة غير منظمة اوراق كثيرة بكل مكان حولهم و عم صمتٌ مقلق، تكلم سلفيان و كسر حاجز الصمت : هل كل شي بخير؟
كسرت هذه الجمله سلسلة افكار نيكلاس، كان يبدو نيكلاس كأنما فزع قليلاً، يفتح نيكلاس فمه بتردد كأنه يحاول اخراج كلمات عالقة في حنجرته، خرجت اخيرا تلك الكلمات: هناك مشكله...كبيرة، لقد رصدت بسحري امراً غريباً.
اليزابيث: ما هو؟ أهناك امر ما؟ قالت بنرة من القلق بدءت تتسلل بين كلماتها.
نيكلاس: قبل دقائق رصدت عدداً كبيراً من... اشياء تحيط بنا، و هي تزداد لا اعرف مكانها لكنها قريبة و كثيرة.
يقاطع سلفيان الكلام محاولاً تهدئة الوضع قائلاً: لربما الامر مجرد خطأ في السحر أليس كذلك؟ حاول اعادة استخدام السحر. برغم من كلامه كان القلق بالفعل تسلل إلى كلماته رغم محاولاته البائسة لإخفائه، ففضحته نبرة صوته المرتعشة، لكن ما افزعه اكثر كان جواب نيكلاس الذي رد: لا، لقد تأكدت من الامر اكثر من مره. غُمر كلا من اليزابيث و سلفيان بخوف و قلق ساد الصمت المفزع بالمكان لا يُسمع الا دقات قلوبٍ متسارعةٍ و أنفاسٍ متضطربه كُسر الصمت بصوت به بعض الحزم رغم تسلل القلق بين الكلمات,
اليزابيث محاولة تهدئة الوضع و ايجاد حلٍ: لا يمكننا الوقف هكذا دون فعل شي، الابطال انا متأكدة انهم سيأتون... سينقذونا جميعاً، جاء لي وحيٌ الليلة بالتأكيد الامر مخططٌ له اللاله لن يتخلى عنا علينا أن نتحمل فقط
مع كل كلمة كان الأمر يزيدها املاً وكأنها تحاول طمئنة نفسها لم يكن الامر كذلك مع نيكلاس و سلفيان لكنهم احتاجوا شيئاً ليؤمنوا به، ترممت الشقوق التي كانت بعزيمتهم مشعلة شمعةً داخلهم ليواجهوا ظلام الليل، لعل دفئاً كهذا كانوا ما يحتاجون للاطمئنان، فحتى شمعة يمكنها ان تشق طريقها عبر الظلام، رد نيكلاس بابتسامة متوتره كانت افضل ما يستطيع اظهاره نيكلاس حالياً رد قائلاً: نعم اظن ذلك علينا فقط التحمل قليلاً. يستدير مرتلاً كلمات مهموسة يُطمئن نفسه: سنكون بخير... لطالما كان هناك نور... سنكون بخير...
ظنوا ان الليل سيكون هادئاً لكن عميقاً اسفل القلعة كان هناك ظلامٌ ينتشر، في قبو القلعة المظلم كانت في هناك سراديب تحمل داخلها جثث من مات بالقلعة، كانوا يُدفنون في تلك السراديب لعلهم يجدون بعض السلام هناك، لكنهم لم يفعلوا ينتشر الظلام كدخانٍ اسود غامض يلمس الجثث كأنما يزرع فيها شيءً، تبدء الجثث بالارتجاف مصدرةً اصوات تحطم عظام، كانت الجثث تعود للحياة لكن بشكل مختلف بشرتها اصبحت مائلة للسواد بينما عروق سوداء بدءت تبرز بشكل مخيف تصعد هذه العروق لرأس الجثة، تفتح الجثة عينيها المتسعتين التي اصبح لونها اسود قاتم و تنتشر فيها نفس العروق الغريبة، و كذلك مع باقي الجثث، تقف كل الجثث على اقدامها الضعيفة مترنحةً، تبرز عروقها و تبدي طابعاً عدائياً عليها، عند باب السراديب جنديان يتثاءبان بكسل مرخيين قبضتهم من على رماحهم بنوع من الاطمئنان بوسط صمت هذا المكان، يكسر حجاب الصمت بصوت معدن يسحب بعنف واصوات اسلاسلٍ تُجر هناك بعمقِ الممرِِ السرداب الضيق، حالكُ الظلماتِ يقوم الجندي و يفتح باب السرداب العتيق و المليئ بالغبار كاشفاً عن جدران السرداب المصنوعة من الطوب تحكي قصصاً لم يهتم لها احد، تحمل معها عبق التاريخ، حيث تتوزع الرطوبة في زواياها وتظهر الخدوش والنقوش كلُّها كأنها تُخبر قصصًا تعود لعصور قديمة. كل خدش وزخرفة تجسد شغف ابطالٍ، تتسلل خيالات هؤلاء الأبطال عبر تلك الممرات الموحشة، فهناك ملاكٌ يسعى للانتقام، يتجول بين الظلال بحثًا عن العدالة. وهنا حفار القبور الذي يدفن ماضيه في كل زاوية، يحاول التخفيف من أعباء الذكريات الثقيلة. وتاجرٌ سيئ الحظ، تظهر على ملامحه علامات عدم الثقه بالنفس كيانهُ مهتزٌ لكن عزيمتهُ لا غبار عليها مضطرٌ ليواجه المجهول و رجل ذو حراشف تنين، جسده مغطى بقشور صلبة تشبه تلك التي تحمي الكائنات الأسطورية. تعكس عينه اللامعتان القوة والشجاعة، أما العازف، الذي يعزف ألحان الحزن والأمل، فهو يُبث الحياة في أركان السرداب، مُعيدًا إحياء قصص ومعاني قديمة من خلال نغماته. تلك الشخصيات تجتمع لتشكل حكاية متشابكة في هذا المكان الغامض، تمزج بين الخيال والواقع، تاركةً أثرًا يمس القلوب ، يقترب الجندي وهو يحملُ فانوسه ليكشف امر هذا الصوت يرفع فانوسه لينيرظلمة السرداب، بينما يقترب الصوت و ينحش بصمت السرداب باعثاً رعبهُ بالمكان يبتلعُ الجندي ريقه و تخرج الكلمات من شفتيه محملةٌ بالحذر و الانتباه: "من هناك؟!" صاح عالياً بصوت مرتجف، لكن لا تزال تلك الاصوات تتسلل الى اذنيهِ مثل طنين الذباب وقف الجندي الاخر مستعداً ممسكاً برمحه، تقدم الاول خطوة بخطوة حاملاً فانوسه المضيء، بقي الاخر منتظراً بحذر بينما يراقب بحذر صديقه وهو يغوص في اعماق ظلمة السرادب حتى اختفى نور الفانوس و ابتعد عن الانظار صاح الفارس بقلق : "هاي! انت هناك؟ هل انت بخير؟" عم الصمت المكان، ليبتلع المكان اصوات الحياة اعاد صياحه مرة أخرى بصوت اعلى و اكثر توتراً: "هل تسمعني؟؟!! اجب!!" ظل صوته وحده يتردد في ارجاء الممر الكئيب
.تراجع خطوةٌ الى الوراء و نادى لاخر مرة: "هل انت هناك؟ اجب!!"
أخيراً كان هناك جواب، اتى الصوت الذي بدا كصوت صديقه قائلاً: "انا هنا."، اهتز الجندي و تملكه للحظة مزيج من المفاجئة و الريبة ، رد بسرعة و قال: "هل انت بخير؟" يظهر جسد الجندي من الظلام لكن. دون الفانوس. و كان نور الشعلة المعلقة عند باب السرداب هو مصدر النور الوحيد، كان الجندي العائد من ظلمة السرداب منخفضاً راسهُ بطريقة مريبة، و كأن الظلام ما زال يعانقهُ.
اطمئن الجندي عند باب السرداب لكن غمره احساس بالشؤم تردد بالمكان خطوات الجندي العائد من الظلمة، كأن مع كل خطوة يخطوها الجندي العائد بها يقبض قلب الجندي عند باب السرداب تردد صداه و ابتُلعت الاصوات بقيت تلك الخطوات مع نبض قلبً مضطربٍ، متوترٍ، طغت عليه الرهبة و الخوف، لم تعد تفصل بينهما الا مسافة قصيرة، يقف الجندي العائد على عتبة باب السرداب بينما يسود الصمت للحظة، قال الجندي و هو يتمعن في رفيقهِ العائد بتوتراً تتجول عيناه على جسده كان متأكد هناك امرٌ قد اختلف : "هل انت بخير؟"
لكن قبل حتى ان يكمل جملته يقفز عليه الجندي العائد بجنون تلتفان يداه حول رقبته كأفعى جائعة بينما يزيد الخناق مع كل ثانية يعتصرها بقوة لا مثيل لها اصبح الهواء عملة نادرة يحاول الاخر ضربه لتملصِ من قبضته لكنه كان اقوى مما يتوقع، يضيق نفسه بات لا يستطيع التنفس والصوت الوحيد الذي استطاع إصداره كان أشبه بأنين مكتوم، شعر بضغط لا يرحم على حنجرته، وكأن الحياة تُنتزع منه ببطء، عيناه اتسعتا، والدماء تندفع إلى رأسه كطوفان غاضب فكرَ بسرعة رأى الرمح الذي كان يحمله ساقطاً على الارض مد يده محاولاً امساكه كان الامر اشبه بمعركة خاسرة، اصبحت الرؤية اصعب، بدء العالم حوله يتلاشى، اخيرا تصل اصابعه المرتعشة الى مقبض الرمح، كان امله الوحيد للنجاة، لكن اللحظة التي تلت كانت كفيلة بإخماد كل أمل؛ صوت فرقعة العظام كان مدوياً، قاسياً، كأنما يعلن جسده الاستسلام. خمدت يده وسقطت على الأرض بلا حراك، كدليل صامت على النهاية المحتومة. كان الضغط على رقبته أشد مما يمكن أن تتحمله تلك العظام الهشة، وكل ما تبقى هو صمت خانق، يلف المكان ببرود الموت.
بعد التأكد من موت ضحيته رفع رأسه، كانت عيناه سوداء مليئتان بالحقد و الظلام و وجهه و الظاهر من جسده كانت تبرز به عروقٌ سوداء كأنه هناك ما يتجول داخله، كأنه يسري في عروقه دمٌ فاسد، تعود الاصوات و بشكل اعلى وكانت تقترب بسرعة، جثثٌ كثيرة بعضها يجر خلفه مجارف او سلاسل مهترءةً، كان يغوص داخلها نفس الدم الفاسد و الظلام القاتم، تصعد من السرادب و رائحتها البشعة تنتشر بكل مكان.
في نفس الوقت كان لا يزال نيكلاس و اليزابيث و سلفيان في نفس الغرفة شبه مطمئنين اخترق سكون المكان دويُّ جرس القلعة المدوي حفر الفزع طريقهُ الى صدورهم، خرج سلفيان مسرعاً غير مدرك لما يجري بالخارج، ما ان وقعت عيناه على المشهد، كان امامه يتجسد كابوسه، رأى ما كان يخشاه، الشعور المشؤوم الذي راوده ذات مرة يعود الآن، يغرس مخالبه ببطىء مخترقاً روحه البريئة، صرخات تكسر صدى الحياة، تستنجدُ بأي احد لاجل الخلاص والنار تشتعل مع دخانها المتصاعد، كانت المنازل التي تحمي العوائل من برد الشتاء الآن تتوهج باللهيب، تلك الصرخات كانت مألوفة لسلفيان، فكان بإمكانه تمييز كل واحدة منها بسهولة، اصوات الأطفال والرضع الذين يختنقون تحت وطأة الدخان، وأصوات الأمهات اللاتي يشعرن بعجزهن، بينما يحتضنن أطفالهن، متمسكاتً بالأمل في أن المساعدة قادمة، وأن حبل النجاة سينزل من السماء.
الآن افكار سلفيان تتلاطم كأمواج البحرالغاضبة تعصف يميناً و يساراً، لا يعلم ماذا يفعل، تتحارب فكرتان هل يركض لمساعدتهم ام يهرب؟ داخل رأسه المكتظ بالذكريات كأن شريط حياته يمر امامه لكنه لم يكن كذلك، تلك ذكريات كل شخصاً هنا، كل صرخة تعيد له ذكرى، تلك صرخة فريد ذلك الطفل المشاغب دائما ما كان يوقع نفسه بالمشاكل امسكه سلفيان مرة عندما كان يلعب الغميضة مع الاطفال، تلك صرخة لينا فتاة شابة كان دائما ما يراها تنشر الملابس ساعدها مرة في في توزيع الطعام للجميع، تلك صرخة العجوزة مارلين كانت عطوفة جدا دائما ما كانت تحكي قصصاً عن الماضي وكيف كان جميلاً لكن ما كان اكثر ايلاما هو انه وعدها بحماية هذه القلعة وانهم سيتعدون هذه الايام الصعبة معاً، غارقاً عميقاً في بحرِ افكارهِ، مسترجياً طوق نجاةٍ يرفعهُ من العمقِ الذي وصله، صدى صوتٍ يصل له في اعماق عتمةِ روحهَ، من اراد ان ينقذ الاخرين الان يحتاجُ مُنقذاً.
يصيح نيكلاس مُخترقاً حصن افكار سلفيان: استيقظ!! لقد فات الاوان علينا الان التمسك بأخر امل!!
روح سلفيان ارادت البقاء، ارادت عدم ترك كل أولئك الابرياء كأنما روحهُ رفضت الاستسلام خطت الى الامام وإذا بجسده يسير عكس روحهُ، استداركأنما ترك روحهُ خلفه، خاف سلفيان من الاستدار، لأنه قد يرى كيانهُ هناك، ينطلق كالأسهم لمساعدة غيره غير مدركٍ ان جسده قد تركه، حابساً دموعه، متجاهلاً صرخاتِ ضميره، مجبراً على يكمل طريقه حاملاً عبئاً ثقيلاً، احلامهم، ذكرياتهم، و ارواحهم جميعاً، تراكمت أمانيهم جميعًا على كاهل رجل واحد.
لم يملكوا الوقت لجزم اغراضهم كان الموت قادماً كالغيوم التي توشك على حجب نور القمر نصف المكتمل، امسك نيكلاس بيد اليزابيث بقوة جرها للهروب، تملّكت تعابيره مزيجٌ من الحزم والخوف والعجز، حاولت اليزابيث مجادلته رافضةً ترك أُناسها، من وثقوا فيها، أمسك نيكلاس بكتفيها بقوة، وحدّق في عينيها بحزم قائلاً: "توقفي عن عنادك! لن نستطيع فعل شيء! إيمانكِ لن ينقذ أحدًا هنا! لا أمانع الموت وأنا أقاتل، لأنني إن مت، ستذكرونني في صلواتكم وسيأتي من يحلّ مكاني... لكن أنتِ! أنتِ مختلفة، أنتِ نورنا الوحيد، ولا يمكنكِ الموت قبلنا! كوني واثقة، فبصفتي نائبك، مسؤوليتي الأولى هي حمايتكِ... هل فهمتِ؟!
لم يكن بإمكان إليزابيث إنكار ذلك. حدّقت في النيران المشتعلة، تتساءل في صمت: لماذا يحدث هذا لنا؟ ثم عادت عيناها إليه، محملتين بعبء واضح من الخوف والتوتر، قبل أن تمنحه موافقتها بإيماءة صامتة، اخذ نيكلاس حقيبةً وامسك بيد اليزابيث خارجين من بابٍ خلفي، توجهوا بسرعة لجدران القلعةِ المهترئة، سمعوا الصراخ الذي كان يترجى للمساعدة لكن رغم البكاء و التوسل لم يكن هناك سبيل للمساعدة، صعدوا لجدران القلعة و اخرج نيكلاس حبلاً قائلا لسلفيان: سلفيان ساعدني بربط الحبل.
انشغل الاثنان بربط الحبل للنزول منه بينما ظلت اليزابيث واقفةً هناك، الرياح الباردة تضربها بقوة تتدثر برداءها لتحمي نفسها من البرد نظرت من فوق جدار القلعة ترى قلعتها هي و أُناسها يتحرقون تحت وطاة الدخان، سئلت نفسها هل كل هذا بسببي؟ هل تركتهم لأنجو بنفسي؟ هل فجأة حياتي اصبحت اهم منهم؟ رفعت رأسها للسماء قائلةً بحسرة: لماذا يا رب؟
تمسكت بدموعها قبل ان تسقط من حجرِ عينيها، مسحت آثار اليأس ولاحظت انتهائهم من ربط الحبل استدارت لهم مخفية مشاعرها تكلم نيكلاس: سلفيان انزل انت اولاً و بعدك سنتزل اليزابيث و انا سانزل بعدكم.
نزل سلفيان بأمان تبعتهُ اليزابيث وحان دور نيكلاس بدء نيكلاس بالنزول وقبل ان يصل ينزل لنصف المسافه سمع صوتاً غربياً، كان الصوت أشبه بصرير معدني مشوّه، كأنه بابٌ يصرخ وهي يُجَرّ في الظلام، امتزجت معه همسات متقطعة، متداخلة كأنها تأتي من عوالم أخرى، همسات غير مفهومة لكنها تحمل رنة تهديد خفي. في بعض اللحظات، كان الصوت يتحول إلى أنين منخفض، عميق، كأنه يخرج من حنجرة كائن ليس بشريًا، مبحوحًا وكأن صوته خرج من أعماق قبر قديم.
رفع نيكلاس رأسه بحذر، ليشهد كيانًا غامضًا ينسلّ من قلب الظلام، كأنه ضباب أسود ينبض بالحياة. عيناه الواسعتان تشعّان بياضًا مشؤومًا، تخرقان العتمة بنظرة مقلقة. وبينما يمد يده إلى الحبل، التقت عيناه بعيني الكائن مباشرة، نظرة باردة، مخيفة، تخللتها نية خفية.
امتدت يد الظل الطويلة على طول الحبل، تزحف نحوه ببطء، لكنها تزداد سرعة مع كل لحظة. عاد نيكلاس إلى وعيه، تمالك أعصابه، وبدأ ينزل بسرعة، لكن اليد السوداء كانت تلاحقه، ونظرات الكائن ازدادت خبثًا. كان الخطر يقترب، والوقت ينفد.
لم يكن أمامه خيار... نظر إلى المسافة تحته، شاهقة، خطرة، لكن التهديد الداهم لم يمنحه فرصة للتردد. أخذ نفسًا عميقًا، وأفلت الحبل!
سقط بقوة على الأرض، صرخة ألم مزّقت الهواء، لكنه لم يملك رفاهية الاستسلام. في لحظة، كان سلفيان قد رفعه عن الأرض، الألم يتصاعد في جسده، لكنهما واصلا الركض، غير عابئين إلا بالنجاة من ذلك الكابوس الزاحف خلفهما...
انطلق الثلاثة بسرعة نحو الغابة المظلمة، اشجارها متيبسة و اعضانها كانت حادةً كانها رؤوس رماح متعطشة للدماء يشقون طريقهم عبر ظلام الغابة الدامس، الكائن الاسود يلاحقهم بسرعة بينما تتردد في الأرجاء ضحكات مشمئزة، كأنها تنبع من الفراغ ذاته ، فجأة، أحكم قبضته على قدم نيكلاس، الذي كان يستند على سلفيان، وسحبه بقوة نحو العتمة ، استل سلفيان سيفه بلمح البصر و قطع يد الكيان الاسود لكن الوحش لم يُبدِ اي تأثربل على العكس بدأت ايادٍ سوداء اخرى تنمو من جسده، تهاجم سلفيان بعنف، ضربة واحدة منه جعلت دمه يتناثر في المكان ، رأت إليزابيث ما حدث، فتقدمت مسرعة لمساعدة نيكلاس، لكن الوحش لاحظها، وشقّ وجهه ابتسامة خبيثة. بدأت مخالبه تتمدد، تزداد طولًا وحدّة، قبل أن يهوي بها نحوها! نهض نيكلاس رغم ألمه، واندفع ليحميها، احتضنها بإحكام، هامسًا بصوت مرتجف: "يجب أن تعيشي... لأجلنا جميعًا.
وفي لحظة، اخترقت المخالب ظهره، شُقَّ جسده بينما تناثرت الدماء في الهواء، وسقط بثقله على إليزابيث، التي بقيت في مكانها، غير مصدقة لما تراه. لم تشعر بشيء سوى دفء دمه، وهو ينساب ببطء على ملابسها البيضاء، يصبغها بلون الفقدان...
حاولت إليزابيث استخدام سحرها لعلاجه، لكن وعيها كان يتلاشى، أفكارها مبعثرة، عجزت عن التركيز أو حتى تذكّر التعاويذ في تلك اللحظة فاضت بالمشاعر، امتلئ قلبها بالحزن تاركاً لليأس سبيلاً لداخلها، تزاحمت الافكار و تناثرت بكل مكان، لماذا ضحى بنفسه؟ لمَ فضل حياتي على حياته؟ لماذا انا مهمة؟ تراكمت الاسئلة بعضها على بعض لم تترك مجالاً للاجابة، بينما تتصاعد تلك الاسئلة كالدخان برز سؤالٌ جوهري نظرت حولها، فرأت سلفيان لا يزال يقاتل الوحش رغم النزيف الذي ينهك جسده، بينما تتسع ابتسامة الكيان المخيفة، وضحكاته تتعالى في الهواء وتنفس نيكلاس الذي يضعف اكثر واكثر، قالت بصوت مليئاً بالتساؤل: يا رب هل انت حقاً موجود؟
دموعها تبدأ بالنزول لم تعد قادرة على التحمل تحضن جسد نيكلاس الذي بدأ يفقد دفئه تردد بصوت خافت صلوات متوسلة تتسلل من الظلام وتنادي "يا رب امنحني من قواك، أرسل أبطالًا لإنقاذ هذا العالم من الدمار. ابطالاً يحمون الارض من الوقوع في براثن الظلام. ابطالاً يعيدون السلام".
وفجأة، يخترق الظلام نور خافت، يتزايد شيئًا فشيئًا، كأنه يستجب للنداء، هذا النور يقترب ويمحو كل الظلال، خرج من ذلك النور بعض الغرباء، لكل واحد منهم هيئة أكثر غرابة من الآخر. كان الأول رجلًا بملابس سوداء تفوح منه رائحة الموت، وكأنه خرج تَوًّا من قبر نَسِيَ الزمنُ إغلاقه. أما الثاني، فكان يرتدي ملابس شاعر، يحتضن كمانه كما لو كان امتدادًا لروحه.
إلى جانبهما، وقف رجل ضخم يشبه التنانين القديمة، جسده مغطى بقشور غريبة، وعلى ظهره فأسٌ هائل يبدو كأنه قادر على شقّ الجبال. لم يكن ذلك المشهد وحده كافيًا لإثارة الدهشة، إذ كان هناك أيضًا شخص ببشرة زرقاء، وأذنين طويلتين، يرتدي ملابس نوم، وكأنه انسلّ من حلم غريب إلى أرض الواقع.
لكن الأكثر إبهارًا من بينهم جميعًا، كان ذلك الرجل ذو الدرع اللامع، شعره الأشقر يتلألأ تحت ضوء القمر، وأجنحته البيضاء المتعالية ترفرف بخفة، كأنه كائن سماوي هبط من الأعالي.
لمعت عينا اليزابيث بشرارة من الامل... لم يعودوا وحيدين بعد الان، لم يتم نبذهم من الرب، لم يكونوا منسيين، توقفت دموعها عن الانهمار و أحست بنعاس مفاجئ و كأن قلبها قد وجد الطمأنينة التي فقدها منذ وقت طويل بصوتها الناعس و ابتسامتها التي ازدات دفئاً قالت: "اخيراً... لقد وصل الابطال"
تهاوت إلى الأرض، غائبة عن الوعي، مستسلمة لأحلامها الأخيرة... متمنية أن يكون الأبطال حقًا قد وصلوا لإنقاذهم. ومع سقوطها، لم يكن ذلك مجرد نهاية لحظة، بل بداية لقصة مختلفة... قصة لم يشهد العالم مثلها من قبل.
يتبع...
نهاية الفصل 1
𝓣𝓡𝓓