الفصل السابع والأربعون: الأناقة
____________________________________________
انقضى عامان كاملان، وذات يوم، كان غو شانغ يسير بخطى وئيدة بين أجمة الخيزران الكثيفة. كان يرتدي حُلّةً سوداء اللون، مصقولة القوام، قد حيك على ظهرها ببراعة رسم لثلاث أفاعٍ ذهبية طويلة.
وكان قد عَقَدَ شعره الطويل دون اكتراث، تاركًا بعض الخصلات تتهادى على جبينه، فزاده ذلك منظرًا آسرًا. تميّز بشفاهٍ قانية وأسنانٍ ناصعة البياض، فكان وسيم الطلعة، أخّاذ الحضور، وظلت عيناه الثعلبيتان، بسحرهما الغامض، تخطفان الأنظار.
تسللت إلى قلبه مشاعر جياشة وهو يسترجع ما مضى، ففي غضون العامين المنصرمين، جاب وحيدًا مختلف ولايات تشو العظمى، ثم واصل ترحاله إلى مملكة تشينغ، باحثًا عن مقاطعة بايشو دون جدوى، فضلًا عن العثور على أي أثر لشوان هوانغ. لقد شهدت قوته نموًا ملحوظًا، إذ بلغ مستوى زراعة التشي لديه ألفًا وخمسمائة عام، وتحسنت قدراته في جميع الجوانب. هذّبت رحلتاه اللتان استمرتا لعامين من طباعه، فصار أكثر تحفظًا، وأضحت نظراته هادئة كصفحة الماء، خالية من أي حدة أو بريق.
تمطّى ثم قال لنفسه في هدوء: ''ما أعظم الفوضى التي تعم العالم الخارجي، لعل الأفضل لي أن أعود أدراجي وألزم العزلة.''
استأنف سيره البطيء إلى الأمام، وكانت وجهته مدينة تيان شوانغ، أقصى مدن مملكة دا يي شمالًا، والتي لا تزال تبعد عنه مئات الأميال. لم يكن في عجلة من أمره، بل كان يذرع الطريق بتؤدة واستمتاع. لقد علمته أسفاره خلال العامين الماضيين الكثير، فقابل أصنافًا شتى من البشر، وأصبح أقل اكتراثًا بالعديد من الأمور، طالما أنها لم تمسّه شخصيًا.
وفجأةً، طرق سمعه صوت صرير قادم من خلفه، فميز على الفور أنه صوت عربة تجرها الخيول، واستشف من وقع الأقدام أن القادمين كُثر. تنحى جانبًا وواصل مسيره، بينما كانت قافلة تتقدم ببطء من ورائه، يحفّها الحراس من الأمام والخلف، وتتوسطها ثلاث عربات.
رُفع ستار العربة الأولى بتكاسل، وانبعث منها صوت شاب يقول: "يا عم ما، لقد أوشكنا على الوصول إلى الديار!"
حكّ السائق رأسه وأجاب: "أجل يا سيدي الصغير، أوشكنا على ذلك. ثلاثة أميال أخرى ونصل إلى مدينة جيو ليان."
أومأ الشاب الذي يدعى لو فنغ برأسه، فقد أنهكته وعورة الطريق، وكان يتوق للاستحمام والتمتع ببعض الراحة. سقط ستار العربة الجانبي، وفي تلك اللحظة الخاطفة، لمح خيالاً رشيقًا يسير بمفرده.
"همم؟"
فتح لو فنغ ستار العربة من جديد، وتيقن من وجود ذلك الشخص، الذي كان قوامه من بعيد يبدو متناسقًا وجذابًا. استبد به الفضول على الفور، فقد كانت له هواية غريبة وميول لا تخفى على من يعرفه، ولما رأى هيئة غو شانغ، كاد لعابه يسيل.
أطلق صيحة آمرة: "توقفوا!"
وعلى إثرها تجمدت القافلة في مكانها. أقبل قائد الحرس على صهوة جواده وسأل: "ما الأمر يا سيدي؟"
فتح لو فنغ الستار الأمامي وقفز من العربة بخفة، وبينما كان يتمتم ببيت شعرٍ مبتور: "توقف لنجلس ونتبادل الهوى..."، سارع بخطاه نحو غو شانغ واعترض طريقه. أدرك قائد الحرس على الفور ما يرمي إليه سيده، فشعر بقشعريرة تسري في جسده، لكنه كبح انزعاجه ولوح بيده، فترجل هو ورجاله ولحقوا به.
توقف لو فنغ أمام غو شانغ، وأخرج من جيبه زهرة وضعها بين شفتيه، ثم استند على جذع خيزران قريب وقال بنعومة: "يا سيدي، إن مظهرك يذكرني بشخص ما."
قطّب غو شانغ حاجبيه، فقد شعر بغرابة لا توصف تنبعث من هذا الرجل. وفي تلك اللحظة، لاحظ وجود الحراس الذين أحاطوا به، كانوا مجرد مقاتلين عاديين، أقواهم لم يتجاوز مستوى هوا غانغ، وكان عددهم خمسة وثلاثين رجلًا يمكنه التخلص منهم متى شاء.
سأل بحذر: "من هو؟"
أمسك لو فنغ بالزهرة وقدمها إلى غو شانغ وهو يقول: "حبيب قلبي. أتساءل، هل يتسع وقتك الليلة لنقضيها معًا في فراش واحد؟"
تراجع غو شانغ خطوة إلى الوراء.
''مع أنني لا أنوي البحث عن امرأة، إلا أن ميولي لا تزال سوية.''
أدرك حينها حقيقة الأمر، لقد صادف ندًا له في الميول، ولكن من الطرف الآخر. سمع لو فنغ الرفض الصريح في كلماته، لكنه لم يغضب أو يتفاجأ، بل حدّق في غو شانغ بعينين متقدتين، مركزًا نظره على عينيه الثعلبيتين.
"يا سيدي، عد معي إلى الديار، وأنا على يقين بأنني سأنال إعجابك. يمكنك أن ترفض، لكن هؤلاء الرجال الأشداء بجانبي ليسوا لطفاء جدًا. إن رفضت، فقد يقتلونك."
مد لو فنغ يده، عازمًا على الإمساك بيد غو شانغ.
وقبل أن تلامس يده يد غو شانغ، وفي حركة خاطفة لم تلحظها عين، طار رأس لو فنغ في الهواء. وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بلحظة، كانت نظرة العشق العميق لا تزال متجمدة في عينيه. تحكم غو شانغ بطاقته الداخلية بإتقان تام، فلم تسل قطرة دم واحدة.
مات لو فنغ!
أصاب الذهول قائد الحرس للحظات، لكنه سرعان ما استعاد رباطة جأشه وصرخ: "اقتلوه!"
كان يرى أن هذا الرجل قوي، لكنه على الأرجح في مستوى هوا غانغ فحسب، ومع وجود هذا العدد الكبير من الرجال، كان لديهم أمل في إيقافه. كانت حماية لو فنغ مهمته، والآن بعد أن مات، فإن عودته إلى عائلة لو تعني موته المحقق، لذا لم يكن أمامه سوى التكفير عن خطئه.
أحاط أكثر من ثلاثين حارسًا بغو شانغ، قابضين على نصالهم بقوة.
"لقد قتلت الكثير من الناس، لكن هذه هي المرة الأولى التي أفعلها لهذا السبب."
قال غو شانغ ذلك وقد شعر بالغثيان من نظرات لو فنغ. هز رأسه، ثم تقدم خطوة واحدة إلى الأمام. تحولت الطاقة الداخلية في جسده إلى خيوط رقيقة انطلقت بسرعة خاطفة، مخترقة قلوب أولئك الحراس والخدم الواقفين عن بعد. سقطت الأجساد واحدًا تلو الآخر، وقد تجمدت تعابير وجوههم على ما كانت عليه قبل أن يدركوا ما حدث، فلقوا حتفهم جميعًا على يدي غو شانغ.
لم تظهر أي بقعة دم على الأرض، فكان كل شيء نظيفًا تمامًا. وتوخيًا للحذر، أبقى غو شانغ على حياة واحد منهم، وتقدم نحوه ليسأله: "من أنتم؟"
"عوو! عوو! عوو!"
كان الكائن الذي أبقى عليه كلبًا أصفر اللون متوسط الحجم، وكان ينظر إليه بهيام وشغف. لمس غو شانغ رأسه وقال: "فهمت. شكرًا لك."
لقد عرف هوية هذه المجموعة، إنهم يتبعون الابن الثاني لعائلة لو في المدينة المجاورة. تنهد غو شانغ وقال: "هيا بنا، لنقتلع هذه المشكلة من جذورها."
كان من مبادئه استئصال الشر من جذوره، كي لا يترك لنفسه أي متاعب في المستقبل. تدفقت كمية هائلة من الطاقة من جسده، فسحقت كل الجثث خلفه وحولتها إلى شظايا دقيقة لا تراها العين المجردة، حملتها الرياح وطارت بها في كل اتجاه.
"عوو! عوو! عوو!"
حمل غو شانغ الكلب الأصفر بين ذراعيه وواصل تقدمه. وفي صباح اليوم التالي، خرج من بلدة صغيرة، بعد أن قضى على عائلة لو عن بكرة أبيها، ولم يترك منهم أحدًا. كانت تلك العائلة طاغية في المدينة، يعيث أفرادها في الأرض فسادًا، ويستغلون نفوذهم لقمع الناس، فكان ما فعله غو شانغ بمثابة عمل صالح.
***
مدينة تيان شوانغ.
كان الريح قارسة والثلج يتساقط بغزارة، وكل من يعيش هناك كان يرتدي ملابس قطنية سميكة. أمام بوابة المدينة، سار خيال فريد ببطء نحوهم، يرتدي ملابس خفيفة للغاية، مما خلق تباينًا حادًا مع المارة من حوله. بألف وخمسمائة عام من زراعة التشي، لم تكن هذه البرودة شيئًا يذكر بالنسبة لغو شانغ.
ابتسم وهو يفكر: ''لا أدري كيف حال تشو تشين وشي شي الآن.''
واصل طريقه بهدوء، وفي هذه اللحظة، انطلق ظل أسود فجأة من بعيد، كان سريعًا جدًا وتتجاوز قوته عالم الأسياد. وخلفه، كانت العشرات من الأطياف تتبعه عن كثب، وقد لمح غو شانغ وجه شي شي بين هؤلاء الناس.
"حاجز طريق لا يعرف معنى الحياة أو الموت."
كان الظل الأسود سريعًا للغاية، ونظر إلى غو شانغ الذي يقف أمامه، وازدراه ببرود. برزت أشواك حادة على جلده، وارتسمت على وجهه نظرة جنونية، متوقعًا أن هذا الرجل سيتحطم إلى نصفين على يديه. بدا وكأنه يشم رائحة الدم العطرة، فامتلأ وجهه بنشوة مخيفة.
ولكن، بدا أن كل ذلك لم يكن سوى وهم.
قبضت يد ذهبية على عنقه بقوة، فشلت حركته تمامًا ومنعته من أي مقاومة.