كان لايزال رماد ليا يتراقص مع نسيم الجبل ، ودماء ايفارد متراطمة مع صخور الارضية الخشنة ، الجميع محيط حولهما ، كانت دموع " ميغن " تنجرف كسيل نهر لاينتهي ، عكس ايفاريوس اللذي كبح دموعه لاقصى درجة ، لتسقط اخيرا تلك الدمعة التي تلخص كل شيئ ، فكلاهما قد خسرا السبب الاخير اللذان كانا يعيشان من اجله ، فارقا اخر فلذات اكبادهما ، كانت احاسيسهم ومشاعرهم متطابقة لدرجة كبيرة ، الا شيئ جوهري واحد ، فنفس الاسباب لا تؤدي الى نفس النتيجة بالظرورة ، ذلك الشيئ كانت نظراتهما ، كانت مختلفة تماما ، فقد كان يسيطر على ميغن كل من الخذلان و العار ، فقد ظلم الشاب اللذي احب ابنته اكثر منه ، سلب حياة ذلك الشاب اللذي لا زال في سن الزهور ، بينما كانت نظرات الغضب والحقد في عيني ايفاريوس ، ليس من ميغن فحسب بل من نفسه حتى ، فقد عادت به الذاكرة ال كل مواقفه الحلوة منها والمرة مع ذلك الصبي ، اللذي كان مميزا ومختلفا عن باقي الصبية منذ اول لحظة له في هاذا العالم القاسي ، ذلك الصبي اللذي طالما اراد السلام اكثر من اي شيئ اخر ، تذكر كل اللحظات التي لم يعطه حقه فيها ، اهانه ، خاصمه ، بل وحتى استصغره واستصغر قراراته ، لكن اتضح في الاخير انه كان قائدا حقيقيا بالفطرة اكثر منه ، تمازجت وتداخلت كل تلك الاحاسيس والمشاعر لتولد مزيجا قاتلا ، قنبلة متفجرة ، قد تنفجر في اي لحظة مدمرة معها كل شيئ واي شيئ امامها ، ومازاد الطين بلة ، هو اصابة ايفاريوس ، فعلى الرغم من اسعاف ليليث المكثف له ، لكن للاسف لم تستطع فعل اي شيئ فقد انتشر السم في جميع جسده ، وصار انقاذه امرا مستحيلا ، حانت لحظته ليودع هاذا العالم الملوث ، ليلحق بابنه ايفارد زوجته وعائلته اخيرا ، لكن وقبل لفظ انفاسه الاخيرة حتى وصل جوريان ، التوام ، وما بقي من الفرقة اوميغا ، كانت الدماء تغطي ملامحهم ، لدرجة تلون شعر التوام الفاتح بالاحمر الداكن ، كانت نظراتهم لا توصف ، حتى ان غوريان ركع على رجليه من هول الموقف ، لم يكتفي في رؤية صديقه المسموم يموت امامه ببطئ ، بل وقد اخفق في حماية ايفارد ، اللذي كان اكثر من مجرد ابن صديقه المقرب او وريث العشيرة بل كان بمثابة اخيه الاصغر ، فعلاقته بايفارد كانت اقل رسمية من والده ، لانه تربى في بيته ، تحت كنف روكاين ، كان غوريان بمثابة الشقيق الاكبر له ، لذلك كان المه مضاعفا ، كانت الاجواء مكهربة جدا ، فقد كانت الصدمة كبيرة على كل الحظور ، فموت صبين بريئين صغيرين من اجل قضية والديهما وعشيرتيهما الانانية ، شيئ لا تراه كل يوم ، وبين هاذا وذاك واذا بروح ايفاريوس تخرج من جسده ، بعد ان همس بكلماته الاخيرة في اذن جوريان ، كان الحزن والالم مخيما على الجميع حتى ميغن وجنوده كانت الامور لا تزال في تصاعد مستمر ، وفجاة واذا بشرارة الغضب تشتعل بين الجنود واعضاء قبيلة ايفاريوس ، وفجاة ومن لاشيئ نشبت معركة ، وهاجمو ميغن ومن معه انتقاما منه ، تحتم على جنود ميغن حمايته ، على الرغم من انه كان مستعد لذلك ، مستعد لدفع ثمن كل هاذا بموته ، بدات المناوشات بينهم ، كان زيكسل يشاهد كل ذلك ، وذكريات العمة هيمار تمر امام عينيه ، تذكر ذلك الام اللذي يصاحب فقدان شخص عزيز عليك ، تذكر ذلك الياس اللذي يعمي بصيرتك ويجعلك غريقا لبحر الظلمات ، كان فعلا يتفهم مشاعر الغضب التي كانت تسيطر على المكان ، وكان يحاول جاهدا ايقاف ذلك .... فجاة واذا بخطوات ثابتة ومتسارعة وسط الفوضى و المناوشة ، وقبل ان يسقط اول قتيل بينهم واذا بجينيس يظرب بعصاه الارض ، اذ ادى الهواء المتجمع حولها الى قذف كلا الطرفين بعيدا عن بعضهما البعض ، و بصرخة توقف قوية جدا بقيت نغمتها تتردد في ارجاء الجبل المجوف لمدة من الزمن ، اوقفت الجميع ، لقد كان جينييس ، و ندى الدموع بين جفنيه وعينيه المغمضتين

جينيس ( متوسلا ) : توقفو... من فضلكم جميعا توقفو ..... ما هاذا اللذي تقومون به ....

صوت من وسط الفوضى : سننتقم ... سننتقم لزعيمنا ، سننتقم لموت وريثنا الصغير ، لن نجعل موتهما يذهب هباءا ... سنكرم ذكراهما بالدم هنا واللن

_ اصوات باقي الاشخاص : اجل ... اجل ... من اجل ايفاريوس.... من اجل ايفارد ...


جينييس : تكرمهما ... ؟؟ هل هاذا ماكان ايفارد ليريده ؟؟ حرب دموية نهائية بينكم ؟؟ الم يكن يريد السلام ، الم يضحي بنفسه من اجل هاذا ؟؟ هل فعلا تريدون تدنيس ذكراهما بهاذا الفعل المشين ؟؟ تكريم ذكراه لن تكون بسفك المزيد من الدماء ، بل باخر امنية كانا يريدانها ، السلام بين العشيرتين


جندي اخر : حياتنا كلها كانت حروب .... ولدنا لاجل الحرب ، وسنموت من اجلها ... هاته كانت عقيدتنا ... وكل من الزعيم وايفارد يعلمان ذلك ، لن تنتهي الحرب الا بموت احد الاطراف ، او استسلامه .... وهاذا امر مستبعد تماما .... لذلك ، فلتكن الحرب اذن

_ بدات الامور تزداد حدة ، ويبدو ان كلام جينييس لم يعد يجني ثماره بعد ، وفجاة ووسط كل تلك الجلبة ، واذا بقائد عشيرة فابيون يتقدم خطوط دفاعه الاولى ، ويرفع ذراعيه في السماء وسط الساحة ، امام كل الموجودين هناك

ميغن : اذا كان هاذا هو الامر ... فاذن انا اختار الاستسلام ...


نزل هاذا الخبر كالصاعقة على الجميع ، والنصيب الاكبر كان لعشيرته ... تعقدت السن الحظور لبرهة من الزمن ، وساد الصمت لبضع ثواني ، ولا ننسى نظرات غوريان التي كانت تصف الشرود بكل معانيه ، بعد مرور الوقت واسترداد الجموع لسيطرة عقولهم بعد ان فقدوه لبرهة من الزمن

احد جنود اسكاسيوس ( بضحكة هستيرية ) : الاستسلام .... لن نرضى بذلك الان ابدا ... الان صرنا بعيدين كل البعد عن الاستلام ... ما نريده هو الدماء ، فلا شيئ سيكفر عن ذنبك الا الدم

كانت بقية جنود ميغن تحاول الحصار عليه في تشكيلة دفاعية ومحاولة حمايته من الانفجار اللذي قد يحدث في لحظة من الان ، لياتي رد ميغن القاضي

تجاوز ميغن حائط جنوده ، وبسرعة حمل احد فؤوس جنوده ، ورماه باتجاه اسكاسيوس ، حتى غرس في الارض ، ثم جثى على ركبتيه في وضعية قطع الرقبة

ميغن : فليكن اذن ... لقد قمت بخطيئة لا تغتفر .. قمت بمحاولت اغتيال الشخص الوحيد اللذي احب ابنتي فعلا ، ذلك الصبي الصغير اللذي فضل حياتي على حياته ، فضل سعادة ابنتي على سعادته ... لن يغمض لي جفن ابدا بعد هاذا الاثم ، لن اغفر لنفسي ما حييت ... وان كان موتي يعني التوقف عن موت المزيد من شعبينا ، ان كان مفتاح السلام بيننا هو دمائي ، اذن فلتتقدم وتقم بذلك

كانت صدمة تتبعها الاخرى بالنسبة للجميع ، خاصة اسكاسيوس ، منعتهم هي الاخرى من التحرك لبعض الوقت ، هاته المرة السبب كان صدق كلامه ، فهو لم يحرك ساكنا ابدا ، كانت صدمة للجميع فكيف سيستطيع اي احد مد يده نحو رقبة ميغن ، اقوى شخص فيعشيرة فابيون بدون منازع ، وقائدها ، الملقب "بالدب الصخري "، لقوته وصلابته ، لو كانت الظروف مختلفة قليلة ،سيحلم اي محارب في ملامسته ولو بخدش صغير ، كان التردد يملئ الاجواء ، وفجاة واذ باحد اعضاء فرقة اوميغا يحمل الفاس ويتجه نحو رقبته مباشرة

الجندي : فلترقد روحك بسلام ايها الزعيم

صورة الفؤس يلوح في السماء ، بعدما تصدى له غوريان بسيفه

غوريان بخطى ثابتة بعدما اكتفى من المشاهدة فقط ، يمشي وسط الجوع ... كانت نظرة جدية ومخيفة ترتسم على وجهه ...

جوريان : انا جوريان فيرلاندير ... النائب الاول للزعيم الثالث لعشيرة اسكاسيوس ايفاريوس ساريوس ، اعلن نفسي الزعيم الرابع لعشيرة اسكاسيوس ،فليتكلم المعارضين الان او فليصمتو للابد ..... هل من معارض ؟؟

فجاة بدات حشود اسكاسيوس ، بالركوع شيئا فشيئا حتى اخر فرد ، فالكل يعلم بمكانة جوريان وقوته ، فهو المرشح الاول بعد ايفارد ، فهو الذراع اليومنى التي لا تتزحزح للزعيم السابق ، خاصة وان ايفاريوس لقبه القيادة قبل موته ، فما كان رد الحشود الا

الجميع : فليحيا الزعيم جوريان فيرلاندير ، الزعيم الرابع لعشيرة اسكاسيوس ... فليحيا ... فليحيا ...

تقدم نحو جثة صديقه وحمل عباءته ووضعها على ظهره


وبسرعة اصطف ما بقي من جنود الفرقة اوميغا خلفه ، في وضعية التحية والاستعداد

احد الجنود : اوامرك ايها الزعيم ...


جوريان : فليسمعني الجميع جيدا ... لقد استمر هاذا الصراع الكثير من وقته بكثير ، لقد اخذ ثلاثة اجيال كاملة منا ، لدرجة اننا لا نذكر السبب الاول اللذي جعل قبيلتينا تدخل في هاته الحرب الابدية ، لقد وثقنا في زعماءنا لقيادتنا نحو النصر ، نحو البقاء والنجاة ، ونحن نكرمهم لذلك ، لكن اليوم وامامنا جميعا ، تم اثبات اننا كنا على خطا ، لقد تم نفي كل مفاهيمنا عن الفوز والنصر ، لقد اثبت لنا انه يمكن للحب ان يتغلب عن الكراهية ، انه يمكن للزهرة ان تنمو وتعيش وسط الصخور ، وكل هاذا من طرف من ؟؟ من طرف فتى لم يذق رحيق العسل بعد ، لذلك سيكون اول قرار لي في كرسي العرش هو تخليد ذكرا كل من علمنا هاذا ، اخي وصديقي الاصغر ايفارد ، ساخلد ذكراه بقبول عرض فابيون للسلام بيننا ، سنبني انفسنا من جديد ، سنمحو ذكريات الالم والموت التي بيننا ، ونستبداها بذكريات ذلك الحالم الكبير ، والعاشق الصغير ، اللذي راى ان السلام ممكن لعشيرتين لم تامنا به يوما ، ساجعل حلمه واقعا ... ساحرص على ذلك بحياتي

ثم تقدم ومد يده لميغن

جوريان : كنت تتكلم عن الخطيئة والاثم ... انا امنحك الان فرصة لتصحيح ذلك ، للتكفير عن خطيئتك .... سقطنا كعشيرتين متفرقتين ، لكن فلننهض كعشيرة واحدة


_ مد ميغن يده نحو يد جوريان ورفعها عاليا معلنا عن قبول عرضه

ميغن : من اجل ايفارد وليا

وتدريجيا بدا باقي جنوده بالانحناء كذلك ، وبدات هتافات " من اجل ايفارد وليا " بالتصاعد اكثر واكثر

استطاع جوريان امتصاص غضب عشيرته ، وابقاءها تحت السيطرة اخيرا ، عادت كلا المجموعتين الى قبيلتيهما ، وصلت جموع اسكاسيوس الى قريتها ، كان الجميع في انتظار عودتهم وعلامات الفرح عليهم ، لتقع الصاعقة عليهم ، واذ بهم يحملون الكثير من الاكفان ، كانت اعين روكاين تبحث عن ايفارد بين الحظور لكنها لم تجده ، لتقع عليها الصاعقة ، فقد كان بين الجثث ملثما باحكام ، ما ان راتهم روكاين حتى سقطت على ركبتيها من هول الامر ، مات من كانت تعتبره ابنها الصغير ، حل الليل بعدما امتصت العشيرة الصدمات التي حدثت لها ، وتقبلت حل السلام اخيرا ، وجاء وقت الجنازة ، بعدما جهزو القبور الخشبية ، لتكريم موتاهم بالحرق ، كان يتقدم تلك القبور قبر الزعيم وابنه ، وبعد ترتيلات مشعوذة وساحرة القبيلة ، وبعد الصلاة على الجثث ، تم اشعال النار في القبور لتحترق الجثث وتنتقل ارواحهم الى السماء بسلام ، بعد انتهاء مراسم الجنازة ، كانت روكاين مازالت لم تفارق قبر ايفارد وايفاريوس ، تقدم اليها جينييس بعدما كان يحاول تجنبها منذ رجعتهم وقبل ان يقول اي شيئ ...

روكاين : لازلت اتذكر خصوماتهما معا ، ولجوء ايفارد الي ، مازلت اتذكر سعادت ايفارد عند انهاءه لاحد الكتب ، منتظرا جائزتي ... مازلت اتذكر ملامح ايفاريوس عندما اقوم بتوبيخه ، صحيح انه كان ينزعج ، لكنه لم يخالفني يوما ، كان يسمعها ويتقبلها مني ، لقد عاملني كامه حقا ، كان ذلك يجعلني فخورة .... الان كل ذلك ضاع واختفى ... ذهب كل شيئ دفعة واحدة ، لا ارى سوى ظلالهما ترافقني الان ...

كان يرد جينييس على كلامها بابتسامات خفيفة ، لكن كانت تخفي خلفها الكثير من الالم ، ففي الاخير هو قد وعدها باعادة ايفارد حيا ، لكنه اخلف بوعده ، وقبل ان يتفوه باي كلمة ، واذا بروكاين تضع يدها على فمه

روكاين : ارجوك لا تفعل ذلك بنفسك ، اعلم انك تتالم اكثر من اي احد بسبب وعدك لي ، لكني اعلم انك قمت بكل جهدك لانقاذه ، لكن هاذا كان قراره الخاص ، لم يكن بامكاني لا انا ، ولا انت ردعه ، لذلك لا تلم نفسك اكثر من هاذا ، لازالت الحياة دربا طويلا جدا امامك ، لتجتازه يجب ان تتعلم قدرة مسامحة نفسك من حين لاخر ، والا هاته الاشياء ستبقى تنهش روحك من الداخل شيئا فشيئا فشيئا حتى لا يبقى اي شيئ

كانت نظرات جينييس الى روكاين نظرات استغراب واحترام في نفس الوقت ، فقد كانت كلماتها متطابقة جدا مع كلمات المعلم ، ذلك جعله يتذكر كلمات معلمه الاخيرة له ، مما ادى الى تحفيزه اكثر واكثر


مرت الليلة ونام الجميع اخيرا ، ليستيقض الرفاق في الصباح على صوت احد الابواق ، فذلك اليوم هو موعد اللقاء بين زعيمي العشيرتين ، لامضاء عقد السلام بينهما ، هنا غادرهم الرفاق بعدما اطمئنو ان كل شيئ بخير ، وبعدما ودعو كل اهل القرية ، متجهين نحو مكانهم القادم .




Chapter : 27


2020/08/23 · 163 مشاهدة · 2024 كلمة
نادي الروايات - 2024