1 - ثلجية بعيون حمراء

تلك كانت، أول مرت أراها فيها من قرب...

بعد سنتين متواصلتين في ساحة الحرب، حرب سببتها مملكة إسترا في محاولة لإستعمار مملكتنا الصغيرة ليفايس، في آخر معركة توجب علي المشاركة بها كقائد للوحدات، رأيتها.


الشخص الذي كشف خطتنا للهجوم.
الشخص الذي عجزت جيوشنا وفرساننا على إيقافه.
كل التقارير تحدثت عنه وبالغت في وصف خطورته.
لقد كانت طريقة قتاله غريبة، معظم ضحاياه من الشعب اصيبت اقدامهم وأياديهم حتى اصبحوا غير قادرين على الحراك، لكنهم لم يموتوا بل حتى إصاباتهم يمكن شفاؤها بسحر الشفاء، بينما فرسان الطبقة النبيلة قتلوا بدون تردد وغطت دماؤهم درعه البالي.


"إله الحرب"
هذا ما اطلقه عليه الجنود، لا معلومات عن إسمه او رتبته.
تخيلته رجلا بقوة وحش، أحد اقوى فرسان إسترا العظماء لكن، تفاجأت برؤية أن هذا الوحش هو هذه الفتاة أمامي.


جسد انثوي رشيق تحيط به هالة سحرية غامضة. صغير وكأنه سيكسر بأي لحظة من ضربة واحدة، يتحرك بكل خفة بيننا حاملا سيفا أحمر مصنوع من دمائها، حاد الشفرة، يقطع أي من أعدائه بدون عناء.
بشرة بيضاء باهتة، وكأنها لم تأكل او تنم منذ أيام، وعلى خدها كلمات ورموز مثل لعنة ما، تخطيها هالة سوداء.
شعر أبيض قصير غريب، لم يكن كبياض الثلج وليس ببياض شعر إمرأة عجوز. لايبدو وكأنها تستحمل عناء ترتيبه، بل ترفعه ذيل حصان وتترك خصلاتها بكل حرية لتحجب جبينها فعينيها.
مقارنة بكل الأنسات النبيلات اللّوات رأيتهن هي مثل المتشرد.
لكن ماجذب إنتباهي كان عيناها، أعين حمراء كلون دماء ضحاياها، لا توجد ذرة تلألؤ بهما، عينان فارغتان، ميتتان، تنظر ببرودة إلى جثث الجنود، بلا رحمة، تصيبهم بسيفها واحدا تلوى الآخر.
لقد كانت مثل ملك الشياطين، دمية بلا مشاعر لكن، كلما امعنت النظر أكثر، كلما أعجبت أكثر بها، لقد كانت جميلة بطريقتها الخاصة.


لقد ابيد الفرسان حولي عن بَكرَةِ أبيهم.
لإنهاء هذه الحرب يتوجب القضاء على قائد وحدات احدى الجيشين. إما ان يكون القائد أمير المملكة او الدوق، أنا، من تمّ رميه في مكان أخي الأكبر دون علم أحد.


أنا خائف.

لا اعرف حتى ما افعله هنا، قبل سنتين فقط كنت منسيا، مجرد ابن خادمة لعين يحمل دماء الدوق السابق، بلا اي كرامة او إحترام. "لوكاسدرو فيلد تادتشي"، هذا هو الإسم الذي اطلق علي عندما جُلبت إلى قصر الدوق في عمر السابعة.
امضيت سبع سنوات مثل العبد محبوسا في غرفة بالية، والان انا تضحية تحل مكان الدوق -أخي- بينما يهرب هو من الموت.
احسست بدمعة دافئة تسيل على خدي.
أنا خائف.


لم اطلب ان اكون ابن الدوق الغير شرعي.
لم اطلب ان اخذ مكان ذلك المدعوّ اخي واموت.
لازال هناك الكثير اريد فعله، بالوقت الذي امضيته بتلك الغرفة البالية اقرأ الكتب وارسم واتدرب على التلويح بالسيف، بقيت اتخيل جمال العالم الخارجي.
ظننت انني سارى اشياء جديدة رائعة، لكن كل مارأيته هو منظر سفك الدّم والجثث، وها أنا الآن ارتجف على الأرض بينما انتظر الموت ليأخذ انفاسي.


إقتربت مني تلك الفتاة بنظرة باردة تحيط بها نية القتل ورفعت سيفها، سينتهي كل شيء قريبا.
إنهالت دموعي رغم محاولتي في البقاء قويا. اغلقت عيني وعضضت شفتي حتى سال الدم منها لعلِّي اهدأ واموت بشرف مثل بقية الفرسان.

- "من أنت؟ اين الدوق الحقيقي؟"

إقشعر بدني على هذا الصوت الغليض، لا، بل كان أرق على ان يكون صوت رجل، إنما كانت نبرته باردة مما شبهه بصوت الشياطين فأثارت الخوف فيّ ولم اعد امتلك المقدرة على فتح عيني.

- "لماذا انت خائف هكذا؟ من الموت؟ هذه حرب...يجب ان تكون مستعدا للموت بأي لحظة."

شعرت بضغط هالتها يخف عن ما كان قبل قليل ونية القتل في الجوّ تكاد تختفي.
استجمعت شجاعتي وفتحت عيني.
لقد انزلت الفتاة سيفها وبقيت تحملق بي، لم تتغير تعابير وجهها على الإطلاق لكنني كنت أعرف ما تفكر به.
قائد الوحدات الحقيقي فرّ بجلده وعلى الأرجح العائلة الملكية معه، لكن يمكن إيجادهم باي لحظة، واصبح الجيش غير قادر على القتال.
الحرب إنتهت بإنتصار مملكة إسترا.
لا يوجد فائدة من مواصلة القتال بعد الآن.

- "لماذا لم تقتلي الدوق بعد ياخائنة؟"

لقد كان هذا صوت الأمير الثاني لإسترا، لوكاستير، نزل من حصانه وإقترب من الفتاة بتعابير من الغضب والحقد و وجّه سيفه نحو ضهرها.
لكن تعابيرها الباردة لم تتغير.

- "مالذي تنتضرينه ياخائنة؟! اقتليه! انهي الإتفاق إلى النهاية! اقتليه وستصبحين حرة وتُرفع عقوبتكِ ضد جرائمكِ"

خائنة، إتفاق، جرائم، كلمات تحمل معنى عميق. شعرت بامر خاطئ يحدث هنا، كل ماتمكنت من استنتاجه كان ان هذه الفتاة لم ترغب بان تكون هنا أيضا.
أغلقت الفتاة عينيها للحظات وتنهدت. إختفت الهالة حولها وتحول سيفها الى دماء سائلة إختفت قبل ان تمس الأرض ثم حركت شفتيها قائلة:

- "هذا الفتى ليس الدوق، لافائدة من قتله. حتى إن فعلت فانت لن تحررني، صحيح؟ هذا الإتفاق كان منذ البداية مجرد كذبة."

لاحت على وجه الأمير الثاني تعابير القلق و التوتر، كأن الفتاة كشفت كل خطته، وواصلت الحديث:

- "آمل انك لم تنسى انني اعرف كل شيء عنكم وعن خطتكم، لكني ساكون لطيفة وامنحك ثلاث خيارات جلالتك...واحد، انهي على مسار الإتفاق ويصبح هذا الفتى سجينا لكم واعود الى المملكة كبطلة الحرب وليس خائنة. إثنان، اقتل الفتى وتطعنني انت وتقتلني لكن، بدون قوتي لن يوجد من يحميكم من ملك الشياطين والوحوش الأخرى فيحتلكم وتموتون جميعا. وأخيرا ثلاثة..."

شعرت بهالة الفتاة تحيط بنا نحن الإثنين بدائرة. بات على وجه الأمير الإرتباك، على الأرجح بسبب ذكر الوحوش وملك الشياطين.
هذا العالم انقسم الى قسمين رئيسيين، جانب البشر بقلة يمكنهم استخدام السحر، والجانب المظلم الذي يحكمه ملك الشياطين والوحوش كالمستذئبين واشباه البشر ووحوش برية مثل الحيوانات.
لم ارى حقا اي من الوحوش طوال هذه السنتين في ساحة الحرب او الغابات التي عبرنا منها، وكانه لاوجود لهم لكن الكتب والمخطوطات اكّدوا على وجودها وحثوا على تجنبها عند رؤيتها، ناهيك عن إغضابها.

- "أخي مالذي تفعله؟! انزل سيفك عنها الآن!"

صرخ الأمير الأول أرثر بهذا مندفعا نحونا رفقة بعض الفرسان.
وقع سيف الأمير الثاني وسرعان ما سقط معه هو، امسكه الفرسان وسحبوا سيوفهم نحونا لكن الأمير الاول اوقفهم وامرهم باخذ الأمير الثاني والمغادرة، بقي وحده معنا و واصلت الفتاة كلامها:

- "ثلاثة...استعمل قوتي على كل من يعترضني واهرب من هنا. لماذا اتيت جلالتك؟"

- "لقد..لقد انتهت الحرب هنا لهذا اتيت للاطمئنان عليكِ."

- "أنا بخير كما ترى، أليس عليك القلق على "الامير الثاني؟

لاح القلق في عيني الأمير، لكن الفتاة لم تعره اهتماما.
جثمت على ركبتها وبدأت الكلمات والرموز على خدها بالتلاشي مع هالتها حتى بان وجهها بالكامل.
لم تكن قبيحة ولم تكن ذو وجه جميل ايضا خاصة بالحدقات السوداء تحت عينيها وبشرتها الباهتة، لكن لم اتمكن من إبعاد ناظريّ عنها.
مددت يدها ولامست وجهي بلطف، كانت يدها باردة حقا.

- "يبدو ان دوق ليفايس خطط لوضع بديل له في الحرب من البداية، ان اسرعتم الان فيمكنكم امساكه هو والعائلة الملكية قبل ان يبتعدو اكثر من قصرهم. جديا..ان يضع فتًا صغيرا في مكانه ليموت...هذا ليس مضحكا."

- "هذا الفتى يشبه الدوق كثيرا، سمعت ان للدوق السابق طفل غير شرعي، اضن ان هذا الفتى هو المقصود. اراهن انكِ ادركتِ هذا بالفعل، بالإضافة إلى رغبة أخي بقتلكِ، كان الإتفاق ان تبيدي جيش العدو الى آخره وجلب النصر لنا لكن...انتِ لم تقتلي سوى النبلاء وتركتي العامة باصابات بليغة والأن لم تحاولي قتل قائد الوحدات، لم تخططي لإتباع الإتفاق من البداية. فقط مالذي تخططين لفعله؟"

رفعت الفتاة رأسها ونظرت الى السماء ثم واصلت الحديث مع الأمير:

- "مملكة إسترا احتلت مملكة ليفايس اليوم واصبحت الان اكبر واقوى باضعاف، شعب ليفايس الأن اصبحوا إسترا وهذا بما فيهم جنودهم، اي ان جميع المصابين ومن العامة حولنا الان هم إسترا، انا...لن اقتل شعبي."

- "انتِ..فكرتي بمستقبل المملكة من البداية، هذا فقط مثلكِ"

نظرت الي الفتاة مجددا، وسألتني:

- "يا فتى، ان منحتك فرصة للمجيء..لا، بل للهرب معي من هذا العالم السخيف، هل سترافقني؟"

لم اعرف مايتوجب علي قوله.
قبل دقائق كانت هذه الفتاة توجه سيفها نحوي بنية القتل والان، تمد يدها نحوي لاخذي من هذا المكان.
ان بقيت فعلى الأرجح إما اقتل و إما اصبح عبدا لاحد نبلاء العدو، لكن لاشيء يضمن عيشي ان رافقتها.
ومع هذا، لازلت ارغب بالذهاب بعيدا من هنا، اريد رؤية اشياء جديدة، اريد ان ارسم ما اراه واعيش الحياة التي اريدها.


رفعت رأسي ونظرت بعينيها بكل ثقة ثم هززت رأسي موافقا، وقفت الفتاة وإقتربت مني اكثر ومن دون ان ادرك حملتني بيديها الهزيلتين.
لم استطع المقاومة او الحركة حتى بسبب فقدان الكثير من الدم اثناء المعركة، بل كنت متفاجئ من قوتها، نظرت الفتاة الي مرة أخيرة ثم نقلت بصرها نحو الأمير قائلة:

- "جلالتك..لا..أرثر، انت والملك كنتم لطفاء معي عندما إحتجت إلى احدهم، حتى بعد كل ماقمت به منحتموني فرصة ثانية. انا شاكرة لكن...لا تسئ الفهم، انا لست بصفكم، انا فقط احتاج الى القيام بمايتوجب علي فعله."

- "انا اتفهم الأمر. لكن ستعودين، صحيح؟ لقد خسرنا الكثير من النبلاء في هذه الحرب و من دونكِ...ماذا عن ملك الشياطين؟ إن هاجمنا--"

قاطعت الفتاة كلامه وإبتسمت. كانت المرة الأولى التي تضهر فيها تعابير اخرى خلاف وجهها العابس.

- "ساعود سريعا، اسبوعين ربما وساحضر تلك الحفلة كما خططت، وبالنسبة لملك الشياطين، لقد مات بالفعل، قتلته قبل ثلاث سنوات."

لقد تفاجأت بكلام الفتاة، من سيصدق انني بين يدي شخص اقوى من ملك الظلام نفسه. حتى الأمير اختلط وجهه بالخوف والإرتباك. واصلت الفتاة حديثها:

- "لاتكن متفاجئا هكذا..انا بكل بساطة لم ارغب بان يحتل شخص حقير مثله المكان الذي ولدت فيه لكن، اخبر الملك بان يستعد جيدا لعودتي ويحسن من صحته. في المرة القادمة التي يراني بها، سأكون أنا ملكة الشياطين."

لم استطع تصديق اي ماسمعته من فم هذه الفتاة. اردت سؤالها عن ماعنته بكلامها وما ستفعله بي لكن الكلمات لم تستطع الخروج من فمي.
وبالوقت الذي غادرنا فيه ساحة الحرب لم تعد لي الطاقة للبقاء مستيقضا، وهكذا دون ان اشعر نمت بين أحضانها بهدوء وكأن شيئا لم يكن و كأن كل ما حدث كان مجرد حلم.

اجل، كل هذا كان مجرد حلم طويل.
والأحلام لا تبقى الى الابد لهذا كل شيء بخير.
علي فقط الإستيقاض من النوم الآن.


2020/08/06 · 274 مشاهدة · 1541 كلمة
KiraSama9
نادي الروايات - 2024