2 - اسم قديم، حياة جديدة

أشعر وكأنني عشت داخل حلم طويل...


لازلت اتذكر الوقت الذي امضيته كطفل من عامة الشعب في منزل أقربائي.

ليكس، هذا هو اسم ولادتي الذي اطلقته علي أمي.

كانت والدتي خادمة في منزل الدوق، توفيت بمرض ما بعد سنة من ولادتي، لقد كانت امرأة جميلة حقا. قيل لي انها هربت من قصر الدوق عندما علمت انها حامل بي، لم استطع ان الومها ابدا.

لقد امضيت تقريبا سبع سنوات قاسية في قرية تحت رحمة احد النبلاء المهملين ثم دون سابق إنذار اتى الدوق واخذني من بين يدي اقربائي وعزم على كونه أبي.

وضعت لسبعة سنين في تلك الغرفة البالية، من دون اي إهتمام من المزعوم أبي.

بقيت اقرأ الكتب وادرس ليل نهار، حتى انه تم منعي من الخروج وصرت اتمرن على حمل السيف في داخل الغرفة.

تساءلت مرارا وتكرارا عن سبب منعي من الخروج، حاولت انكار الحقيقة دوما لكني كنت اعلم لماذا.

كان لانني إن خرجت فساجلب العار لإسم الدوق، وحتى إن امرت بالخروج لزيارة الدوق، شعرت بأنظار الأخرين فيّ ودهسهم على كرامتي وقلة إحترامهم.

كان الكتب هو الوحيد الذي ينسيني واقعي المرير برواياته الشيقة والخارجة عن المألوف.

لم يكن بالكتب صور لمشاهدتها ولم ارى الكثير في القرية حيث ولدت، لكن كانت العبارات في الكتب جميلة ومتناسقة لدرجة مكّنتني من تصور تلك المناظر الساحرة بوضوح، فرسمت كل ماتخيلت، وادركت حينها ما رغبت فيه دوما.

احببت الرسم كثيرا، اردت رؤية العالم، اردت رسم كل ماتراه عيني، اردت ان اعيش الحياة التي اريدها.

في ميلادي الرابع عشر، وقعت كل آمالي في الماء.

اخي -الذي يكبرني باربع سنوات- تحدث الي لاول مرة وجها لوجه، لم يسأل عن حالي و لم يسأل عن آرائي، إمتلأ وجهه كذبا على كذب.

قال انني استطيع ان اكتسب مكانتي ان استغللت هذه الفرصة وذهبت للقتال وقيادة وحدات الجيش في مكانه بينما يهتم هو بالأعمال هنا.

كم ان الامر مضحك، كان الكذب عنده بسهولة التنفس بينما يراني كتضحية تموت مكانه.

لم استطع رفضه وإنتهى الامر بي في ساحة القتال ملطخا بالدم، لكنني تمكنت من النجاة حتى اخر يوم بفضل خططي في قيادة الجيش رغم ان معظم تحركاتنا كشفت و انعكست ضدنا، وكل هذا بسبب إله الحرب، تلك الفتاة الغامضة.

لازلت انكر ما سمعته منها عن قتلها لملك الشياطين او ان تصبح هي ملكة الشياطين.

كنت خائفا من الموت، لكنها لم تقتلني، بل قدمت لي عرضا لمرافقتها رغم اننا اعداء.

لقد كانت فتاة غريبة حقا.

لكنها ليست بمشكلة، كل ذلك كان مجرد حلم، على الأرجح سأستيقض الان في فراشي كالعادة و لن التقي بها ابدا.


***


رأسي يؤلمني كثيرا، الفراش اصلب من المعتاد، اشعر وكأنني انام على الأرض.

تقلبت يمينا وشمالا لكن دون جدوى. يدي اليسرى وقدمي اليمنى في ألم مميت وكانني تلقيت ضربا مبرحا قبل النوم.

اريد النوم مدة اطول لكن يتوجب علي الإستيقاظ.

فتح عيني بصعوبة سرعان ما اغلقتهما لشدة الضوء ثم فتحتهما من جديد ونظرت حولي.


- "أين أنا؟"


لم اكن في غرفتي، لم اكن على فراشي. وجدت نفسي في كهف ما تخطيني الضمائد.


- "يبدو انك قد استيقظت، لا انصحك بالتحرك بعد، حضرت لك بعض الدواء لتتناوله الان مع الطعام."


تفاجأت من سماع هذا الصوت. التفت بسرعة فإذا به تلك الفتاة تتقدم نحوي وبيديها صينية به صحن ممتليء بالحساء وبعض الفاكهة.

وضعته بجانبي على الأرض، اقتربت مني اكثر ورفعتني بحذر وعدّلت جِلستي ثم وضعت الطبق على رجليّ وبقيت تراقبني بصمت وانا اتناول الحساء.

كان الحساء لذيذا جدا ودافئا على ان يكون مجرد تخيلات. كل ماحدث لم يكن حلما.

لم اتجرأ على النطق رغم كثرة تساؤلاتي، لكن كما يقولون، لن تستطيع إمساك صغير النمر إذا لم تدخل عرينه.

على الأقل سؤال واحد، الامر ليس وكانها ستأكلني او ماشابه.


- "ا..انتِ...لـ..لـ..لماذا ساعدتني؟!"


لقد سألتها اخيرا، لكن حتى انا استطيع ان ادرك كم ان صوتي بدى متذبذبا من شدة التوتر والخوف.

نظرت الي الفتاة في عيني، ومن الغير المتوقع تنهدت وقالت:


- "هل انا مخيفة لهذه الدرجة؟ حسنا..لقد حاولت قتلك لهذا الامر بديهي. السحر الأسود يتغذى على مشاعر الحقد والخوف واليأس وبفضل ذلك تمكنت من رؤية الخوف داخلك في تلك اللحظة. الخوف يختلف من شخص لآخر وخوفك كان نقيا، كنت يائسا من الحياة لكنك كنت خائفا من الموت. كنت مثل الطفل في ساحة حرب، انا اكره النبلاء لكنك مختلف. لم استطع قتلك بكل بساطة. ربما اردت مني ان اقتلك حقا؟"


لم اعرف بماعلي اجابتها، فالطريقة التي سألتها بها كانت مباشرة غير محترمة بالنسبة الى فتاة.

اردت ان اعتذر بسرعة لكنها بادرت بسؤالي فإستجمعت كل قواي للحديث معها:


- "كم تبلغ من العمر يا فتى؟"


- "ستة عشر سنة"


- "هل صحيح انك إبن خادمة والدوق؟"


- "أ..أجل..."


- "لابد ان الأمر كان صعبا عليك"


- "اجل. لكني بخير الآن...على ما أظن.."


- "هذا جيد"


عم الصمت من جديد في داخل الكهف سرعان ما كسره صوت صادر من الشجيرات في مدخل الكهف.

لم تبدي الفتاة اي من الإهتمام لمصدر الصوت لكنها التفتت نحوه حالما لاحظت قلقي وتأهبي وقالت محاولة تهدئتي:


- "إهدأ، السحر الأسود خاصتي يجذب الوحوش في المكان حولنا معتقدين انني واحدة منهم. لن يؤذوك طالما انك معي"


خفضت من دفاعي حالما رددت الفتاة هذه الكلمات وشعرت بالإطمئنان.

بقيت احدق بمصدر الصوت انتظر خروج الوحش من خلف الشجيرات. لم ارى اي نوع من الوحوش من قبل سوى في الكتب والان لا أستطيع صرف النظر و التغاضي عن هذه الفرصة.

لاحظت الفتاة هدوئي و تحمسي برؤية الوحش، وجهت نظرها من جديد على المصدر ونقرت على الأرض بإصبعها.

هدأ الصوت لحظات ثم خرج قافزا بسرعة نحونا وحاول القفز على الفتاة، فامسكته كمن يمسك حيوانا أليفا.

بقيت مذهولا بما رأيت، كان الوحش شبيها بالأرنب إلا انه يمتلك ذيل قط وقرنين على رأسه، حتى لونه الأسود والبرتقالي لم يكن عاديا.

لقد كان وحشا لكني وجدته بضرافة الحيوانات الأليفة، لم يكن مخيفا كما تصورت.


- "الوحوش، هذا ما اطلقه البشر عليهم. في الحقيقة لايوجد الكثير من الفرق بيننا وبين هذه المخلوقات بخلاف كونهم يمتلكون قوة سحرية كبيرة. نحن نشعر بالخوف منهم وهم يشعرون بالخوف منا أيضا."


بدأت تعابير الفتاة الباردة بالتلاشي شيئا فشيئا وهي تربت على ظهر هذا المخلوق العجيب.

أدركت ان ماستقوله الفتاة امر غاية في الأهمية فانصتت لكل كلمت تقوله، وواصلت حديثها قائلة:


- "يوجد نوعان من الوحوش، البرية مثل هذا الصغير هنا، والذكية منها كأشباه البشر والمستذئبين والشياطين. هذه المخلوقات تعيش في نفس عالمنا ومع هذا البشر رفضها بل حاول إيذاءها وجعلها جانب الشر. في المقابل ظهر هذا المدعو ملك الشياطين وهو احد الشياطين التي نقمت على البشر، لم يحاول الهجوم علينا وحسب بل جعل هؤلاء المساكين ينفذون اوامره، فقط لأنه إمتلك بعض القوة. طوال هذه السنين كانت الوحوش تهاجم البشر رغما عنها لهذا وضعت حدا لهذا وقتلت ملك الشياطين. الوحوش الذكية وحتى البرية اصبحوا احرارا لكن لازالوا في الظلمات. لهذا انا اصبحت ملكة الشياطين، لأجل حمايتهم وصنع عالم لهم مع البشر."


صنع عالم يمكن فيه للوحوش والبشر العيش معا، كان هذا اشبه بحلم، لكن ليس مستحيلا.

ان كان ما قالته الفتاة صحيح، فإن الوحوش لم ترغب بمهاجمتنا كما يزعم البعض.

مددت يدي نحو المخلوق بين يدي الفتاة محاولا لمسه، قربت يدي اكثر لرأسه فرفعه وشمّها وقرب رأسه يريدني ان اربت عليه.

من كان ليصدق ان هذه المخلوقات التي وصفت بشراستها وشرها كانت في الحقيقة خائفة منا؟

بقيت الفتاة تحملق فيّ ثم سألت بتعابير جادة:


- "إن خيرتك بين الذهاب معي في مغامرة خطرة لحماية هذه المخلوقات وتغيير العالم مع امكانية ان ينتهي بك الامر قاتلا او على حافة الموت، او العيش في قرية مسالمة والبدء بحياتك من جديد، مالذي ستختاره؟"


لم ادرك بما يتوجب علي إجابتها.

ان اخترت الذهاب معها فهذا يعني انني ساكون في خطر، من يعلم ماقد يحدث معي. لكن إن إخترت العيش في قرية فساستطيع عيش الحياة التي اريدها.


- "سامنحك بعض الوقت لتفكر، ساذهب للبحث عن بعض الماء"


وضعت الفتاة المخلوق بين يدي و وغادرت الكهف.

بقيت اربت على ظهر المخلوق مفكرا. يمكنني اخيرا العيش كما اشاء لكن جزءا مني يريد مساعدة الفتاة والوحوش.

لم يعد جسدي يؤلم بشدة بفضل الدواء الذي قدمته لي الفتاة. هي قامت بتضميدي ومساعدتي، حتى انها قدّمت لي خيارات معقولة ولم تحاول إجباري على شيء.

لا اعرف مالذي تراه فيّ حتى تطلب مني مساعدتها في تغيير العالم، فانا ضعيف.

الشيء الوحيد الذي اجيده هو القراءة والرسم والتلويح بالسيف، حتى قوتي السحرية ليست بتلك القوة مقارنة بها.

ربما ارادت شخصا من البشر يرافقها وحسب؟ ربما هذا هو السبب، فهي تبدو وحيدة. وربما الناس يشعرون بالخوف منها فتحتاج شخصا يتحدث في مكانها.

ومن الجهة الاخرى، هذه المخلوقات مسكينة، انا اعرف كم ان العالم غير عادل لهذا ارغب بمساعدتهم ايضا وحمايتهم.

حمايتهم؟ من ماذا؟

تلك الفتاة لم تذكر كل شيء، اعرف انها غامضة لكن علي المعرفة على الأقل.

من ماذا نحمي الوحوش؟

مالذي عنته بالخطر؟

لماذا هي تكره النبلاء؟

مالذي عنته بالجرائم في ساحة الحرب؟

لماذا هي تعرف الكثير عن جانب الوحوش رغم انها بشرية مثلي؟

مالذي جعلها منغلقة للأخرين هكذا؟

لدي الكثير من الأسئلة، والطريقة الوحيدة لمعرفة الاجوبة ورد الجميل لها هي للذهاب معها.

نهضت من مكاني بسرعة، وقد تبعني المخلوق، وإتجهت بسرعت خارج الكهف للحاق بها قبل الإبتعاد اكثر ثم صرخت:


- "انتِ! ساذهب معكِ لتغيير العالم!"


بقيت التقط انفاسي منحنيا على جدار مدخل الكهف، وقفت الفتاة في مكانها وإلتفتت نحوي محدقة بي دون قول شيء ثم ردت:


- "كان بإمكانك إنتظار عودي بالماء عوض القفز من مكانك و الصراخ وانت مصاب كما تعلم"


شعرت بالحرج مما فعلت وهممت بسرعة بالاستدارة للخلف حتى اعود لداخل الكهف.


- "أكيرا..."


إلتفت مجددا على صوت الفتاة متسائلا عن ماقالته فقالت مجددا:


- "أكيرا هو إسمي."


كانت هذه المرة الاولى التي اسمع بها إسمها، ان فكرت اكثر، انا لا اعرف اي شيء من هذه الفتاة، هي تبدو مقربة للعائلة الملكية وفي الوقت نفسه تبقي مسافتها من البشر.

بقيت اكيرا واقفة تحملق بي وكانها تنتضر شيئا مني، تعجبت من امرها من البداية لكن ادركت انها كانت تنتضر مني ان اخبرها إسمي.


- "ليكس! هذا هو إسمي منذ الولادة"


رفعت أكيرا رأسها ونظرت الى السماء ثم استدارت للخلف وتمتمت:


- "ليكس اذن...ليس اسما سيئا."


بعدها غادرت لجلب الماء كماعزمت قبل قليل.

شعرت بالتوتر عند سماعها تنطق إسمي، لقد مرت بالفعل تسعة سنوات منذ ان سمعت احدا يناديني بهذا الإسم، وعلى الارجح ساسمعه اكثر في المستقبل.

ربما هذا نوع جديد من الحظ؟


2020/08/10 · 257 مشاهدة · 1601 كلمة
KiraSama9
نادي الروايات - 2024