عودة إلى الوراء

في غرفة المعيشة، تجلس الطفلة الصغيرة على الأريكة الكبيرة، بينما انعكاس أشعة الشمس يشع في أرجاء الغرفة بكل قوته، ما جعل المكان كأنه رصع بالذهب، صفاء السماء وهدوء المكان يجعل الجو شاعرياً ومناسباً للقراءة بهدوء. حتى أتى الصوت من الباب، خافتاً ولكنه مسموع بشكل واضح.
- كم مرة علي إخبارك بذلك، الكونتيسة لن تنتظر طويلاً.
- لكنني بحاجة لبعض الوقت، فهي لا تزال صغيرة، ألم يكن الموعد خلال سنها الخامس عشر.
- كان كذلك، ولكن الظروف لا تسير دائماً كما هو مخطط لها.
- روزي!
- هه! عليكِ باتخاذ القرار بأسرع وقت! هل فهمتي؟!
ثم جرى صمت لبعض الوقت، وفتح الباب بهدوء، كانت لحظات قليلة رأت خلالها الطفلة وجه أمها المتعب، ثم عادت لترسم البهجة على ملامحها الرقيقة، وهتفت:
- آه، ما الذي تقرأه صغيرتي؟
نظرت الطفلة بعيناها اللوزيتين البلهاوتين نحوه والدتها، خط شفتيها الصغير يظهر الجدية في نظراتها، ما جعل السيدة تنظر نحوها بدهشة وتساؤل.
- ماما ..
خرج صوتها الطفولي بحزم:
- هل الخالة روزي غاضبة؟
أخفضت السيدة وجهها بحزن، وزمت شفتيها بقلق، ثم رفعت رأسها، عيناها تلمعان من الدموع التي تحبسها، ثم خرج صوتها جاداً:
- عزيزتي نورس
نظرت الطفلة نحو والدتها التي رأتها بتلك الملامح لأول مرة، ثم جلست بجانبها وربتت على رأسها بحنان، ثم قالت لها:
- لا تقلقي يا عزيزتي، فماما ستبقى بجانبك مهما كان الأمر.
...
على المنصة الدائرية الحجرية المحاطة بسور من الجماجم الملطخة بسائل جنيات الهيكب، وقفت سيدة جميلة في أواسط الأربعين، تقف خلفها مجموعة صغيرة مكونة من خمسة إلى ستة من جنيات الهيكب اللزجة، والتي يستمر جسدها بالسيلان بذلك السائل الأسود اللزج.
- أنتِ!
صرخ مارون:
- ألستِ الكونت روزي لافرتين.
- إذاً فأنت تعرفني!
ثم أشارت بيدها فبدأت الجنيات خلفها تبصق كرات ضخمة من السائل اللزج نحوهم، ليتحركوا بسرعة ويصدوها واحدة تلو الأخرى، ولكنها أصبحت تنهال عليهم بسرعة أكبر، فصرخ روهان:
- انسحاب!
نظر الجميع نحوه بدهشة، لكنه اتجه نحو المدخل ووجدوا أنفسهم يتبعونه، تنهال عليهم الكرات اللزجة الضخمة، يتجنبوها أحياناً، ويضربها مارون أحياناً أخرى، إلا أن سرعتهم في الهرب أعطتهم بعض الوقت ليبتعدوا عن تلك الجنيات التي فرض عليها أن تتحرك ببطئ بسبب جسدها اللزج، ما أعطاهم الفرصة ليجدوا جداراً من البيوت المحطمة ويختبئوا فيه.
أخذوا يلتقطون أنفاسهم، ولكن روهان بقي مستقيظاً لأي حركة مباغتة.
- رباه!
تذمر أحدهم:
- من كان يتصور أنها الكونت روزي.
- ما الذي يجري حقاً؟
سأل آخر يخاطب مارون:
- هل ستكون الكونت ضدنا بسبب الاكسير أيضاً؟
بدا مارون شارداً، وصمت لبعض الوقت، ثم قال بنبرة حزينة:
- لا أعلم حقاً يا تيم.
شهق ثلاثتهم بفزع، وهتف تيم:
- مارون لا يعلم!
فعلق الأول:
- أوليس هذا السبب من إرسالنا في هذه المهمة.
- بلى ... ولكن ...
ثم وجهوا نظرهم نحو روهان الذي كان مركزاً في المراقبة، وحين شعر بنظراتهم نحوه، نظر نحوهم لوهلة، ثم خاطبهم:
- مارون، تيم، آندي، لان ...
جرى صمت مثير للقلق، وهمس:
- أعتمد عليكم!
وقبل أن ينطق أحدهم بجملة أخرى، اخترقت قبضة لزجة الجدار وفرقتهم عن بعضهم، لتظهر السيدة روزي تحيطها هالة سوداء تتصاعد كالدخان، عيناها حادتان تعلوها تلك النظرة الممزوجة بالاشمئزاز والاستهزاء، مدت يدها، فانهالت الجنيات بالتمدد والتضخم، وإخراج أذرع ضخمة من أجسادها ومهاجمتهم، صد تلك الهجمات ليس بتلك الصعوبة، فحركات الجنيات بطيئة ويمكن قراءتها بسهولة، ولكن إلى متى يمكنهم الصمود هكذا، إلا جانب أن تلك الهالة التي تحيط السيدة روزي لا تبشر بخير على الإطلاق، فالهجمات تصبح أشد قوة وتترك أثار على الأرض.
- أنت!
صرخ روهان، ثم صد القبضة الموجهة نحوه وشق طريقه بسرعة عبر الأذرع المنهالة عليه، وفي لحظات أصبح السيف أمام وجه السيدة، ولكن قبل أن يضرب ضربته هاجمته ذراع مخاطية وقذفته بعيداً ليصطدم بأحد جدران الأطلال المحطمة، فصرخوا:
- سيدي!
ابتعد مارون عن الذراع التي تهاجمه، وهم مسرعاً نحو سيده الذي سال الدم من فمه، وبدا أنه فقد الوعي، إلا أن القبضات انهالت عليه تمنعه من الاقتراب، فصرخ:
- سيــدي!
كاد يفقد أعصابه مجدداً، وقبض على يده بغضب، الهواء حوله أصبح يتمحور حوله والتراب عند أقدامه بدأ يتحرك على شكل دوامات صغيرة، إلا أن الرجل الأصغر من بينهم صرخ:
- مارون!
أتت القبضة باتجاه، إلا أنه صدها بيده ونظر ثلاثتهم نحوه بدهشة، حتى أن السيدة روزي نظرت نحوه بدهشة، وما أثار فزعهم ظهور التشققات على قبضة الجنية المخاطية المجمدة، ولكن صوت روهان الضعيف أيقظه:
- تباً لك!
وحاول النهوض مجدداً:
- هل .. تظن .. أني سأهزم بسهولة!
أبرقت عينا الجنود الثلاثة، وعادت ملامح مارون إلا طبيعتها ثم نظر حوله فوجد قبضة الجنية أمامه، فسرعان ما هم عليها بسيفه، وتوجه نحو سيده.
- سيدي، هل أنت بخير؟
- تبا لك!
ولكن صرخة مدوية جمدتهم فجأة، وجعلتهم ينظرون نحو مصدر الصوت بسرعة، حيث اخترق الصوت آذانهم فلم يستطيعوا تحمله وغطوا آذانهم بأيديهم، ليجدوا السيدة روزي وعيناها ستنفجران من شدة انفاخها وهي تصرخ وتمسك رأسها بحدة، ثم توقفت وعادت تصرخ مجدداً، بدا الجميع متفاجأً من المشهد الغير مألوف، ووقفوا صامتين يشاهدون بدهشة، حتى توقفت وصرخت وهي تشير بيدها نحو روهان ومارون، فاتجهت ثلاث جنيات نحوهم، وانهالت عليهم الأذرع المخاطية واحدة تلو الأخرى، لم يستطع مارون صد هذا الكم الهائل من الهجمات، كما أن روهان ما زال يحاول النهوض مجدداً، فغطتهم تلك القبضات بالكامل بينما انشغل الجنود الآخرين بالهجمات الموجهة لهم إلا أنهم صرخوا بذعر:
- سيدي!
حاول تيم التسلل من بين هجمات الجنيات المتواصلة، ولكنهم يصبحون أشد شراسة حين حاول الاقتراب، لوهلة وقف ثلاثتهم مذعورين، هل ابتلعتهم تلك الجنيات حقاً؟ إلا أن المادة الهلامية بدأت بالذوبان، وسرعان ما خرج نورٌ ساطع من بين الثقوب ثم أصبح النور أشد سطوعاً حتى أنهم بالكاد استطاعوا النظر نحوه، ثم خرج النور كبلورة متفجرة مزقت الجنيات الثلاثة وتلاشت في الهواء، وما إن اختفى النور اختفت معها القبضات المخاطية الأخرى، وأصبحت الجنيات المتبقية مشوهة إثر تمزق هجومها، وقف الجميع منبهراً، بينما يقف روهان رغم إصابته ساتلاً سيفه الذي يخرج من البخار، كشرت السيدة عن أسنانها، ثم صرخت:
- اقتلوه!
وقبل أن تتحرك الجنيات، هم عليهم مسرعاً وبسيفه المضيء شقهم نصفين وتلاشت أجسادهم، ثم وجه سيفه نحوها، ينظر نحوها نظرة سوداء مرعبة، تعكس الغضب الذي في داخله، عضت على أسنانها وأخذت تقبض يدها بقوة، ثم ازدادت سرعة الدخان في هالتها السوداء وأصبحت أشد، إلا أن سطوع السيف في وجهها الذي لمس حنجرتها أوقفها، وجعلها تعود إلى إنسانيتها، سقطت أرضاً، واستمر روهان بتوجيه السيف ينظر نحوها بنظرات غاضبة، ثم قال:
- هل لديكِ كلمات أخيرة؟
- أرجوك!
توسلت باستماتة:
- لا تقتلني!
اشمأزت عيناه من كلماتها، واكفهر وجهه، ثم سأل باستهزاء:
- وهل صفحت عن هؤلاء الأبرياء الذين قتلتهم؟
توسعت عيناها بذعر، ثم جثى على ركبته واقترب منها بسيفه، بينما حاولت الزحف بعيداً عنه، ثم سأل:
- ما الذي فعلته لتخالفي الاتفاق؟
تلألأت عيناها واتسعت عيناها أكثر، وزمت شفيتها المرتجفتين في محاولة لمنع نفسها من الكلام، حدجها ثم نهض وقال:
- لا بأس، فما إن أتخلص منكِ حتى تعود الأمور إلى صوابها.
- لا!!!
وقبل أن تنطق بكلمة ضرب سيفه بسرعة وطار رأسها بعيداً وتدفق الدم من عنقها كمياه الينابيع الساخنة. جرى صمت مخيف، وبدأ الوقت بالمماطلة، ابتلع أربعتهم ريقهم بصعوبة، ونظر ثلاثتهم نحو بعضهم بتوتر ثم نظروا نحو مارون الذي بدا مصدوماً هو الآخر، حين حاول أحدهم أن يمتلك الشجاعة ليتكلم:
- سيـ ...
لكنه قاطعه باستدارته، أستل سيفه لينظفه من الدماء، ثم أعاده إلى غمده، لم ينظر نحوهم وهم يسير نحو الأمام، خرج صوته غائراً منخفضاً:
- انتهت مهمتنا، لنعود الآن!
وتابع سيره بينما تابعه الجميع بعيونه، ثم نظروا نحو الجثة التي بدأت بالتحلل والتلاشي، أعادوا سيوفهم إلى غمدها وساروا مسرعين ليواكبوا خطوات سيدهم.
...

2020/05/23 · 173 مشاهدة · 1182 كلمة
بيان
نادي الروايات - 2024