قبل بضع سنوات، كانت هناك العديد من الممالك الصغيرة ... الكثير منها! ما جعل الاستقرار والتوافق بينهم من الأمر شبه مستحيل، توغلت خلال تلك السنين العديد من الحروب ولم ترى الممالك يوماً واحداً من السلام، لكن معاناتها توقفت عندما بدأت تتضمحل شيئاً فشيئاً وتشكل الممالك الثلاثة الأقوى في العالم، رامون، إيلاف، ستاديا. بينما كانت كل منها تبتلع الممالك الصغيرة من طرف، تشتعل الحروب بين الممالك الأخرى من طرف آخر.
أخذت رامون الطرف الشرقي، وأخذت إيلاف الطرف الغربي، بينما أخذت ستاديا الطرف الشمالي، وبقيت مملكة واحدة في المنتصف، صامدةً بينهم، مملكة الحاكم!
استخدمت الممالك الثلاث أبشع الطرق لتستولي على الممالك بأسرها، ونشرت سم الزرنيخ فيها، مما أدى إلى نشر الأوبئة وإضعاف الجيوش، وجعل المقاومة مستحيلة. إلا أن مملكة واحدة صمدت في هذا الجحيم ... مملكة الحاكم!
استغلت المملكة الوقت الذي انشغلت فيه الممالك الثلاثة بقتال الممالك الصغيرة لدراسة السم، وأعطى الحاكم جائزة باهظة لمن يخرج بالترياق، عملت خلال ذلك الوقت جميع العائلات النبيلة في المملكة بكل ما لديها من جهد، حتى خرجت عائلة لافرتين بالإكسير السحري، الإكسير الذي يمنح قوة عظيمة تجعل المرء بألف رجل، وما إن أتت اللحظة الحاسمة للهجوم تدمرت جيوش الممالك الثلاثة ولم يستطيعوا المجابهة، وهكذا تراجعوا يجرون معهم ذيل الهزيمة.
إلا أن الأمور لا تسير دوماً كما هو مخطط له، فذلك الترياق أدى بنتائج عكسية وأضعف من قوة الجنود الجسدية، وبالتالي أصبح استخدامه أمراً محتوماً، وهكذا وقعت مملكة الحاكم ضحيةً للإكسير السحري.
صمود المملكة أصبح على كل لسان وتحت الأنظار، جعلها محور الاستهداف، وأشعلت في الممالك الثلاثة نيران الحنق والسخط، فأصبحوا يتنافسون فيما بينهم بكشف ما تخفيه تلك المملكة المتعجرفة.
ولأن مملكة الحاكم أصبحت مسرحاً للغزو في أي وقت، كان على عائلة لافرتين أن تجد حلاً لتحسين الإكسير وإيقاف استنزافه لقوة الجنود، وبذلك تعاقدت السيدة الكبرى لعائلة لافرتين مع جنيات الهيكب، دفعت ثمن ذلك التعاقد حنجرتها، ما أفقدها صوتها، ونص التعاقد على أن يطبق هذا الشرط على كل وريثة ستحمل معها عبء هذا السر.
لا أحد يعرف مكونات هذا الإكسير عدا تلك الفتاة التي اختيرت من قبل السيدة الكبرى، تتعلم على يدها صنع الترياق وتحمله معها إلى قبرها.
...
الغبار أصبح كتلاً ثقيلة، جعلت من الرؤية شبه مستحيلة، لكن صهيل الأحصنة وخطواتها لا زال مستمراً، يشقون طريقهم بمهارة عالية، حتى وصلت أقدامهم طريقاً معبداً بالحجارة، فتوقفوا وترجلوا واحداً تلو الآخر، وتركوا الخيول تستريح، وجلسوا بخمستهم يرشفون الماء من قواريرهم المعدة.
جلس روهان على إحدى الصخور، وأخذ يتأمل الطريق المعبد، الأشجار ترسم على جهتيه الظلال، وضوء الشمس الحارق يصبح ناعماً عندما يتخللها. مكان مثاليُ لجنيات الهيكب! حدق مفكراً، ثم فرد خريطته التي علمت عليها أماكن تواجد الجنيات، وأخذ يفكر، هذا المكان التاسع الذي يملك تلك المواصفات، ربما جنيات الهيكب ليست من النوع المحب للبهجة!
تقدم مارون من سيده الجالس منزوياً، وقدم له قارورة الماء، تنبه روهان له بسرعة كما لو انه يترقب أحدهم، فحك مارون رأسه وقال:
- سيدي، ألست ترهق نفسك كثيراً!
خطف قارورة الماء، بدا غاضباً، لكنه قال بهدوء:
- علينا أن نكون مستعدين لأي ظرف، ألم تروا صعوبة التعامل مع تلك المخلوقات بعد!
تجمد الثلاثة الآخرين في أماكنهم، وكأنه ذكرهم بأمر لا يريدون تذكره، فقال مارون في محاولة لتلطيف الجو:
- سيدي، أنظر ... ها قد ذكرتهم، كان من الجيد أنهم نسوا التجربة الأخيرة لهم.
رمى روهان القارورة باتجاه مارون الذي سرعان ما التقطها ونظر نحو سيده الذي نهض في دهشة، قال روهان بلامبالاة:
- لا يهم، لنتابع الآن.
وهم يمتطي حصانه، بينما نظر الرجال فيما بينهم باستغراب، حتى أتى صوت روهان غاضباً:
- أتريدون مني الإنتظار؟
كان ذلك أشبه بتحذير، فلملم الجميع أغراضه على عجل وامتطوا أحصنتهم بسرعة البرق، ما إن لحقوا بخطوات سيدهم حتى نظروا فيم بينهم متسائلين، لم يعرفوا قائدهم الغاضب فارغ الصبر ذا، دائماً ما كان قائدهم هادئاً وروياً، ما بال هذه العجلة؟ هل بأخذهم استراحة صغيرة ستفسد مهمتهم؟
مارون يفهم تماماً تساؤلات الجنود، ولكنه أيضاً يفهم سيده، فقال محاولاً التخفيف عنهم:
- ربما يريد سموه التعجيل في ذلك حتى لا يطغى على تدريبكم من أجل الحرب المحتملة!
طرق أحدهم يده، وهتف:
- سموه يبقى سموه، أليس كذلك؟
حكوا رؤسهم بارتباك، بالتأكيد! من يظن أن هناك أمراً آخر يشغله، فهم على وشك الاشتباك مع جيش جاكوب، لذا لا بد من حل الأمور الداخليه في أسرع وقت ممكن!
...
كانت خطوات الخيول منتظمة على الطريق المعبد حتى اختفت، توقفت الخيول وصدحت أصوات الغربان، توافدوا في جماعات على أطلال من المفترض أنها لبئر حجري قديم.
- ما ... الذي يجري؟!
علق أحدهم في صدمة، بينما تحلق مجموعة غربان في حلقات فوق أطلال بيوت مدمرة، لولا تلك الستائر السوداء الممزقة المتناثرة لما عرفوا إن كانت مأهولةً حتماً. تقدم حصان روهان، وأخذ يسر نحو الأطلال، ثم تجمد مكانه، شعر أتباعه بالذعر لردة فعله فهموا نحوه مسرعين، ليتجمدوا على إثره.
المكان محطم بالكامل، بعض الأثاث لا يزال صالحاً، وبعض المعدات لا تزال موجودة، هل دمرت البيوت والناس في الداخل؟ لكن أين البشر؟ لم يكن هناك أثر لبشري واحد ولا حتى رائحة دماء أو جثث، ما الذي يجري حقاً؟
تابعوا مسيرهم ببطئ، يمسحون البيوت بأعينهم، لعلهم يجدون ناجٍ وحيد، إلا أن الصدمة تضاعفت حين وصلوا عن حائطاً مسدود، صهلت أحصنتهم بفزع، حاول كل منهم السيطرة على حصانه، وما إن هدؤوا حتى لسعتهم القشعريرة، وتجمدت أجسادهم، عينا كل واحد منهم ترتجف تكاد تنفجر من هول الصدمة ...
جماجم ... كل ما يرونه أمامهم جماجم مصنفة بانتظام تشكل سوراً كما لو أنه سورً لحديقة خارجية لمنزل صغير، لكنه لم يبنى من الصخور، تحيط صخرة دائرية مسطحة يمكن التنبأ من تحطمها أنها كانت محور هذه الجريمة البشعة.
- لا يمكن !!
هتف أحدهم بصدمة:
- ... هل ... تأخر ... نا؟
- لكن من المفترض أن ننهي مهمتنا فور وصولنا لهذه القرية، أليس كذلك؟
قبض روهان على لجامه فور سماعه كلمات أتباعه، وعض على أسنانه، هل حقاً يعني ذلك الفشل؟
- أن يصل الهيكب إلى هذه المرحلة من التخريب، هل فقدوا عقولهم؟
خرج صوت مارون غامضاً، بدا أن غضبه يستولي عليه، وبدأت عيناه تومض بلونها الأحمر، حتى أيقظه روهان وصرخ:
- مارون!
أغمض مارون عينيه وعض على أسنانه وبصق بحنق:
- اللعنة!
ترجل روهان من على ظهر الحصان، ثم ربطه بالقرب من أطلال البيوت المدمرة حتى يبعد ناظريه عن المجزرة المروعة ويبقى هادئاً، ثم توجه نحو الحجر الدائري وجثى بجانبه، حينها ترجل أتباعه وفعلوا المثل، ثم اقتربوا منه، حين نهض وقال وهو ينظر إلى يده التي لمست الحجر الدائري:
- لا يبدو أن للهيكب يد في ذلك!
نظروا نحوه بدهشة، وهتفوا:
- ماذا؟
فأشار بيده نحو الحجر الدائري، وقال:
- تلك القوة ليست من صنيعهم.
نظروا نحوا السطح الحجري بحيرة، السطح غائر ويشكل حلقات متغايرة بالحجم كما الحلقات التي تصنعها الحجارة المقذوفة على سطح الماء، لكن الهيكب يستخدم سائلاً لزجاً يشبه المخاط، ألا يجب أن يترك ولو دليلاً على ذلك؟
سار مارون نحو السور المصنوع من الجماجم، ثم صرخ بفزع، عندما نظر الجميع نحوه بفزع بما فيهم روهان، عندما رآه الأخير متجمداً لا يقوى على الحراك اتجه نحوه بسرعة، ليرى سائلاً أسود لزجاً يخرج من بين الفراغات التي تفصل الجماجم فيما بينها.
" هذا مستحيل!"
صرخ في نفسه بذعر:
"تبدو كأنها مؤامرة!"
أيقظ شروده صوت أتباعه الثلاثة يتقدمون نحوهما، فصرخ أحدهم:
- بحق الله! ما الذي يجري!
لم يطل انتظارهم كثيراً حتى شعروا بحركة خلفهم، أستلوا أسلحتهم بسرعة فور التفاتهم، لكنهم تجمدوا مكانهم فور رؤيتها ...
...

2020/05/23 · 213 مشاهدة · 1147 كلمة
بيان
نادي الروايات - 2024