في الجهة الأخرى من الشمالي للمملكة، قصر أبيض شاسع أعلى جبل شاهق شديد الانحدار، يحيطه فضاء واسع تزخرفه الغيوم، بينما يقف الأمير أنيس بجانب إحدى النوافذ الطويلة التي تغطي الغرفة فتشعل الغرفة بنور أشعة الشمس، يعطي جو الغرفة شعوراً دافئاً وكأنك لست في غرفة من جدران وإنما تجلس وسط الطبيعة.
شرد أنيس في السماء، الغيوم تبدو شيئاً يستحق المشاهدة من مكانه، والطيور تحلق بشكل اعتيادي، تنهد بعمق حين سمع ضجة كلاب الدوبرمان السوداء، نظر باتجاه الباب، ليجد كلباه يدلفان ثم ظهرت كريستينا التي كانت تمسك لجامهما، مدت يدها مرحبة بخجل تعلو وجهها ابتسامة بلهاء، ثم جثت لجانب الكلبين وفكت لجامهم، حين هم الكلبين يلعقانها ويداعبانها.
كلب الدوبرمان كلب شرس، وكلبا أنيس ليسا من النوع الودود نحو الغرباء، بالكاد استطاع أحد من الخدم أو الحرس التعامل معهما، كريستينا هي الشخص الثاني الوحيد بعد أنيس والذي يصبحان معهما بهذا الود، وكأنهما طفلين يطلبان الرعاية. ابتسم أنيس بتلقائية ابتسامة خافتة، ثم عاد شارداً في النافذة، لاحظت كريستينا تصرفه الغريب هذا، فهو يقترب من الكلبين ويداعبهما بعد جولتهما معها. نهضت ونظرت نحوه بدهشة ثم تساءلت:
- أمن خطب ما؟
تنهد، تناولت كريستينا كيساً قماسياً من جيب ثوبها، وفتحته للكلبين حتى ينشغلان عنها، داعبتهما بلطف:
- هيا، خذا هذه.
نظر أنيس نحوها وهي تطعم الكلبين، رائحة زكية جعلته متنبهاً، اختلس النظر في محاولة لمعرفة ما يأكلانه، وجابه الفضول ليقترب، أمسك ذراعها فوجد قطعاً من البسكويت المتفحم، تجمدت كريستينا مكانها إثر المفاجأة، نظرات أنيس نحو البسكويت تظهر خيبة الأمل بشكل واضح، أفلت يدها بعنف، وهم يعود نحو النافذة، بينما بقيت كريستينا جاثيةً كالتمثال حتى أنها لم تشعر بالكلبان وهو يقتربان من الكيس في يدها.
- يبدو أن لمايك وبيتر مكانة أعلى مني في قلبك.
شهقت ببطئ، وفتحت ثغرها بالتدريج ثم ابتسمت بلطف في محاولة لإخفاء إحراجها، وهمست:
- لكنني ظننت أنه سيكون من اللانساني أن تتناوله.
- فتطعميه لهما.
ثم نظر نحوها باستفهام، لتزم شفتيها بحرج، فسقطت القطعة الأخيرة من يدها على الأرض، فتسابقا كلاهما على تناولها، ابتسمت بمرح، وقالت:
- أنظر، ألا يبدوان سعيدان بها.
لكن نظرات أنيس نحوها لم تتغير فعادت تتحاشى نظراته بحرج، ثم نفضت ثيابها ونهضت، توجهت نحو مكتبه في محاولة لتحاشي نظراته الغاضبة، وأخرجت منديلها العطر لتمسح يديها، سمعت صوت تنهيدته، بدا أنه منزعج جداً، فعدلت خصلات شعرها وسألت:
- بالمناسبة، هل استطاع رجالك الإمساك بالخاطف.
- تعنين سيراف ... إنه في زنزانتي.
نظرت نحوه بدهشة، لتجده عاد يحدق في النافذة مجدداً، فتساءلت:
- أستقتله؟
- أيجب أن يعيش؟
صمت لبرهة، تحاول استيعاب الأمر، ألم يكن ذلك سريعاً؟ هي تعرف أن أنيس غاضب لأنه لم يكن الشخص الذي أنقذ نورس، ولكنه إن فعل سيضع نفسه في مأزق كبير أمام الحاكم، ربما ينفيه إلى مكان أبعد من هنا ويجرده تماماً، هي لا تحتمل فكرة أن يصبح في موقفٍ صعب، لذا اقترحت عليه أن يمسك سيراف على الأقل ليلقنه درساً.
- ألا تظن ...
أخذت تلعب بأناملها على المكتب، وهي تقول كلماتها بحذر:
- ... أنه ربما يمكنك جعله في صفنا؟
ثم نظرت نحوه بترقب، تعلم تماماً أن كلماتها الآن كالقنبلة الموقوتة، لكن صوته خرج هادئاً بارداً لا أثر له من أي انزعاج:
- لا يمكن الاعتماد على شخص خان مرتين.
أنزلت بصرها نحو المكتب بحزن، ثم تنهدت، لا يمكنها أن تعترض بعد ذلك، سيراف رجل خائن هارب من قانون العدالة، ولكن ... ليس أنيس من عليه التكفل بأمره، ما إن تذكرت ذلك حتى سألت بلهفة:
- ألن تسلمه للقائد ليون؟
ظهرت على وجهه ابتسامة تهكمية، وقال ساخراً:
- أتقصدين ذلك الأحمق الذي لم يستطع البدء بالمهمة؟
- ولكن ...
نظر نحوها، عيناه تومضان ببريق أخاذ، تعلم تماماً تلك النظرات الحازمة، لابد أن لديه خطة، لكنه سأل:
- أأخبرتني أن القائد الأعلى تدخل في ذلك؟
فهزت رأسها بطواعية:
- أجل.
فعاد ينظر نحو النافذة، ثم اعتدل في وقفته، ورسمت على وجهه ابتسامة صفراء خافتة، شعرت كريستينا بهالة شريرة تحيطه، حين قالت:
- أعتقد أنه ربما يملك مكانة خاصة لدى نورس.
نظر نحوها بدهشة، واختفت تلك الهالة المرعبة حوله، ثم سأل على عجل:
- ما الذي تعنينه؟
زمت شفتيها بتردد، ثم قالت وهي تنظر نحو أناملها التي تتراقص فيما بينها:
- أعني ... بدت مهتمة جداً بالقلادة التي أهداها إياها.
وأخيراً بعد أن قالتها رفعت رأسها، لتجده يحدق فيها بتلك النظرة الحازمة، رأت قبضته التي أبرزت شرايينه من قوة الضغط، ثم التفت بعيداً وتقدم بضع خطواتٍ نحو الأمام، ثم أطرق مفكراً، أخذ يداعب ذقنه بأنملته، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة خافتة، وهمس:
- ربما بإمكاننا استغلال ذلك!
تصلبت كريستينا مكانها، تلك الهالة المرعبة عادت تستحوذ على المكان، تملكها الشعور بالبرد والخوف، هي مدركةُ تماماً لنوبات غضبه المرعبة، ولكنها لم تشعر بهذا الرعب من قبل، هوي يتحول إلى وحش فيما يتعلق بشقيقته، أو ربما تجاوز الوحوش.
اقتربت منه ببطئ، تعرف أن الاقتراب منه الآن يعد انتحاراً، ولكنها لا تحتمل أن تراه يغرق في الظلام هكذا، كان الكلبان هادئان، ونظرا نحوها بعينين راجيتين، يحثانها على عدم الاقتراب، هما محقين، فمع كل خطو نحو الأمام تشعر بالهالة تشتد، وتضغط على جسدها أكثر فتشرع بارتعاش أكبر، ما إن وصلت إليه كان وجهها شاحباً ويديها محمرتين وشفتاه مزرقة، حوطت ذراعيها حول صدره وأمسكت بيديه، فتلاشت الهالة كالسحر، ومض أنيس بعينيه عدة ومضات ثم نظر حوله بدهشة، شعر ببرودة يديها، فتملكه الشعور بالندم، شعر برأسها الصغير على ظهره بارداً كقطعة جليد، فالتفت نحوها بذعر، أمسك ذراعيها، نظرت نحوه بوجهها الشاحب، عيناها محمرتين تتلألأ بدموع محاصرة، ما إن رأى حالها حتى سحبها نحوه وضمها ، وهمس برفق:
- أنا آسف يا عزيزتي ... أنا آسف!
ما إن عاد الدفئ إلى جسدها مدت يدها وشدت على قميصه، خرج صوتها حزيناً:
- أنت تعلم كم يؤلمني أن أراك على هذا الحال.
ثم رفعت نفسها عنه، ونظرت في عينيه، تلمع عيناها بوميض بهي كلما ينظر إليه يشعر بالأمل، همست وهي تبتسم بلطف:
- دعنا نعد إلى الديار بصحة جيدة.
ابتسم ابتسامة خافتة، ثم أخفض نظراته لبضع لحظات، وعاد ينظر في عينيها، وهتف:
- أجل، لنعد بصحة جيدة.
...

2020/05/23 · 190 مشاهدة · 934 كلمة
بيان
نادي الروايات - 2024