أصوات زقزقة العصافير ترصع الهواء بنغمات موسيقية تدخل في قلبك السكون، بينما تلمع السماء الصافية بوهج من أشعة الشمس الصافية ترسل ستائراً مضيئة من الأشعة الذهبية لتغطي الأزهار الملونة على طول الطريق، بينما يتقدم بخطواته تتكاثف الشجيرات، حتى يصل إلى المساحة المستطيلة التي ترسمها أحواض الجدران المشجرة، تجلس على الأريكة البيضاء السيدة لافرتين بوجهها الوقور الهادئ تحتسي الشاي الذي وضع الإبريق على الطاولة الصغيرة الشفافة.
- سموك.
نهضت مذ شعرت بحضوره، وتركت كوب الشاب على الطاولة، تقدمت نحوه لتقدم تحيتها وتطلب منه الجلوس، جمع روهان شجاعته وهم يجلس على الكرسي الزجاجي قبالتها، بعد أن جلست السيدة لافراتين، قبض على يديه عدة مرات قبل أن يخرج صوته الهادئ:
- أيتها الدوقة، أحتاج لتعاونك.
لم تبدي السيدة لافرتين أي انفعال، استمرت برشف الشاي، وبعد ثلاث رشفات وضعت الكوب على الطاولة، ثم قالت:
- هل هو ذلك الأمر مجدداً؟
- لا!
قالها بحزم، فنظرت نحوه بدهشة، ثم تساءلت:
- ماذا إذاً؟
شعر ببعض الشجاعة تتدفق إليه، فارتخى كتفيه، وأصبحت نبرته أكثر استقراراً:
- هلا أخبرتني عن الدوقة روزي من فضلك؟
توسعت عيناها وهمست:
- السيدة روزي؟
- أجل، صادف أن وجدتها في إحدى تجمعات الهيكب.
توسعت عيناها أكثر، ثم ضربت الطاولة بعنف ووقفت:
- هذا لا يمكن!
رفع رأسه ونظر نحوها بهدوء:
- وأنا أيضاً لا أفهم ذلك!
نظرت نحوه، وجهها متجمد يرسم ملامح الصدمة، وعيناها تدوران في كل مكان تائهتان كأنهما يبحثان في شيء مجهول، وما هي لحظات حتى بدأت تفقد شعورها بقدميها وسقطت مغشياً عليها، هم نحوها روهان مسرعاً ليلتقطها، وصرخ للمساعدة، فهمت وصيفتانها نحوها، ما إن استلمت الوصيفتان السيدة حتى ابتعد روهان متراجعاً، لم يمضِ بضع دقائق حتى استعادت السيدة لافرتين وعيها، ورفعت يدها نحو الوصيفتان، لا تزال شبه واعية، تهلوس بعض الكلمات الغير مفهومة، شعر روهان بالذعر، ربما كان من الخطأ سؤال السيدة لافرتين مباشرة، ولكنها سرعان ما نادت باسمه:
- روهان
فهم نحوها مسرعاً وأمسك بيدها:
- سيدتي أنا هنا!
- روهان ... هل كانت روزي حقاً؟
تردد، نظر نحو الوصيفتين مستنجداً فهزتا رأستهما، فنظر نحوها وهمس:
- أجل سيدتي، فتاة في أواسط العمر تشبهك تقريباً.
- آه!
تهاوت على الوسادة، وغطت عيناها بذراعها، فهتف روهان بفزع:
- سيدتي!
إلا أنها رفعت ذراعها عن وجهها، ثم نظرت نحوه، ربتت بيدها على كتفه، عيناها تتلألآن بدموع حزينة، ووجها شاحب كالأشباح، شفتيها غائرتين ما جعل تحريكهما شبه مستحيل، فخرجت كلماتها بصعوبة:
- روهان، روزي ضحية، ضحية عملٍ شنيع، هي لم تكسر المعاهدة بإرادتها على الإطلاق.
قاطع كلماتها سعالها، فهمت نحوها وصيفتانها ليساعدنها على شرب الماء من الكوب الذي حضرته إحداهن لها، وتراجع روهان مجدداً، حين خرجت كلمات السيدة لافرتين مجدداً:
- يوجد الكثير من الأعداء لعائلة لافرتين، أنا متأكدة أنكَ ستجدهم.
ثم أغشي عليها مجدداً، صرخت الوصيفات بفزع:
- سيدتي، سيدتي.
- لا تصرخن هكذا ... أريد بعض الراحة.
نظرتا نحو بعضهما بدهشة، ثم نظرتا نحو روهان، الذي انحنى معتذراً بدوره، وقال بلطف:
- إذاً أعتذر المغادرة، سأبذل جهدي في حل هذا الأمر سيدتي الدوقة.
خرجت ابتسامة شبحية حزينة على وجه السيدة لافرتين، لكنها لم تكن لتقوى على الحراك أو قول شيء، لكنها متأكدة أن ذلك الرجل الذي يختفي ظهره أمامها شيئاً فشيئاً قادرٌ على تخليص هذه المملكة من هذه المعاناة.
...
كان يرفع روهان رأسه عالياً على ظهر الكرسي ويغمض عينيه، يحاول أن يربط ويفكر في الأحداث التي حصلت حتى الآن، ثم أخفض رأسه المثقل وتنهد، ثم هز رأسه وهمس:
- يا لها من فوضى!
طرق الباب، ودخل مارون بيده ظرف أبيض، انحنى ثم اقترب ووضع الظرف على المكتب، وقال:
- سيدي، هذه رسالة من أمير المنطقة الشمالية.
نظر روهان نحو مارون تلك النظرة كما لو أنه يراه للمرة الأولى، ثم هتف:
- مـ، مـ، من ... ماذا؟
- من الشمــال!
مد في كلامه مداعباً، فأمسك روهان الظرف باقتضاب، وتساءل:
- ما الذي سيجعل ولي العهد يرسل إلي على أية حال!
ما إن فتح الرسالة، وقرأتها، حتى توسعت عيناه على مصرعيها فتساءل مارون:
- ما الخطب سيدي؟
نظر روهان نحو مارون وومض عدة ومضات والذي بادله مارون الومضات ذاتها ينتظر منه الإجابة، حين همس روهان بذعر:
- يقول إنه قبض على سيراف ..
تجمد مارون مكانه، وومضت عيناه في محاولة لتحليل ما سمعه قبل قليل، عندما أردف روهان:
- يقول أنه سيسلمه لي مقابل أن آتي لشرب الشاي معه.
امتعض مارون وجهه باستغراب، وتساءل:
- يا لها من مقايضةٍ غريبة!
- أخبرني مارون ...
تساءل روهان وهو ينظر نحو الرسالة:
- أكان ولي العهد بتلك القوة؟
- أهذا ما يلفت انتباهك؟
هتف مارون مذعوراً:
- الأهم من ذلك، كيف ستذهب إلى هناك؟
وضع روهان يده أسفل ذقنه مفكراً، ونظر نحو الرسالة ذو الثلاثة سطور بإمعان، ثم خرج صوته عميقاً:
- بالنظر إلى وضعه، لابد أنه فكر ملياً قبل إرسالها إلي.
- و؟
تساءل مارون متلهفاً لاستنتاج سيده، فنظر روهان نحوه بعينين جديتين، وقال:
- لابد أن هناك ما يريد إخباري به، ربما يمكنني فهم بعض الأمور حول تلك الفوضى.
تراجع مارون بظهره قليلاً، وشبك ذراعيه، ثم تساءل:
- مقابل ماذا؟ تسليم سيراف؟
وجم روهان لوهلة، ثم همس في خيبة أمل:
- أنت محق!
- هل تعتقد أنك ستكون على وفاق مع ولي العهد؟
- أعلم ذلك.
- إذاً لابد أنه يرغب في تسليم سيراف لحماية نفسه مقابل بعض الفوائد.
ومض روهان عدة ومضات وكأن فكرة خطرت بباله، ثم هتف:
- تلك هي يا مارون!
نظر مارون نحو روهان مصدوماً، بينما هم روهان من مكانه وقال:
- علينا أن نحزم أمتعتنا.
- انتظر، انتظر!
فالتفت روهان إليه متسائلاً، حينها تساءل مارون:
- ماذا بشأن الحاكم، أليست تلك مقابلة في غاية السرية؟
ربت روهان على كتف مارون وابتسم ابتسامة تدل على رثاءه لحاله، وهمس:
- بالتأكيد يا بني، هل تظنني أحمقاً!
ثم هم يخرج من الغرفة، ما إن طرق الباب حتى نظر مارون نحو الباب بصدمة، وجهه لا يزال مشدوهاً، وهمس في نفسه:
- ما باله يتصرف بغرابة!
...

2020/05/23 · 182 مشاهدة · 918 كلمة
بيان
نادي الروايات - 2024