الرحلة نحو الشمال لم تكن بالأمر السهل، تحضير حجة مقنعة لمغادرة العاصمة في هذا الوقت المتأزم، لذلك لم يكن لدى روهان أي خيار سوى أن يقدم اعتذاراً عن الحضور. لم يفاجأ أنيس بذلك، بل كان متوقعاً، إلا أن الملاحظة الأخيرة في الرسالة جعلته يبتسم وقال بإعجاب:
- ذلك الفتى!
- هل قلتَ شيئاً؟
نظرت كريستينا نحو وهي تداعب الكلاب، فنفض الأوراق على المكتب وقال ببرود:
- ألا يجب أن تعودي إلى الأكاديمية؟
- لكننا في إجازة.
- إجازة؟
- أجل، ألا تعلم؟ إنه ذلك الوقت حيث تتعطل الدروس ويعود كل إلى بيته.
امتعض وجهه، وشعر بالغضب والضيق يعري رأسه، همس:
- لم أطلب هذا التوضيح.
نظراتها البلهاء نحوه جعله يتنهد ويأخذ نفساً، أغلق عينيه ثم فتحها ليعود إلى هدوءه واستطرد قائلاً:
- و؟
- و ماذا؟ هل تريد التخلص مني لهذا الحد؟
- الأمر ليس كذلك، لكنني لا أستطيع الخروج من القصر وترككِ هنا.
ثم نظر نحوها بجدية، وخرج صوته غامضاً:
- لا تجعلي الأمر صعباً علي، لا أريد أن تصل أخبارٌ عنكِ أو شقيقتك إلى الحاكم.
عبست، لكنه أشاح وجهه، يعرف تماماً ما ستفعله، ستبدو الآن يائسة وضعيفة، تستخدم ملامحها اللطيفة لتضعف قراراته، لكنه يفعل ذلك لحمايتها، لا يمكنه أن يضعها في الخطر كما حصل في الماضي، لا يريد تكرار الخطأ مرتين. نهض وقال قبل أن يغادر الغرفة:
- غادري!
ما إن خرج، حتى قابله مساعده، قدم تحيته ليظهر خلفه رجلُ أعاد لأنيس جديته، نظر نحوه بجمود ثم سمع همس مساعده:
- لقد وصل مساعد الأمير الثاني.
أخذ يتأمل أنيس الرجل باهتمام، يتفحص كل جزء من أجزاء جسده:
"إذاً هكذا يبدو رجال القصر الملكي الآن!"
شعر مساعد الأمير بتردد سيده، فهمهم بنبرات منبهاً، ما جعله يستيقظ من شروده ثم أشار بيده ليدخلوا مكتبه.
ما إن دخلوا المكتب كانت كريستينا بالفعل مغادرة، والكلبين نائمين على السجادة الدائرية الصغيرة حولها الأرائك، بدا مارون مندهشاً لوجود كلاب حراسة بهذا الشكل، ما جعله قلقاً، فقال أنيس مطمئناً:
- لا داعي للقلق، فهم مدربين بشكل جيد.
قدم مساعد الأمير لمارون مقعداً، وجلس على إحدى تلك الأرائك، بينما وقف أنيس قبالة النافذة الشاهقة التي تطل نحو السماء، لا ينكر مارون أن القصر نال إعجابه، كما أن موقعه مثير للاهتمام، كان يمسح الغرفة بناظريه بإعجاب حين تكلم أنيس أخيراً:
- يبدو أن سمو الأمير يملك من يثق به.
كلماته ليست بالأمر الجلل، لكن كونها عن الأمير الثاني جعلتها حادة كالسيف.
- مارون لازاك ..
ثم نظر نحوه ليجد وجه مارون مصفراً، وعيناه مشدوهتان:
- عشيرة لازاك المتوحشة، أشباه الذئاب، أليس كذلك؟
- أنى لك معرفة ذلك؟
رغم محاولته ضبط نفسه إلا أن نبرته شابت بقليل من التوتر، ذلك لم يكن صعباً على أنيس لملاحظته فابتسم ابتسامة خفيفة، وتقدم نحو إحدى الأرائك قبالته، وأخذ يلمس ظهرها، ثم قال:
- أنت لا تعرف ذلك ..
ثم نظر نحوه نظرة حازمة مرعبة، جعلته يتجمد مكانه:
- ... لكنني أعرف الكثير.
ثم عم الصمت، كلاهما يحدقان بالآخر، أحدهما متجمد من الذعر وآخر يهاجم بنظراته الماكرة، شحنات متوترة تضرب المكان، فم مارون يرتجف حتى تمالك شفتيه أخيراً ونطق:
- سموك .. من أنت؟
- أوه!
ابتسم بلطف، وتقدم نحوه ثم جلس على الأريكة قبالته وأركى برأسه على ذراعيه التي بدورها ارتكت على فخذيه، وقال بحماس:
- هل أنت فضولي بشأني؟
ابتلع مارون رمقه بذعر، ابتسامته اللطيفة تحولت إلى ابتسامة ماكرة، تحول ملامح هذا الرجل مرعبةٌ جداً. هز رأسه وهمس:
- أجل!
أرخى ابتسامته وأعاد بظهره إلى الوراء، كانت الخادمة بالفعل موجودة تنتظر الإشارة لتقدم الضيافة، ما إن التمس أنيس حضورها حتى أشار لها بوضع الشاي والحلوى، بينما بقي مارون متسمراً يجلس كالرجل الآلي.
- لا داعي للقلق، لمَ لا تجرب الحلوى الشمالية؟
قال مبتسماً في محاولة لتلطيف الجو، وجعل مارون مسترخياً، حاول مارون أن يبتسم ويشكر حسن ضيافته، الشاي بلونه الذهبي القاني، وتلك الحلوى الملونة تجعل المرء جائعاً، لكنه يشعر بضغط كبير ليبدو سعيداً وهو يتناولها. ما إن لمس طرف الكوب شفتيه حتى خرج صوت أنيس:
- إذاً لندخل صلب موضوعنا.
تراجعت الكوب من يده كردة فعل، ونظر نحو أنيس الذي ينظر نحوه بتلك العيون الحازمة، وجهه خالٍ من أي تعبير ويسند بجسده على الأريكة بأرستقراطية.
- لدي السجين الذي تبحثون عنه، لكنه حقاً يسبب لي الكثير من المتاعب.
ثم تنهد بنفاذ صبر، ما جعل مارون ينظر نحوه بدهشة، لم يفكر حقاً أن رجلاً مرعباً مثله سيكون صادقاً معه بشكل أو بآخر، أو ربما هو عفوي يقول ما يخطر بباله، أم هل يحاول تخفيف الضغط عنه؟ إنه بالفعل جيد في جعله مشوشاً.
- سموك ...
خرج صوت مارون ثابةً أخيراً:
- .. هل تعني ذلك حقاً؟
فنظر أنيس نحو باستغراب، وسأل:
- وهل تظنه شيئاً آخر؟
- أن تطلب من سيدي المخاطرة ...
- آه ...
عدل أنيس جلسته، ثم نظر في عيون مارون بتحدٍ، وقال:
- أليس لسيدك الكثير من الأاسئلة؟
تراجع مارون بفزع، ذلك الرجل يفاجأه في كل مرة، ثم سأل:
- لمَ سموك يتوقع أن لسيدي الكثير من الأسئلة؟
فابتسم ابتسامة ساخرة، ثم أشاح وجهه وقال:
- أليس ذلك منطقي بالنظر لوضعه كأمير دخل القصر بعد سن العاشرة!
- سموك ..
تساءل مارون:
- أنت لا تنظر نحو سيدي بهذا الشكل، أليس كذلك؟
عاد ينظر نحوه، هذه المرة مارون ينظر بعينين متقدتين، حين خرج صوته عميقاً:
- ما هدف سمو الأمير الحقيقي؟
تبادلا النظرات لوهلة، ثم قاطعهما بابتسامة باهتة وعاد يتكئ بجسده، ثم قال بنبرة متعالية:
- لا شيء، إنها صفقة خاسرة من طرفي، سيدك يريد المعلومات وأنا أريد التخلص من ذلك السجين!
- ما الذي يجعل سيدي يثق بسموك؟
- ألستم بحاجة إليه؟
نظرات أنيس الواثقة، ابتسامته الماكرة التي ترسم وجهه الوسيم، هالته الباردة التي تجعل حضوره مرعباً، وكلماته الصادقة جعلت مارون يفكر ملياً بشأن هذا الرجل، إنه ليس بالند السهل! أخذ مارون بعض الوقت ليجيبه، لكن أنيس صفعه بتساؤلاته:
- ألست تتساءل إن كان ليون حقاً سيقبض عليه بعد أن تركه يرحل؟ هل كان ذلك متعمداً؟
بدا أنيس وهو ينظر نحو أنامله التي يرفعها نحوه وكأنه يتساؤل بعفوية، لكن أسئلته تلك جعلت مارون مذعوراً، كيف أمكن لذلك الرجل أن يقرأ أفكاره، أوليس ذلك ما جعل سيده يتحرك؟
- سموك ...
خرج صوته بصعوبة:
- إلى أي مدى يعرف سمو الأمير؟
فعاد يتكئ على ذراعيه وينظر نحوه بحماس:
- هل أنت حقاً فضولي بشأني؟
تردد مارون قبل أن يجيب:
- ما الذي تريده من سيدي؟
فزم شفيته في محاولة لإدعاءه التفكير، ثم قال:
- لا شيء حقاً، ما أريده هو أن أزيح هذا الحمل عن كاهلي.
- و؟
- بالمقابل، سأقدم لسيدك معلومة جيدة، هل تريد أن تعرفها؟
شد ذلك مارون بالفعل، حرك جسده وفتح حواسه مترقباً، فأجابه أنيس دون أي تأجيل:
- أخبر سيدك ذلك جيداً، إن كان يريد الوصول لإجابة تساؤلاته، فليتحقق من أمر القائد ليون.
- القائد ليون!
هتف مارون بصدمة، لم يكن أحدٌ يعر القائد ليون أي اهتمام حقاً، فهو ليس بالرجل الذي يعتمد عليه، حتى تفوقه على الأمير لوكاس كان محض صدفة لم يكن لأحد أي تفسير لها، شعر لوهلة أنه مشوش، هناك الكثير من الخيوط المتشابكة، إلا أن أنيس قطع شورده بنهوضه، وقال مشيراً نحو الباب:
- والآن، هل تريد مني إرشادك إلى السجين؟
- أجل!
...
الظلام الدامس أسفل الجسر، الهدوء العائم بين موجاتٍ منبعثة من خرير الماء، ضوء خافت صغير يشع بوضوح في ذلك السواد الحالك، بينما خطوات منظمة تطرق الأرض الحجرية يصدح صوتها داخل الخندق. أحدهم يمسك شعلة خفيفة يغطي جسده ورأسه بعباءة سوداء بينما يحمل الآخر فانوساً صغيراً ويرتدي عباءة مماثلة، ما إن اقترب نور الفانوس من شعلة الرجل الصغيرة، حتى تراقص ظلهما على الحائط الحجري المقوس.
- سمعت أنكَ فشلت هذه المرة.
- ...
- كيف ستواجه الحاكم بهذا الفشل؟
- سأحاول إصلاحه.
- إصلاحه؟ لقد قبض على سيراف، الدليل المتبقي لإعلان وحشية ذلك القذر.
- خالص إعتذاري، سأبذل كل ما لدي لإنقاذه.
- إنقاذه؟ هاه! أنت لا تعرف أين هو، أليس كذلك؟
صمت، فعاد يقول الرجل الذي يحمل الشعلة الخافتة:
- إنه عند ولي العهد.
بدت وقع تلك الكلمة على مسامعه بالشيء العظيم، فها هو متجمد مكانه، لولا تلك العباءة والظلام الذي يغطي وجهه لتبينت ملامحه المصدومة كتمثال منحوت.
- ليون.
علق الرجل ذو الشعلة مهدداً:
- هذه المرة ستودع رأسك الغبي.
ثم سحب الرجل عباءته وهم يغادر، تطرق أصوات خطواته على الارض الحجرية ويتمادى صداها، بينما تتراقص الشعلة داخل فانوس ليون الذي تجمد مكانه كالجثة الهامدة.
...

2020/05/23 · 174 مشاهدة · 1303 كلمة
بيان
نادي الروايات - 2024