"قبل المُغادرة.. أخبريني، ما الذي كُنتِ تفعلينَه هنا ؟"

نظرَت داشاي نحو شوفين لِبعض الوقت قبل أن تقول

"من قال بِأني سأغادِر ؟"

ضيّق شوفين عينَيه وهو ينظُر إليها فقالت

"أنا أنتظِر قدوم أحد رِفاقي للبحث عن بعض المعادِن النادرة، لكني وجدتُ الكثير من المُزعجين هنا، لذلك قرّرتُ اللّعِب معهم قليلاً"

ابتسَم شوفين ونظر إلى مكانٍ بعيدٍ خارِج الجزيرة، استدار وقال

"لديكِ بعض الرّفقة، لذلك سأذهب الآن، نلتقي لاحقاً"

قال هذا ثم انصرف بالطيارة إلى مكانٍ بعيد، أرادَت أن تتبعَه إلا أنها أحسّت بِأن مجموعةً من العربات الطائرة قد وصلَت من الاتّجاه الذي أشار إليه شوفين، وكانَت هذه العربات تقصِد المكان الذي تقِف فيه داشاي، عبسَت ونظرَت نحو شوفين الذي شعر بِقدومِهم قبلَها، استدارَت بِوحشِها وغادَرت المنطقة حتى لا تتصادَم مع كل هؤلاء المُزعجين.

اختفى شوفين وداشاي من المكان الذي كانا فيه قبل أن تصِل مجموعةٌ من العربات الطائرة وكان فيها أشخاصٌ في متوسط وقمّة مرحلة المجال، وكانوا من عشائر مُختلفة وليس من عشيرة واحدة، خرج أربعينيٌّ من إحدى العربات وكان يحمل على كتِفه وحشاً صغيراً يُشبِه دودة الربيع، نظر إليها وقال

"أعثُري لي على مَن كان يقِف هُنا"

قفزَت الدودة الوحشيّة وبدأت تشمّ رائحة الهالات العالِقة في الهواء، وبعد لحظات.. عادَت إلى سيّدها وأعطَته التقرير، نظر الأربعيني نحو الآخرين وقال

"كان هنا ثلاثة بشر ووَحشٌ طائر، وقد حدث قِتال بين الفريقَين قبل أن يفترِقا، ماذا نفعل الآن ؟"

استشعرَت دودة الربيع رائحة القنبلة التي انفجرَت بين شوفين وداشاي فاعتقد الأربعيني بِأنهما كانا يتقاتلان، ردّ عليه خمسينيٌّ يبدو أقوى منه

"دعونا نفترِق ونبحَث عنهم، يجب أن نعلم مَن الذي قتَل أتباعنا"

اتّفقَت الفِرق وسارَت في اتّجاهَين، فريقٌ يبحَث عن داشاي وآخر يبحث عن شوفين، وهذا الأخير اتّجه مُباشرة نحو البُحيرة خارِج الجزيرة، إلا أن الهالة قد اختفَت تحت الماء لِأن شوفين كان يُراقِبهم وعلِم بِأنهم يبحثون عنه، لذلك غاص مع سويكا تحت البُحيرة واستخدم البيت الآمن لحِماية نفسِه مع سويكا، وكانت مِساحة البيت الآمن تسَع لهُما بالكاد، ابتسم نحوَها بِخُبثٍ وقال

"سنبقى هنا لِبضعة أيام، لكني أتساءل.. كيف يجب علينا قضاء الوقت في مثل هذا المكان الضيّق ؟"

احمرّ وجه سويكا ودفعَته بِيديها إلا أنه أمسكَها بِقوّةٍ فبدأت تصرُخ

"غبي ... أحمق ... مُنحرِف ... اتبعِد عنّي"

...

فوق الجزيرة.. بدأت القوات تتجمّع من جديد وتمّ تشكيل أكثر من عشر مُعسكرات وكلها تُحيط بِمدخل المنجم الذي يبدو مثل سردابٍ قديم، ومع أن هذا المنجم كان هنا منذ آلاف السنين إلا أن بعض المُغامرين قد وجدوا بعض المعادِن النادرة وقاموا بِبيعها في مدينة كبيرة، وهذا الخبر تسرّب إلى العشائر القوية فقرّرت القدوم أيضاً، ولم تكُن بين هذه العشائر أي عشيرةٍ مِن الخمسة الأقوى، وربما كانَت داشاي هي الوحيدة التي تُمثّل عشيرةً قويّة تُناطِح العشائر الخمسة.

بعد يومَين من اختفاء داشاي.. لم يعُد أحدٌ من الفريق الذي تبِعها، وهذا جعل كِبار العشائر يُرعبون لأن الفريق المُشترَك الذي أرسلوه خلفها كان قوياً جداً، واختفاؤه يعني شيئاً واحداً فقط وهو أنهم قد عبِثوا مع من لا يجب العبث معه، لذلك قرّروا أن يُنكِروا أي صِلةٍ بِالفريق وإذا تعرّضوا للمُساءلة فسيقولون بأن هؤلاء مُنشقّون عنهم وكانوا في لائحة المطلوبين، وهذا مِن مكرِهم حيث يجب أن يكون المرء ذكياً حتى ينجو في مثل هذا العالم الوحشي.

لم تدخُل أية عشيرةٍ إلى السرداب بِسبب وجود العديد من القوات التي أرسلَت مُمثّليها ولم تُرسِل كِبارَها بعد، وبِسبب هيمنتِهم فلا أحد يستطيع الدخول حتى يجتمعوا كلهم ويُناقِشوا طريقة تقسيم الفوائد، لذلك كانت الجزيرة تعجّ بِالمُقاتلين وكأنهم قد نسوا تلك القنابل التي كانت ترميها داشاي قبل أيام.

بعد أسبوع.. خرج شوفين وسويكا من البيت الآمن، ومن النظرة الأولى إليهِما.. يُمكن معرِفة ما كانا يفعلانِه طيلة الأسبوع الماضي، وهذا كلّه بِسبب رغبة سويكا في التقدّم خُطوة جديدة نحو شوفين الذي كان بارداً معها على الدوام، استحمّ الاثنان في البُحيرة وغيّرا ثِيابهما ثم قالت سويكا بِاستغراب بعد أن شعرَت بِتغيّرٍ في مستوى تدريبِها

"لِماذا ازداد تدريبي بِهذه السرعة ؟"

كانت سويكا في بداية مستوى تهيئة الوعاء، والآن تكاد تخترِق نحو مرحلة التألق، وهذا غريبٌ لِأنها اخترقَت مرحلتَين فرعِيتَين دون حتى أن تشعُر، أزاح شوفين عن وجهِها خصلةً مُبلّلة مِن شعرِها ثم قال

"أنتِ أضعف منّي بِكثير، لذلك.. أنتِ الوحيدة التي تستفيد حالياً من الزراعة"

احمر وجهُها وطأطأت رأسها بِخجلٍ عندما تذكّرت كيف مرّ الأسبوع الماضي، لكنها لم تكُن حزينة أو غاضبة لِأن هذا أمرٌ عادي بين السيد والجارِية، خاصة عندما يكون بينَهما نوعٌ من التفاهُم، فقط.. لو كان هذا الوغد يولي لها بعض الاهتمام العاطفي ولا يتعامل معها مثل الصخر الأصمّ، بل حتى أنه قال بِوقاحةٍ بِأنها هي الوحيدة التي تستفيد من الزراعة، أليس هو أيضاً يستفيد من جمالِها وأنوثتِها ؟
أيملِك الوجه حتى يتّهِمها بأنها المستفيدة الوحيدة ؟
لكن.. على الأقل.. هو أفضل من غيرِه بالنسبة لها، لأن هذا سيمنَع الآخرين من اكتشاف القلب البدائي ما دامَت تُمارِس مع شوفين.

من ناحية شوفين.. كان لديه تفكيرُه الخاص، فالأمر ليس وكأنه لا يملِك الرغبة في قضاء الوقت مع النساء، لكن عقلَه قد وصل إلى نوعٍ من النُضج الذي يجعلُه يُفكّر في هدفٍ واحدٍ فقط، وهدفُه الحالي في هذا العالم هو الخروج منه، أما غير ذلك من الأفعال فهي فقط لِخدمة هدفَه، لذلك لا يتوانى عن القتل والسرقة إذا كان وراء ذلك فوائد جيدة لِزيادة قوّتِه، وسويكا نفسُها ليست أكثر من أداةٍ بالنسبة له.

مع أن شوفين لم يكُن يرغب بِالمُمارسة مع سويكا في البداية وإنما أرادها أن تتحكّم بِالبيضة فقط، لكنّه غيّر رأيَه بعد تواصُلِه مع الخُنفس الموجود في البيضة، حيث اتّضح بِأنه ليس بِتلك الخطورة التي اعتقدَها سابقاً لأنه يملِك عقلاً واعياً ويُمكِن التفاهُم معه، لذلك صار بالإمكان تغيِير خُطّتِه التي رسمَها لِسويكا أيضاً، ولأنها بدأت التقرّب منه فقد قرّر أنه لن يمنَع نفسه عن الزراعة المزدوجة، خاصة أنها ستدعَم اختِراقه إلى مرحلة المجال حتى بدون الاعتماد على دِماء التضحية التي لا يزال يقوم بامتِصاصِها وتَنقيتِها داخل عالمِه الفراغي.

خرج الاثنان وبدآ يسيران نحو المُعسكر حيث يجتمِع الجميع، وكانا يسيران على الأقدام وكأنهما شخصان عادِيان لِأن شوفين لا يرغب بإظهار الطيارة بين الجميع، خاصة بعد اشتِهار اسمِه كأكبر نصّاب في المناطِق الشرقية، لذلك سيتمشى على طرف الطريق ويجلِس في زاويةٍ غير مرئية ريثما يجِد أفضل طريقةٍ للحصول على أفضل الفوائد، ولِأن الأمر غير مُستعجل.. فقد قرّر التجوّل في الجزيرة أولاً ويدرُسَها لأن السكان يقولوا بِأنها ليسَت من هذا العالم.

بدأ الجولة حول أطراف الجزيرة وكان يمشي بهدوءٍ لِأكثر من نصف يوم، وأخيراً.. اكتملَت الجولة فبدأ يدخُل إلى وسط الجزيرة حتى وقف أمام بعض المناجِم القديمة، وكان طِوال الجولة يستخدِم نظرَه الخارِق لِفحص التراب وجُزيئات المعادِن، وعندما اقترَب من أحد المناجِم.. عبس وهو ينظُر إلى كومةٍ من التراب، انحنَى وأخذ مِنها قبضة ثم بدأ يفحصُها باستغراب، لاحظَت سويكا فِعله فسألته

"ما الذي وجدتَه ؟"

قال

"هذه الجزيرة يجب أن تكون قد أتَت من عالمٍ عُلوي، وليس مِن أي عالمٍ علوي وإنما مِن أحد أكثرِها نُدرة بين جميع العوالِم، لكن.. كيف وصلَت إلى هُنا ؟"

استغربَت سويكا وقالت

"أكثر العوالِم نُدرة ؟
كيف هو هذا العالم ؟"

ضمّ شفتَيه لِبعض الوقت ثم نظر إلى سويكا وقال

"يُسمى عالم البِلّور، وهو مليء بِالنّساء اليافعات الجميلات اللواتي لا يكبُرنَ في السنّ، وأي رجلٍ يدخُل ذلك العالم يتم اعتِبارُه زوجاً للجميع، وإذا رفض فسيتمّ اعتِبارُه عدواً للجميع"

ضاقَت عيناها وطغَت الغيرة على قلبِها وهي تسألُه

"وأنت.. كيف تعرِف هذا العالم ؟"

ابتسم بِحرجٍ ثم قال

"دخلتُ إليه للبحث على معدنٍ نادِر، ونجوتُ منه بِأعجوبة، رغم أن إحداهُنّ كانت تُطارِدني عبر العديد من العوالِم"

قال هذا ثم ضحِك ساخِراً مِن أيامِه القديمة، لكن.. توقّفَت ضِحكتُه فجأة وتغيّرت ملامِحُه قبل أن يُغلِق عينَيه ويبدأ البحث في كتاب التاريخ المجيد عن وقتِ سقوط الجزيرة في هذا العالم، وبعد لحظات.. اسودّ وجهُه وصرخ عالياً

"اللعنة عليكِ يا أجريس، أليس لديكِ ما تفعلينَه غير مُطاردتي ؟"

--------------
سؤال الفصل:
في رأيك.. لماذا قامت أجريس بِنقل الجزيرة إلى القارة العظمى ؟

#تحت_المجهر
--------------

صفحة الرواية على فيسبوك:
https://fb.com/MicroShowFine

2020/01/28 · 553 مشاهدة · 1226 كلمة
simba
نادي الروايات - 2024