"أنت ... أنت ... ماذا تكون بحق الخالق العظيم ؟"
ابتسم شوفين ولم يردّ على الصوت القديم مباشرة وإنما بدأ يضع علامة على روحِه، وكان الأمر سهلاً بعض الشيء لأنها مجرد علامة تتبّع حتى يعرف المكان الذي يختبئ فيه، صرخ الصوت القديم عندما شعر بِما يفعلُه شوفين ولم يستطِع إيقاف العملية، وبعد انهاء شوفين.. قال له
"سآتي إليك لاحقاً للحديث عن مشاكل الحياة، إلا إذا أردتَ أن تدلّني بِنفسك عن المكان !"
قال هذا ثم أغلق قناة التواصُل لأنها مُرهِقة له، ولولا أنه شعر بِضعف روح صاحب الصوت القديم لما تجرّأ على مُعاداتِه، ولكان قد وجد طريقةً للتهرّب منه، لكن.. بِما أنه ضعيف ولديه نوايا سيئة فسيكون من الأفضل أن يزورَه حتى يفهم ما الذي يفعلُه مقاتل بشري في هذا المكان.
يُعتبر ما يُسمى بالروح.. أو ما قال شوفين بأنه مجرد وعي، يُعتبر همزة وصلٍ بين الكيان البشري الذكي وجسدِه، وقلل من الناس يعرفون أين يوجد هذا الكيان الذي هو بعيد جداً عن الجسد، بل ويُعتبر هذا أحد أعظم أسرار هذا العالم، وعندما يكون هذا الكيان ذا خِبرة في تدريب الروح.. فيُمكنه نقل روحِه إلى جسدٍ آخر، أو تخزينها في أداةٍ ما ريثما يتعافى، إضافة إلى العديد من الأساليب الأخرى التي قام البشر بابتكارِها.
خرج شوفين من البوابة فوجد نفسَه في بعض القِفار الفارغة من البشر، وفجأة.. شعر وكأن طاقةً روحية تُريد طردَه مِن الفراغ المكاني، ابتسم وعمّم طاقتَه الروحية لِطرد المُعتدي وهو يقول
"لن تنجح في طردي بسهولة، فأنت تستولي على هذا المكان فقط، ليس وكأنه عالمُك الخاص"
ارتجفت طاقة الكيان وانسحبت بسرعة لأن شوفين كان يعلم أكثر ممّا اعتقَد، وهذا يعني بأنه لن يستطيع طردَه من الفراغ المكاني.
نظر شوفين يميناً وشمالاً حتى رأى جبلاً مرتفعاً فاتّجه نحوَه، وبعد نصف ساعةِ كان واقفاً أعلاه، استخدَم عينيه وقرّب البعيد فلاحظ بأنه على أطراف الفراغ، اعتمد على خصائص عينيه مع حجر التصوير لحِفظ جميع ما يراه من معالِم وطرق وأماكن يُحتمل بأن تكون فيها بعض الكنوز الطبيعية، كما رأى بعض الغابات المليئة بالوحوش القوية أيضاً، استمر في المراقبة حتى ظهرَت له أماكن العشرات من تلاميذ العشائر الثلاث وقد وقع بعضُهم بالفعل في قتالاتٍ عنيفة مع الوحوش.
راقب لِبعض الوقت قبل أن يشعُر بأن شيئاً يقترِب منه بسرعة كبيرة، استدار ورأى وحشاً طائراً يُشبه حشرة الضوء ويقصِدُه مباشرة، ابتسم بهدوء واستعدّ لوصوله، وعندما صار في مجالِه.. استخدم تقنية الألف ظل وتجنّب الهجوم، وفي نفس الوقت أرسل هجوماً باستخدام تقنية النور المظلم، وفي لمحة عين.. اخترق خيط الضوء صدر الوحش الطائر ودمّر أحشاءه من الداخل، سقط الوحش بدون حراك على بُعد عشرات الأمتار، ذهب شوفين نحوَه ثم اخترق صدرَه مرة أخرى باستخدام خيط الضوء واستخرج منه كمية من جوهر الدم وقام بِتخزينه، قطّب حاجبَيه قليلاً عندما أحسّ بشيء غريب، انحنى نحو الوحش وتصفّحه قبل أن يبتسِم ويقول
"يمكنك اللعب كما تشاء، لكن تذكّر جيداً، كلما أزعجتَني أكثر.. كلما زادت معاناتُك عندما أضع يدي عليك"
قال هذا لأنه وجد آثاراً على تحكّم الكيان القديم بهذا الوحش، ومع أنه ليس حاكماً فعلياً لهذا الفراغ إلا أنه يستطيع التحكّم بالكثير من الأمور لأنه كان يعيش هنا لِوقتٍ طويل، غير أن نقطة ضعفِه هو أن روحَه كانت خافتة جداً.
أكمل دراسة المكان عبر عينَيه لبعض الوقت ولم يأتِ أي وحشٍ آخر، وقبل أن ينزِل عن الجبل.. أخرج ريكو وراموليا وقام بحمايتِهم بطاقتِه الروحية عبر عقد العبودية حتى لا يطرُدهما الكيان القديم.
جفل ريكو عندما رأى نفسه في الخارج دون إنذار، وقطّبت روماليا حاجبيها الرقيقَين قبل أن تقول
"الفراغ المكاني ... مسابقة الصيد"
قالت هذا قبل أن تستذكِر بعض الذكريات القديمة عندما دخلت إليه قبل أكثر من أربعمائة سنة، لاحظ شوفين ذلك فسألها
"هل توجد هنا أية أماكن مثيرة للاهتمام ؟"
مع أنه قام قبل قليل بدراسة المناطق على نطاق واسع إلا أن خبرة شخصٍ كان قد دخل إلى هنا ستكون أفضل، خاصة أن كل التلاميذ الآخرين قد حصلوا على المعلومات من معلّميهم بينما ليس لديه معلم في العشيرة ولا يدري شيئاً عن هذا الفراغ.
صمتت روماليا قليلاً ثم قالت
بِخلاف التدريب واكتساب الخبرة.. يأتي التلاميذ إلى هنا للحصول على الأعشاب النادرة من الوديان الضبابية، وآخرون يبحثون عن الحظ عبر الحفر والتنقيب في الجبال والسهول، كما يوجد مَن يهتم بِجواهر الوحوش القديمة وأطراف أجسادِها، لكن قتلَها يكون صعباً ويحتاج إلى اجتماع فريق كبير.
تقوم بعض الوحوش القديمة بِجمع الطاقة على شكل جواهِر داخل رؤوسِها حتى تستغلّها أثناء الاختراق، وتدوم عملية تكوين الجوهرة لِوقتٍ طويل جداً، وهذه الجواهر تتّخذ ألواناً مختلفة بنفس ترتيب أحجار الطاقة، وإذا حصل عليها أحد المتدرّبين فسيكون محظوظاً جداً لأنها ستمنح له طاقة أكبر بِكثير من أحجار الطاقة من نفس اللون، حيث يمكن تعويض جوهرة وحشية بيضاء بمليون حجر طاقة أبيض.
ابتسم شوفين وقال
"حسناً، سنصطاد الوحوش"
نظر إليه الاثنان باستغراب فشرَح
"سيكون هذا تدريباً جيداً لِتعزيز المؤسّسة وفهم المهارات الجديدة"
أخرج جوهر الدم الذي أخذَه من الوحش الطائر الشبيه بحشرة الضوء، ألقاه نحو ريكو وقال له
"كُل هذا وقُم بِصقلِه، وإذا كُنتَ محظوظاً فستحصُل على بعض الفوائِد، سواء منه أو من الوحوش التي سنقتُلها"
أمسك ريكو كرة الدم وقال
"هل لِهذا علاقة بِمهاراتي الروحية ؟"
أومأ شوفين وقال
"مهارتك الروحية لا تزال نائمة، يجب علينا تغذيتها أولاً قبل استيقاظها، وحينها.. حسناً، ستكتشف ذلك بِنفسك عندما يحين الوقت."
لم يقُل ريكو شيئاً وإنما ابتلع كرة الدم وبدأ بِصقلِها وهو جالس على كتف راموليا، نزل الثلاثة من الجبل وقصدوا إحدى الغابات المليئة بالوحوش، وبمجرّد اقترابِهم.. خرج وحشٌ قوي وقصدهم مع نية القتل، استغربت راموليا لأن الوحوش القوية مثل هذا يُفترض أن تبقى في أماكِنها التي تحكمَها، وقبل أن ترتبِك أكثر.. شرح لها شوفين وضع هذا الفراغ والكيان القديم الذي يحكُمه، ما جعلها تشعُر وكأنها حشرة صغيرة لا تعرِف شيئاً، وذلك لأن العشائر الثلاث قد كانت تدخُل هذا الفراغ منذ آلاف السنين، ومع ذلك لم يشعروا أبداً بأن هناك كياناً قديماً يحكُمه، بينما اكتشفه شوفين أثناء الدخول.
توقّف شوفين وقال للاثنين
"إنه لكما"
عبس الاثنان لأن الوحش القادم كان ضخماً ومتوحشاً، ومع أنه لا يزال في مستوى تعزيز الجسد إلا أنه يمتلِك قوة أكبر من كِليهِما، لكن شوفين لا يبدو وكأنه سيتراجع عن كلمتِه، لذلك قالت راموليا لِريكو
"مهمّتك هي تشتيت انتِباهِه، وأنا سأوجّه الضربات المباشرة"
لم يتدرّب الاثنان على أي تقنية قتالية بعد تغيِير جسدَيهِما، لذلك قرّرا استخدام المهارات القتالية القديمة مع إضافة خصائص الجسد الجديد، وبهذا.. تقدّمت راموليا مباشرة نحو الوحش الذي كان يشبة نمراً مع ستّة أرجُل، وهذا الوصف قد يُعتبر إجحافاً بحقّ جمالية النمور لأن الوحش الذي كان أمامهم لديه جسدٌ مُدرّع ومليء بالبثور القبيحة، كما أن رأسه قريب من رأس حشرة وليس نمر، لكن شكل جسدِه وحركاتِه المرِنة تجعلُه مُخيفاً.
تقدّمت روماليا وأخرجَت هالتين مُختلِفتين من جسدِها تحت مراقبة شوفين، وقبل أن تصل إلى الوحش.. بدأت الهالة الباردة تتشكّل على يدِها اليمنى حتى صارت وكأنها جليدية، وفي نفس الوقت صارت يدُها اليسرى مُشتعِلة وكأنها سيفٌ ناري، وهذا التحكّم في المادتَين قد جعل شوفين يبتسِم.
بعد لحظات.. اصطدَمت روماليا مع الوحش وقامت باستغلال الثغرات في دروعِه لِتوجيه ضرباتٍ مؤذية، وقبل أن يردّ الهجوم.. شعر بإزعاجٍ قادم من الخلف حيث بدأ ريكو بتوجيه ضرباتٍ جسدية قوية إلى ظهرِه، ومع أن جسد ريكو صغيرٌ جداً إلا أنه متدرّب في مستوى توفير الدم، ويملِك قوة لا يُستهان بها، ولولا الفارق الكبير بين جسدَيهِما وعُمرَيهِما لكان قادراً على قتال الوحش الضخم لِوحدِه.
انزعج الوحش الكبير من هجمات ريكو وأراد الدفاع عن نفسِه، إلا أن هجمات راموليا كانت لا تتوقف عن استغلال الثغرات، فهي مقاتلة قديمة ومعلِّمةٌ لِعدّة أجيال من اليافعين، لذلك لديها القدرة على استغلال قوتها بشكل ماهر، وبهذا وقع الوحش بين عدوّين غير مرغوبَين، خاصة أن هجمات راموليا الباردة والحارقة ليست مثلما تبدو لأنها كانت تحتوي على سم قوي يجعل مكان الاصطدام يتآكل بسرعة.
استمرّ القتال لِأكثر من عشر دقائق بهذه الطريقة حتى قرّر الوحش تجاهل تحفيز الطاقة الروحية من الكيان القديم والعودة إلى قلب الغابة، لكنّه لم يكُن محظوظاً حيث ظهر شوفين في طريقِه وأرسل خيط النور فاخترَق جسدَه عبر شقوق الدروع ودمّر أعضاءَه الداخلية، نظر إليه الاثنان باستغراب لأنه أسقط الوحش بسهولة ودون حتى أن يعرفا كيف فعلَها، ولولا كرة جوهر الدم التي تحوم أمامه لاعتقدا بأنه ليس الذي قضى عليه.
رمى كرة الدم نحو ريكو ثم قال بِأسف
"لِسوء الحظ.. لا توجد جوهرة الطاقة في جسدِه، لِنبحث عن غيرِه في الغابة"
...
بعد ثلاثة أيام.. وصل الثلاثة إلى وسط الغابة وكانوا قد قتلوا أكثر من عشرين وحشاً قوياً بينما كانت الوحوش الضعيفة تهرُب منهم، لكنهم لِحد الآن لم يجِدوا أية جواهر داخل أجسادهِم، وكان أكثرهُم استفادة هو ريكو الذي أصابَته التخمة من جوهر الدم الذي أكله، وهذا جعلَه سعيداً لأنه بدأ يشعر بالتغيِيرات في جسدِه وصارت طاقته أكثر كثافة حتى قبل أن يُنهي صقل ما أكله.
حصل شوفين وراموليا أيضاً على بعض الأعشاب التي كانت تحرسُها الوحوش القوية، لكنها كانت تحت المستوى ولن تُفيدَهم كثيراً، لذلك قرّر شوفين ترك الغابة والبحث في مكانٍ آخر عن فوائد أفضل بينما يقترِب من العلامة التي تركَها على الكِيان الحاكم لهذا الفراغ.
توقّف تهيِيج الوحوش منذ يومَين، لا يدري شوفين إن كان السبب هو ضعف القوة الروحية للكيان القديم أم فقط لأنه فشل عدة مرات فقرّر التوقّف، لكنه بالتأكيد سيأخذ احتياطاتِه حتى لا يقع في فخّه بينما يبحث عن مكانِه.
خرج الثلاثة من الغابة وبدؤوا يتجهون نحو أحد الوديان، لكن.. وفي هذه اللحظة، ظهرت خمسة ظِلال خلفهم وصرخ أحدُهم
"وجدناك أخيراً"