بينما كان هشام وسيلينا يسيران في الممر المظلم، كانت الأشجار العملاقة تقترب من بعضهما، كأنها تراقب كل خطوة يخطوها. كانت أصوات الهمسات تزداد حدةً، وكأنها تحاول اختراق عقله. لكن هشام كان مصممًا على الوصول إلى هدفه، مهما كانت الصعوبات.
"أين يأخذنا هذا الطريق؟" سأل هشام وهو يحاول كسر الصمت الثقيل الذي يحيط بهما.
"نحن في طريقنا إلى مجلس الكونتيات"، أجابت سيلينا بلهجة جادة. "هناك ستبدأ اختبارك الحقيقي. لقد أثبتت شجاعتك في الماضي، لكن الآن عليك أن تثبت أنك تستحق معرفة أسرارهم."
"وما هو هذا الاختبار؟" سأل هشام بتردد، وهو يشعر بأن الأمور بدأت تتعقد أكثر.
"كل كونتيّ يمتلك قوى خاصة تتحكم في جانب معين من الزمن. لتتمكن من الوصول إليهم، يجب أن تثبت قدرتك على تحمل تأثيرات هذه القوى. البعض فشلوا في هذا الاختبار، وآخرون... لم يعودوا أبدًا."
ابتلع هشام ريقه بصعوبة، لكنه استجمع شجاعته وقال: "سأفعل ما يلزم. لقد أتيت إلى هنا لأجد الحقيقة، ولن أعود بدونها."
ابتسمت سيلينا، ولكنها كانت ابتسامة تحمل في طياتها الكثير من الغموض. "لنبدأ إذن."
وصل الاثنان إلى مدخل مغارة كبيرة، كانت مظلمة تمامًا، ما عدا ضوء خافت ينبعث من الداخل. كانت الأرض تهتز برفق تحت أقدامهم، وكأن شيئًا ضخمًا يتحرك في أعماقها.
"ادخل وحدك. هذا هو اختبارك الأول. ستواجه مخاوفك الأكبر هنا. إذا نجحت، ستنتقل إلى المرحلة التالية. وإذا فشلت... ستبقى هنا إلى الأبد." قالت سيلينا بنبرة صارمة، ثم تراجعت إلى الخلف، تاركة هشام أمام المدخل.
شعر هشام بقشعريرة تسري في جسده، لكن لم يكن لديه خيار آخر. تقدم ببطء نحو المغارة، وقلبه يخفق بسرعة. كل خطوة كانت تزيد من حدة التوتر داخله. بمجرد دخوله المغارة، أُغلق المدخل خلفه بصوت عالٍ، تاركًا إياه في ظلام دامس.
"أين أنا؟" تمتم هشام لنفسه، محاولًا التعود على الظلام. بدأ يتلمس الجدران الباردة والرطبة، باحثًا عن أي مخرج.
وفجأة، سمع صوتًا قادمًا من أعماق المغارة. كان صوت همسات خافتة تزداد قوة كلما اقترب. حاول التركيز على الصوت، محاولًا تحديد مصدره. لكن شيئًا في تلك الهمسات جعل عقله يرتجف.
"هشام... لماذا أتيت إلى هنا؟" سمع صوتًا مألوفًا ينبعث من الظلام. كان صوتًا يعرفه جيدًا، صوت والده.
"أبي؟" سأل هشام بتردد، محاولًا معرفة إذا ما كان ما يسمعه حقيقيًا أم مجرد وهم.
"لقد تركتنا ورحلت، والآن تريد العودة؟" كان الصوت مشبعًا بالعتاب والألم. "لماذا تركتنا يا هشام؟"
بدأ هشام يشعر بأن المغارة تتحول إلى غرفة صغيرة في منزله القديم، المكان الذي نشأ فيه. رأى والده يقف أمامه، ملامحه حزينة وعيناه مملوءتان بالدموع.
"لم أترككم، كنت أحاول أن أجد الحقيقة... حاولت أن أفعل ما هو صحيح"، قال هشام، محاولًا أن يفسر موقفه.
"لكن الحقيقة كلفتك كل شيء، هشام. كلفتك حياتك، وعائلتك. هل كان الأمر يستحق كل هذا العناء؟" قال والده بصوت حزين، وكأن كل كلمة كانت تخترق قلب هشام.
شعر هشام بألم داخلي شديد، لم يكن يعرف ماذا يقول. كان يعلم أن ما يراه أمامه ليس سوى وهم، ولكنه كان واقعيًا بشكل مرعب. تردد للحظة، ثم قال بصوت قوي: "نعم، كان يستحق. لقد اخترت هذا الطريق بنفسي، وعليّ أن أتحمل النتائج. لا يمكنك أن تعيش في الظلام طوال حياتك، أحيانًا عليك أن تخاطر للوصول إلى النور."
تلاشت صورة والده ببطء، وعادت المغارة إلى حالتها الأصلية. لكن هشام كان يشعر بأن شيئًا بداخله قد تغير. لم يكن الألم أقل، ولكنه كان الآن أكثر تصالحًا مع نفسه.
"لقد اجتزت اختبار الخوف الأول. هناك المزيد في انتظارك"، جاء صوت سيلينا مرة أخرى، ولكن هذه المرة كان مصدره غامضًا، كأنه ينبعث من جدران المغارة نفسها.
"أنا مستعد لما هو قادم"، قال هشام بثقة، وتقدم نحو العمق، متجاهلًا الظلام الذي يحيط به.
كلما تقدم أكثر، بدأ يشعر بأن الزمن نفسه يتحول حوله. الأصوات، والألوان، وحتى الأرض تحت قدميه، كل شيء كان يتحول ببطء. كان يعرف أن الكونتيات يراقبونه الآن، وأن كل خطوة يخطوها ستكون حاسمة.
لكنه كان مستعدًا. كان يعلم أن عليه أن يواجه كل تحدٍ برأس مرفوعة، لأنه في النهاية، سيصل إلى الحقيقة التي طالما بحث عنها.
بينما استمر هشام في السير نحو أعماق المغارة، بدأت الظلال من حوله تتحرك وتتحول بأشكال غريبة. كانت الأرض تحت قدميه تتمايل، وكأنها تعكس ترددات زمنية قديمة. توقف للحظة ليستعيد توازنه، وأخذ نفسًا عميقًا ليهدئ أعصابه. كان يعرف أن القادم أصعب، وأن كل خطوة تقربه أكثر من مواجهة الكونتيات، أولئك الذين يتحكمون في الزمن بطرق لا يمكن لعقل البشر أن يتصورها.
فجأة، شعر بتغيير مفاجئ في الجو. اختفت الظلال لتحل محلها إضاءة خافتة، وكانت أمامه بوابة كبيرة، مزينة بنقوش معقدة ورموز غريبة لم يرها من قبل. أدرك هشام أن هذه البوابة قد تكون المدخل إلى عالم الكونتيات، حيث ستُختبر قواه وقدرته على التحكم في الزمن.
بخطوات حذرة، اقترب هشام من البوابة ومد يده ليلمس الرموز المنحوتة عليها. بمجرد أن لمسها، بدأت الرموز تتوهج بضوء ذهبي، وفتحت البوابة ببطء لتكشف عن ممر مضاء بشموع أبدية، تمتد إلى ما لا نهاية. كان الممر يشع بهالة سحرية، وكأن الزمن نفسه ملتف حوله.
دخل هشام الممر بحذر، وسرعان ما أدرك أن الزمن في هذا المكان ليس كما يعرفه. كل خطوة كانت تشعره بأنه يتحرك في عدة أزمنة في آن واحد، كأن الماضي والمستقبل يتداخلان في هذه اللحظة. رأى أمامه صورًا لأحداث تاريخية، وأخرى لأحداث لم تحدث بعد، كلها كانت تظهر وتختفي في لمح البصر.
بينما كان هشام يسير في هذا الممر السحري، بدأت الأصوات تتعالى من جديد، لكنها كانت مختلفة هذه المرة. كانت أصوات الكونتيات أنفسهم، تتحدث بصوت واحد مشترك، كأنها توجه كلامها لهشام مباشرة.
"لقد أتيت إلى هنا بحثًا عن الحقيقة، ولكن هل أنت مستعد لدفع الثمن؟" كان الصوت يحمل في طياته مزيجًا من الحكمة والتحدي.
"لقد ضحيت بالكثير للوصول إلى هنا، ولن أتراجع الآن." أجاب هشام بثقة، محاولًا ألا يظهر خوفه.
"الحقيقة ليست مجرد معرفة، إنها تجربة، عبور الزمان والمكان، وتجاوز حدود العقل البشري. هل ستتحمل هذا العبء؟"
توقف هشام للحظة، ثم قال بحزم: "سأتحمله، لأنني لا أملك خيارًا آخر. إن لم أكن مستعدًا لهذا، لما كنت هنا الآن."
عندما أنهى كلامه، بدأت الأضواء في الممر تزداد قوة، وأصبحت الجدران شفافة، كاشفة عن عوالم مختلفة خلفها. رأى مدنًا قديمة، غابات مسحورة، وحتى فراغًا كونيًا يتخلله ضوء النجوم. كان كل مشهد يمثل جزءًا من الكون الذي تتحكم فيه الكونتيات.
"ستواجه الآن أقوى تحدياتك، تلك التي ستختبر روحك وقلبك وعقلك. استعد لمواجهة الزمن نفسه." قال الصوت، قبل أن يتلاشى ببطء، تاركًا هشام وحده مع تحدياته.
في اللحظة التالية، تغير المشهد أمامه. وجد نفسه في وسط معركة ضخمة، حيث كان الزمن يتداخل ويتشابك، والمحاربون يبدون وكأنهم من عصور مختلفة. كانت هناك سيوف قديمة تتقاطع مع أسلحة حديثة، وصرخات المحاربين كانت تمزج بين لغات من ماضٍ بعيد ومستقبل غير معروف.
شعر هشام بالدوار، لكنه عرف أنه يجب عليه التركيز. كانت هذه المعركة تمثل اختبارًا لقوته وقدرته على التحكم في الزمن. حاول أن يركز على نقطة واحدة في المعركة، لكنه وجد نفسه يتحرك بسرعة بين الأزمنة، يشهد لحظات النصر والهزيمة في آن واحد.
في لحظة ما، رأى وجهًا مألوفًا بين المحاربين. كان وجه والده، ولكن ليس كما كان يراه في ذكرياته. كان هنا قائدًا في زمن مختلف، يحارب من أجل قضية لا يعرفها هشام. حاول أن يقترب منه، لكن الزمن كان يسحبه بعيدًا.
"أبي!" صرخ هشام، لكن صوته ضاع في صخب المعركة. فجأة، شعر بيد قوية تمسك به من الخلف، وتجذبه بقوة خارج المعركة.
وجد نفسه مجددًا في الممر السحري، لكنه كان مختلفًا الآن. كانت الشموع قد انطفأت، وكان الجو باردًا وغامضًا. أدرك هشام أنه تجاوز أول اختبار، لكنه كان يعلم أن التحديات الأكبر ما زالت تنتظره.
كانت هناك أبواب أخرى تظهر على طول الممر، كل باب يحمل رمزًا مختلفًا. فهم هشام أن كل باب يقود إلى اختبار جديد، وكل اختبار سيكون أكثر صعوبة من الذي قبله.
"عليك أن تختار بحكمة، فكل باب يحمل في طياته مصيرًا مختلفًا." جاء الصوت من جديد، ولكن هذه المرة كان قريبًا جدًا، كأنه ينبعث من داخله.
تردد هشام للحظة، لكن نظره استقر على باب يحمل رمزًا غريبًا، كأنه يمثل تداخلًا بين الشمس والقمر. شعر بأنه يجذبه بقوة، كأنه يعرف أن مصيره يكمن خلف هذا الباب.
"هذا هو الباب الذي سأختاره." قال هشام بصوت حازم، ثم تقدم نحو الباب وفتحه ببطء.
ومع فتح الباب، اندفعت ريح قوية محملة برائحة غريبة، وكأنها تحمل معها عبير عصور مضت وأزمنة لم تأتِ بعد. أخذ هشام نفسًا عميقًا، ثم عبر من خلاله إلى المجهول، مستعدًا لمواجهة كل ما ينتظره.
كانت هذه بداية جديدة، رحلة إلى قلب الزمن، حيث سيتعلم هشام أن الزمن ليس مجرد تتابع لحظات، بل هو قوة بحد ذاته، تتطلب الشجاعة والحكمة للتعامل معها.