قرر هشام الارتياح في كوخ صغير موجود في الجزيرة، وذلك من أجل أن يتخلص جسمه وعقله من التعب الذي قطعه كالسيف. بمجرد دخول هشام للكوخ، شعر ببرودة الهواء تتسلل عبر الجدران الخشبية المهترئة، مما أضفى على المكان شعورًا بالكآبة والغموض. كان الكوخ قديمًا، بنيت جدرانه من ألواح خشبية متآكلة، وكان السقف المنخفض يغطي المكان برائحة عفنة تنبعث من الأعشاب الرطبة التي نمت في الزوايا.
خذ هشام نفسًا عميقًا وهو يدخل الكوخ الصغير، يشعر بأن جسده أخيرًا يجد بعض الراحة من الرحلة الطويلة التي قطعها للوصول إلى الجزيرة. لكنه لم يكن مجرد تعب جسدي يشعر به، بل أيضًا ذلك الإرهاق العقلي الذي تسببت فيه كل الأحداث الغامضة والمريبة التي واجهها منذ البداية. كانت الجدران الخشبية المحيطة به تهمس بأصوات الرياح القادمة من الخارج، تضفي على المكان شعورًا غامضًا بالسلام المؤقت.
جلس هشام على الأرضية الخشبية المتعبة، محاولًا أن يجمع أفكاره. كان يعلم أن عليه أن يكون مستعدًا لما هو قادم، فقد أصبح جزءًا من لعبة لا يعرف قواعدها بعد، والأعداء الذين يواجههم ليسوا من هذا العالم. تفحص الكوخ بعناية، لاحظ وجود بعض الرموز القديمة المنحوتة على الجدران، لم تكن مجرد زخارف عادية بل بدت وكأنها تحذيرات من شيء ما.
في زاوية الكوخ، لاحظ هشام صندوقًا خشبيًا قديمًا يبدو أنه لم يُفتح منذ سنوات. كان غطاء الصندوق مغطى بالغبار، لكنه قرر أن يفتحه. ما أن رفع الغطاء حتى شعر بتيار بارد يمر عبر المكان، كما لو كان الصندوق يحفظ بداخله سرًا قديمًا. داخل الصندوق، وجد هشام مجموعة من الوثائق القديمة، بعضها مكتوب بلغة غريبة لا يفهمها. لكن كان هناك شيء ما حول هذه الوثائق جذب انتباهه، ربما كان ذلك الإحساس الغريب بأن هذه الوثائق قد تكون مفتاحًا لفهم ما يجري حوله.
أخذ هشام إحدى الوثائق وبدأ يحاول تفسيرها، رغم أنه لم يكن يفهم اللغة المكتوبة، إلا أن الرسومات والرموز كانت تشير إلى شيء كبير وعظيم. بدا له وكأنها خطة أو خريطة لطريقة ما للوصول إلى شيء مخفي في أعماق الأرخبيل. وبينما كان يتأمل في الوثيقة، شعر بشيء يقترب منه من الخلف.
استدار هشام بسرعة، لكنه لم يجد أحدًا. عاد ليكمل فحص الوثيقة، لكنه الآن أصبح أكثر حذرًا. شعر أن هناك قوة غير مرئية تراقبه، تنتظر اللحظة المناسبة للظهور. كان الظلام خارج الكوخ يزداد كثافة، والرياح تعصف بشكل أقوى، وكأن الطبيعة نفسها كانت تحاول منعه من مواصلة طريقه.
وفي تلك اللحظة، سمع صوتًا من الخارج، لم يكن صوت الرياح أو الأمواج، بل كان أشبه بخطوات تقترب من الكوخ. كانت خطوات بطيئة وثقيلة، تحمل معها رهبة لا يمكن تجاهلها. شعر هشام بأن قلبه ينبض بقوة، وكل حواسه تستعد لما هو قادم. حاول أن يظل هادئًا ويستعد للمواجهة، لكنه لم يكن يعرف من سيواجه، هل هو عدو من هذا العالم أم من العالم الآخر؟
وبينما كان الصوت يقترب أكثر فأكثر، بدأ هشام يسمع همسات غامضة، كما لو كانت الأرواح نفسها تتحدث إليه. لم يكن يستطيع فهم الكلمات، لكنها كانت محملة برعب قديم. ثم، وبشكل مفاجئ، توقف الصوت. ساد الصمت في الكوخ، لكن هشام كان يعرف أن هذا الصمت هو الأكثر رعبًا. لم يكن يعلم ما إذا كان يجب عليه البقاء في الكوخ أو الهروب إلى الخارج.
جمع شجاعته وقرر أن يخرج ليرى من أو ما ينتظره. فتح الباب بحذر، ووجد نفسه مواجهًا بالظلام الدامس. كانت الجزيرة هادئة بشكل غير طبيعي، وكأن كل شيء متجمد في الوقت. ثم، رأى في الأفق ضوءًا ضعيفًا يلمع بين الأشجار. قرر هشام أن يتبع هذا الضوء، معتقدًا أنه قد يقوده إلى الحقيقة.
بدأ يسير ببطء، متفحصًا كل شيء حوله. كان يشعر بأن هناك عيونًا تراقبه من الظلال، لكن لم يكن يستطيع رؤية أي شيء. ومع كل خطوة كان يأخذها، كان الضوء يزداد قوة، لكنه لم يكن يشعر بالراحة. كان يعلم أن هذا الضوء قد لا يكون ما يبدو عليه، لكن الفضول كان أقوى من الخوف.
وأخيرًا، وصل هشام إلى مكان مصدر الضوء. كان يقف أمام بوابة قديمة كبيرة، مصنوعة من الحجر. كانت البوابة مغطاة برموز ونقوش مشابهة لتلك التي وجدها في الوثائق داخل الكوخ. شعر هشام بأن هذه البوابة تخفي وراءها سرًا عظيمًا، وربما هو السبب وراء كل ما يحدث في الجزيرة. لكنه كان يعلم أيضًا أن عبور هذه البوابة قد يكون نقطة اللاعودة.
بينما كان هشام يقف مترددًا أمام البوابة، سمع صوتًا قادمًا من خلفه. استدار ليرى نفس الشخص الذي رآه في القبو من قبل. كان الرجل يقف هناك، يبدو متعبًا لكنه كان مصممًا. "لا يمكنك العودة الآن،" قال الرجل بصوت هادئ لكنه قوي. "لقد وصلت إلى هذا البعد، وعليك أن تستمر. البوابة ليست مجرد مدخل، إنها اختبار. اختبار لقوة إرادتك وشجاعتك."
تساءل هشام في داخله عن معنى كلام الرجل، لكنه شعر بأن هناك شيئًا حقيقيًا في كلامه. قرر أن يقترب من البوابة ببطء. عندما لمس الحجر البارد، شعر بتيار كهربائي يمر عبر جسده، وكأن البوابة نفسها كانت تتحقق من هويته. وفي لحظة، بدأت البوابة تفتح ببطء، لتكشف عن ممر طويل مظلم.
دخل هشام الممر بحذر، كان يشعر بأن شيئًا كبيرًا ينتظره في النهاية. كانت الجدران مزينة بنقوش وأشكال غريبة، لكنها كانت تحمل رسالة واحدة واضحة: "العودة مستحيلة". ومع ذلك، استمر هشام في السير، كان يعلم أن الإجابات التي يبحث عنها قد تكون قريبة، لكنه كان أيضًا يعلم أن الأخطار التي يواجهها قد تكون أكبر من أي شيء تخيله.
في نهاية الممر، وجد هشام نفسه في قاعة ضخمة مضاءة بنور غريب. كانت القاعة مغطاة بالذهب والأحجار الكريمة، لكنها كانت تحمل شعورًا بالدمار. في وسط القاعة، كانت هناك تماثيل عملاقة لمخلوقات لم يرها من قبل. كانت تماثيل لكائنات نصف بشرية ونصف حيوانية، تبدو وكأنها كانت حراسًا لهذا المكان منذ زمن بعيد.
وبينما كان هشام يتفحص القاعة، سمع صوتًا عميقًا ومخيفًا يصدح في المكان. "من تجرأ على دخول أرخبيل الشياطين؟" كان الصوت يأتي من كل مكان وفي نفس الوقت من نقطة واحدة. حاول هشام أن يرى مصدر الصوت، لكنه لم يستطع. كان الصوت يحمل معه قوة غامضة، وكأنها تعيد فتح جروح قديمة في ذاكرته.
ثم ظهر كيان ضخم من الظلام، يتشكل أمام عيني هشام. كان الكيان يشبه الشيطان، لكن عيونه كانت تشع بنور أبيض بارد. "لقد أتيت بعيدًا جدًا، ولكن هل أنت مستعد لما ينتظرك هنا؟" سأل الكيان، وكانت كلماته تحفر عميقًا في روح هشام. شعر هشام بأن كل ما يعرفه وكل ما يعتقده قد يكون تحت الاختبار في هذه اللحظة.
رد هشام بصوت مضطرب، لكنه حاول أن يكون قويًا: "أنا هنا للبحث عن الحقيقة. ما هو هذا المكان؟ وما الذي تخفيه هذه الجزيرة؟"
ابتسم الكيان، وكانت ابتسامته تحمل معها الرعب والتشويق. "الحقيقة؟ الحقيقة ليست كما تراها. أنت تبحث عن أجوبة، ولكن هل أنت مستعد لتحمل العواقب؟ هذا المكان هو بوابة بين العوالم. إنه المكان الذي يجتمع فيه الأحياء والأموات، الماضي والمستقبل، الحقيقة والكذب. أنت الآن في أرخبيل الشياطين، المكان الذي لا يعود منه أحد كما كان."
شعر هشام برجفة في جسده، لكنه قرر أن يستمر في الحديث. "وماذا عنك؟ من أنت؟"
"أنا الحارس، الحارس الأبدي لهذا المكان. أنا الكائن الذي يربط بين العوالم، ويحفظ التوازن. لكني لست هنا لمساعدتك، بل لمراقبتك. كل من دخل هذا المكان كان لديه هدف، لكن القليل منهم نجح في تحقيقه."
تردد هشام للحظة، لكنه كان يعلم أنه يجب عليه الاستمرار. "وماذا عن أولئك الذين لم ينجحوا؟"
نظر الكيان إليه بنظرة جامدة، ثم قال بصوت بارد: "لقد أصبحوا جزءًا من هذا المكان. أرواحهم تائهة بين الجدران، وأجسادهم تحولت إلى حراس لهذا الأرخبيل. إذا لم تنجح، ستنضم إليهم."
كانت الكلمات كالصاعقة على هشام، لكنه كان يعلم أنه ليس لديه خيار آخر. كان عليه أن يستمر في رحلته مهما كان الثمن. "وأين يمكنني أن أجد الإجابات التي أبحث عنها؟"
"الإجابات ليست هنا، ولكن في قلب الجزيرة. عليك أن تجد المصدر الأصلي لهذه القوة. لكن تذكر، كل خطوة تأخذها قد تكون الأخيرة. أرخبيل الشياطين ليس مكانًا للضعفاء."
وبهذه الكلمات، بدأ الكيان يختفي ببطء، تاركًا هشام وحده في القاعة الكبيرة. كانت الكلمات تتردد في عقله، وكان يعلم أن رحلته قد أصبحت أخطر مما كان يتوقع. أخذ نفسًا عميقًا، وقرر أن يخرج من القاعة ليواصل رحلته في الجزيرة.
خارج القاعة، كان الليل قد حل، والظلام يلف كل شيء. كان يشعر بأنه مراقب من كل زاوية، لكن لم يكن هناك أحد. بدأ يسير في الغابة، مستعدًا لما هو قادم. كان يعلم أن ما ينتظره في قلب الجزيرة قد يغير حياته إلى الأبد، لكنه كان مستعدًا لتحمل المخاطر.
وفي تلك اللحظة، سمع صوتًا قادمًا من الظلام، صوت أنثوي ناعم ينادي باسمه. استدار هشام بسرعة، لكنه لم يرَ أحدًا. كان الصوت مألوفًا له، لكنه لم يستطع تذكر من أين سمعه من قبل. كان الصوت يهمس له: "تعال إلي، الحقيقة بانتظارك."