لم أخرج من البيت ولو لمرة منذ قدومي إلى هذا العالم.
بالأحرى، كنت أتجنب الخروج.
أنا خائف بحق.
فكلما خرجت إلى فناء المنزل وتمعنت في المنظر ،تعتريني ذكريات الماضي.
ذكريات ذلك اليوم المؤلم.
وجعٌ في بطني، برد شديد من المطر، ندم، يأس، ألمٌ من دهس الشاحنة.
تباغتني هذه الذكريات الأليمة وكأنها حدثت البارحة.
في الواقع، أستطيع النظر عبر النافذة والخروج إلى فناء المنزل بنفسي.
لكني أعجز أن أخطو خطوة أخرى؛ قدماي ترجفان.
فأنا أعلم...
أعلم أن هذا المشهد المسالم والأراضي الخضراء قد تتحول إلى جحيم فجأة.
كنت أهلوس كثيرًا في حياتي السابقة، كلما أصابني أرق.
ماذا لو أعلنت اليابان حالة الحرب؟ ماذا لو ظهرت فتاة جميلة وأصبحت بنت الجيران؟ حينها ستنتعش روحي وأجتهد بكل تأكيد.
ظللت أخدع نفسي لأهرب من الواقع.
حلمت بهذه الأوهام مرات عديدة.
ففي أحلامي، لست برجل خارق، إنما قدراتي بمستوى شخص طبيعي.
وكأي إنسان طبيعي، يمكنني أداء المهام الطبيعية وعيش حياة مستقلة.
لكني سأصحو من هذا الحلم لا محالة.
إن خطوت خطوة أخرى بعيدة عن هذا المنزل، فقد أستيقظ من هذا الحلم.
وعندما أستيقظ، سأرجع لدوامة اليأس تلك.
وأجد نفسي في ندمٍ ما بعده ندم...
كلا، هذا ليس حلمًا.
محال أن يكون الحلم حقيقياً إلى هذه الدرجة.
لربما صدقت الأمر، لو أننا في عالم لعبة افتراضية ضخمة . ) VRMMORPG ( إنه عالم حقيقي.
عالم واقعي لا ضرب من الخيال.
هذا ما أخبر به نفسي.
رغم إدراكي لهذه الحقيقة، فأنا ما أزال عاجزًا على أن أخطو نحو الخارج.
مهما أضمرت العزم في قلبي وعاهدت بلساني، فجسدي يأبى الحراك.
أريد البكاء حقًا.
اختبار التخرج سيعقد خارج القرية.
صُعقت عندما أخبرتني روكسي بهذا، وفشلت في معارضتها.
“ في الخارج؟”
“ نعم خارج القرية. ولقد جهزت الحصان.”
“ ألا يمكنك إجراء الاختبار في المنزل؟”
“ لا.”
“ مستحيل…..؟”
لم أستطع أن أجمع شتات نفسي؛
فأنا أعلم في قرارة نفسي أنه ينبغي علي أن أخطو خارجًا.
يستحيل أن أستمر بالانطواء والعزلة في هذا العالم!
لكن جسدي يرفض، إذ يتذكر ما حدث آنذاك.
تلك الحادثة المشؤومة التي دفعتني للانغلاق على نفسي.
أشبعني المتنمرون ضربا حتى ملأت الكدمات جسدي، وسخروا مني حتى دُمرت نفسيتي وتحطم فؤادي.
“ ما الأمر؟”
“ لا… ولكن… قد تكون ثمة مسوخ سحرية في الخارج.”
“ يستحيل أن نصادف مسوخًا سحرية في هذه المنطقة ما لم نتوغل في الغابات. وحتى إن صادفناهم فهم ضعفاء وسأتولى أمرهم بنفسي. في الواقع، حتى أنت يا رودي بإمكانك التغلب عليهم.”
استغربت روكسي من محاولاتي في اختلاق الأعذار.
“ فهمت، أعتقد أنني سمعت بهذا. سمعت أنك لم تغادر المنزل من قبل يا رودي، أهذا صحيح؟”
“ آممم… نعم.”
“ أأنت خائف من الحصان؟”
“ لـ-لست خائفًا من الأحصنة وما شابهها.”
في الحقيقة، أحببت الخيول نوعًا ما.
وأيضًا كنت ألعب لعب سباق الخيل.
“ ههههه، أشعر بارتياح الآن. لديك تصرفات تناسب عمرك على غير العادة.”
روكسي أساءت فهمي.
لكني لا أريد إخبارها أنني خائف من الخروج.
الخوف من الحصان أهون وأقل إحراجا من الحقيقة.
عندي كبرياء.
مقدار ذرة من الكبرياء.
لا أريد أن تحتقرني هذه الفتاة الشابة.
“ حسنًا لا بأس، هياّ بنا.”
حملتني روكسي على كتفها فجأة بعد أن تسمرت في مكاني.
“ ماذا؟!”
“ ستتخلص من خوفك بسرعة إذا ركبته.”
لم أقاوم.
عزيمتي ضعيفة لذا فضلت أن أترك أمري بيدها.
أصعدتني روكسي فوق ظهر الحصان ومن ثم صعدت بدورها وأمسكت باللجام.
ثم بدأ الحصان بالمشي.
وهكذا غادرت المنزل.
هذه أول مرة أغادر فيها المنزل منذ مجيئي إلى هذا العالم.
اقتربت روكسي من القرية على مهل.
وبالطريق، لاحظت أعين القرويين ترمقنا من بعيد.
مستحيل.
جسدي يرتعش.
ما زلت خائفًا من نظرات الآخرين.
خصوصا، تلك النظرات الساخرة والمتمعنة.
بالطبع لن يضايقونا ويقذفونا بتعليقات ساخرة أو هذا ما أرجوه.
على الأرجح، لن يفعلوا.
فهم لا يعرفوني.
لا يعرفني في هذا العالم سوى قاطني منزلنا الصغير.
إذن لماذا تحدقون بي؟
كفوا عن التحديق، ارجعوا لمشاغلكم….
… لا.
إنهم لا ينظرون إلي.
أنظارهم متجهة نحو روكسي.
وبعضهم يلقي التحية على روكسي.
أوه، تذكرت.
سمعة روكسي طيبة في هذه القرية.
معروف أن العنصرية في هذا البلد شديدة على الشياطين.
ناهيك عن المناطق الريفية، والتي تكون فيه العنصرية بارزة أكثر.
لكن في غضون فترة قصيرة دامت سنتين، استطاعت روكسي أن تحظى بمكانة محبوبة عند الجميع.
إذا تفكرت بالأمر، روكسي شخص تعول عليه.
إنها تملك قرار نفسها والجميع يعرفها.
ولو انتقدوني بتعليق ما، ستدافع عني بلا شك.
….. هاه.
لم أظن أن تلك الفتاة التي كانت تختلس النظر إلى غرفة النوم مستمتعةً بما يدور فيها، هي في الواقع شخص يعولّ عليه.
خفّ إحساسي بالتوتر تدريجياً وذهبت مني الرعشة.
“ مزاج كلاجف جيد اليوم، إنه يشعر بالسعادة لأن رودي يمتطيه.”
كلاجف هو اسم الحصان.
طبعًا لا أفهم مزاج الحصن.
“ هكذا إذن.”
أجبتها بلا مبالاة مرجعًا رأسي، فلامست مؤخرة رأسي صدر روكسي المسطح.
كم هو مريح.
مما أنا خائف بالضبط؟
إنها قرية مسالمة، من عساه يضايقني؟
“ أما زلت خائفًا؟”
سألتني روكسي فهززت رأسي.
لم أعد أشعر بالخوف من نظرات الآخرين.
“ لا، أنا بخير.”
“ أرأيت، لا داعي للخوف.”
اطمأن قلبي.
وبدأت ألحظ الطبيعة من حولي.
حقول ومنازل على مد الأنظار.
أجواء ريفية.
أرى عددًا لا بأس به من الناس في القرية، إن تزايدت أعدادهم نسبياً فمن المحتمل أن تصير بلدة.
لو كانت هناك طواحين هوائية، لظن الناس أنها سويسرا.
أوه، ثمة طواحين مائية.
لاحظت الصمت السائد بعد أن هدأت نفسي. لم أعهد صمتًا كهذا برفقة روكسي.
لا أرغب أن أكون بهذا القرب منها ولو أنه ليس بأمر مكروه، إلاّ أنه محرج.
لهذا قررت بدء محادثة.
“ معلمتي، ماذا يزرع في هذا الحقل؟”
“ في الغالب، يُزرع قمح أسورا الذي يصنع منه الخبز، وتخصص مساحات قليلة لزراعة الخضروات وأزهار البارديوس، إذ يتم عصرها في العاصمة لاستخراج العطور، أما بقية المزروعات فهي ما تؤكل على المائدة.”
“ أوه، إنه ذلك الفلفل الأخضر التي تعجز معلمتي عن تناوله.”
“ لـ-لست عاجزة عن تناوله، إنما لست معتادة عليه.”
واستمريت في طرح الأسئلة.
أخبرتني روكسي اليوم أن هذا هو الاختبار النهائي.
مما يعني أن وظيفتها كمعلمة منزلية قد شارفت على الانتهاء.
روكسي غير صبورة، بما أن اليوم هو آخر يوم فمن المتوقع أن تغادر المنزل غدًا.
سأفرط في الحديث بما أن اليوم هو يومنا الأخير.
لكني لا أملك مواضيع مثيرة لأتحدث عنها لذا ظللت أسأل عن القرية ونحو ذلك.
بناء على شرح روكسي.
قريتنا اسمها بوينا، وتقع القرية في ولاية فتوى الشمالية التابعة لمملكة أسورا.
ويتألف سكان القرية من ثلاثين عائلة، أغلبهم من المزارعين.
لكل قرية فارس يتولى أمورها، وفارس هذه القرية هو باول.
تقتضي وظيفة الفارس مراقبة أوضاع المزارعين وفض نزاعاتهم وحماية القرية من الأخطار الخارجية كالمسوخ السحرية.
بالمختصر، حارس مفوضّ من المملكة.
ومع ذلك، يتولى حراسة القرية ثلة من الشبان ويتناوبون فيما بينهم.
فعندما ينتهي باول من جولاته الصباحية، يرجع إلى منزله في الظهيرة.
ولكونها قرية هادئة، فهي لا تحتاج إلى جهد كبير.
عند انتهاء حديثنا، انحسر عدد الحقول المحيطة بنا.
استهلكت كل ما في جعبتي من أسئلة، ودبّ الصمت من جديد.
مضت ساعة أخرى تقريباً قبل أن تختفي الحقول تمامًا عن أنظارنا حتى وصلنا لأراضٍ خضراء لم يطأها بشر.