الفصل 180: لقاء السَّلَف
كانت تريـنا قد أرسلت رسالة إلى زوجها تُخبره بما جرى في هذا اليوم.
عاد إيثان إلى المنزل، فرأى والده جالسًا إلى مائدة الطعام، وأمه تُقدِّم له الطعام بنفسها. كان كاديس يبتسم ابتسامة عريضة تكاد تبلغ أذنيه، بالكاد قادرًا على كبح فرحته. ومع ذلك، لم يذهب ليُزعج ابنه أثناء تدريبه عند البحيرة.
وما إن وقع بصره على إيثان، حتى ناداه قائلًا: "تعال يا بُني. كيف كان تدريبك؟ لقد أخبرتني والدتك بكل شيء."
ابتسم إيثان وقال: "كان جيدًا يا أبي. لكن لدي أمر آخر أود أن أخبرك به."
لمّا رأى كاديس ملامح ابنه الجادّة، بدا عليه شيء من الدهشة. "تحدث يا بني."
قال إيثان بهدوء: "قبل ذلك، أرجو أن تُنشئ حاجزًا؛ حتى لا يسمعنا أحد غيرنا نحن الثلاثة."
في تلك اللحظة تغيّر وجه كاديس، فقد أدرك أن الأمر خطير، وأن ابنه لا يتحدث عبثًا. على الفور أقام حاجزًا يحيط بهم. "والآن، تفضل بالحديث."
أومأ إيثان برأسه وقال ببطء: "يا أبي، حين أنهيت تعويذتي في سحر الفضاء، شعرت بأن بذرة قد تكوَّنت في بحر وعيي."
تفوه بالكلمات بتمهّل، وقد قرّر أن يُصارح والده، فهو واثق أنه سيساعده على الحصول على وحشٍ يتعاقد معه.
لم يستوعب كاديس ما سمعه للوهلة الأولى، لكن ما إن استقرّ المعنى في عقله، حتى نهض واقفًا بعينين متسعتين. أما تريـنا فقد وضعت يديها على فمها دهشةً وذهولًا.
حدّق كاديس في ابنه محاولًا أن يتأكد من صدق كلامه، ثم قال بصوتٍ يملؤه الترقّب: "قل لي إنك لا تمزح يا بُني!"
أجاب إيثان بجدية قاطعة وهو يومئ برأسه.
عندها انفجر كاديس ضاحكًا ضحكةً مدويةً: "هاهاهاهاهاها! لقد عادت الأمل لإمبراطوريتنا! سنبلغ القمة أخيرًا!"
ثم توقف فجأة وكأن خاطرًا جللًا تبادر إلى ذهنه، فأسرع نحو ابنه وسأله بجدية: "هل أخبرت أحدًا غيرنا بما حدث؟"
هز إيثان رأسه نفيًا. "جيد، ممتاز."
هتف كاديس بفرح عارم، ثم بعث برسالة ذهنية إلى القصر العتيق. وفي التو، انفتح جفن شيخ عجوز كان يتأمل في قصره البعيد، فاختفى من مكانه ليظهر في قصر تريـنا.
بمجرد ظهوره، انحنى كاديس وتريـنا احترامًا. "إنه لشرف لنا لقاء السَّلَف."
تجمّد إيثان من الدهشة، أهذا الرجل هو السَّلَف؟ نظر إلى أبيه بعينين مليئتين بالاستفهام، فأجاب كاديس وهو يشعر بالحرج: "يا بُني، السَّلَف هو الوحش المروِّض الوحيد في سلالتنا الملكيّة. اضطررت إلى استدعائه، فهو الوحيد القادر على إرشادك حق الإرشاد."
كان السَّلَف، إديان دي رايزل ، شيخًا متقدّمًا في السن، غير أنّ مهابته وجلاله يغمران المكان. كان يشعّ صمتًا يشي بعظمة وجودٍ فائق. فأدرك إيثان من أول نظرة أن هذا الرجل استثنائي حقًا.
فحيّاه قائلًا: "إنه لشرف لي أن ألتقي بك، أيها السَّلَف."
ابتسم إديان وقال بلطف: "لا حاجة للتكلّف يا إيثان، تعال إلي."
اقترب إيثان بخطواتٍ هادئة، فوضع الشيخ يده على كتفه وبثّ طاقته في جسده. سرعان ما لمح بذرةً في بحر وعيه، وقد سمح له إيثان برؤيتها وحدها. فلو لم يأذن له، لما استطاع أحدٌ أن ينفذ إلى باطنه.
ظلّ إديان واقفًا صامتًا، والدموع تنهمر من عينيه. لطالما خشي انقراض سلالته يومًا ما، لكن ها هو الأمل يعود من جديد بظهور مُروِّض وحوش في دمهم.
التفت إلى كاديس وقال: "أعِدّ لي غرفة هنا. أودّ أن أتحدّث مع إيثان ليلًا."
انحنى كاديس وغادر، وكذلك فعلت تريـنا.
ثم نظر إديان إلى حفيده وقال: "اجلس يا بُني، لدينا الكثير لنقوله."
جلس إيثان، وجلس الشيخ إلى جواره وبدأ الحديث: "إن جنس البشر يعيش في قارة واحدة من عالم السحرة، بينما يضمّ هذا العالم عشر قارات.
لقد استحوذ كل من جنس التنانين والشياطين على قارتين. وكذلك الأرواح على قارتين. أما الإلف فلهم قارة واحدة. وكذا أنصاف البشر قارة واحدة. والأقزام قارة واحدة.
أمّا القارة البشرية، ففيها عشرة آلاف وثلاثمئة واثنتان وأربعون إمبراطورية . وتنقسم الإمبراطوريات وفق تصنيف النجوم من نجمة واحدة إلى خمس.
وإمبراطوريتنا، لوكيدونيا، لا تتجاوز نجمة واحدة. ويُحدَّد هذا التصنيف بعدد مُروِّضي الوحوش فيها ومستواهم، إضافةً إلى قوة قتالهم والوحوش المتعاقدين معها. ومن هنا تُدرك مدى ندرة المُروِّضين وقيمتهم، فهم وحدهم القادرون على مجابهة الشياطين والتنانين وجهًا لوجه."
صمت الشيخ قليلًا ليمنح إيثان فرصة استيعاب ما قيل. كان الفتى يُصغي بكل تركيز.
ثم سأل: "أيها السَّلَف، أين يمكنني أن أحصل على وحشٍ مناسب للتعاقد معه؟"
أطال إديان النظر إليه قبل أن يجيب: "هناك سرّ لا يعرفه سوى علية القوم من البشر، سأكشفه لك الآن. لدينا منفذ إلى عالم غامض نُسميه
العالم الأصل
بعد عشرة أيام ستُفتح بوابة ذلك العالم. كل من بلغ مرتبة السَّلَف وما فوقها يمكنه دخوله ومعه شخص واحد. وسآخذك معي."
أفرغ الشيخ في سمعه كمًّا هائلًا من المعلومات، فتلقّاها إيثان رويدًا رويدًا.
فسأل: "هل تشرح لي أكثر عن هذا العالم الأصل، وعن معنى مرتبة السَّلَف؟"
فأجاب الشيخ بهدوء: "مرتبة السَّلَف تعلو مرتبة الأرش، وهناك مراتب أخرى: الأسطوري، الملحمي، ثم الميثيقي. وحدهم من يبلغون الأسطوري فما فوقه يستطيعون دخول العالم الأصل، إذ إن غيرهم يعجز عن احتمال ضغط الصدع الفضائي.
وستفهم أكثر عندما تراه بعينيك. أمّا الآن، فخذ هذه الكتب التي ألّفتُها أنا وكبار مُروِّضي الوحوش من قبلي. اقرأها جيّدًا، واكتسب من المعرفة ما تستطيع قبل دخولنا إلى العالم الأصل."
تناول إيثان الكتب بفرح، وانطلق مسرعًا نحو المكتبة. لقد كان ينوي أن يُدرّب سيفه في تلك الليلة، لكن خطته تغيّرت؛ فقد باتت كتب فنون ترويض الوحوش أولى بالقراءة. إذ إنّ امتلاك المَلَكة أسمى من أي تدريب آخر.