نهاية العالَم
عام 2263م، أمريكا الشمالية، وبأحد الجبال، توجد منشأة سرية من مختبرات متشعبة ومنتشرة كعش نمل. لم تكن سوى منشئة أستيريا لأبحاث غزو النجوم، أحد آخر المنشئات التي استطاعت الحفاظ على وظائفها منذ الكارثة النووية، أو هذا فقط حتى الآن.
[تنبيه لجميع العاملين: نواة مفاعل الاندماج خرجت عن السيطرة، ولم يعد الاحتواء ممكنًا. نطلب من الجميع الإخلاء فورًا].
[أكرر لجميع العاملين: نواة مفاعل الاندماج خرجت عن السيطرة، ولم يعد الاحتواء ممكنًا. نطلب من الجميع الإخلاء فورًا].
كان هذا الصوت الميكانيكي يتكرر داخل المنشأة منذ سبع ساعات حتى الآن، لكن لم يكن هناك شخص واحد ليستمع؛ إذ إما ماتوا أو هربوا بالفعل منذ سنوات مضت، وللأسف لم يكن هناك أحد بينهم لإغلاق قلب المنشأة حينها كي لا تحدث الكارثة الوشيكة.
في أعماق المنشأة وفي آخر طابق تحت الأرض، كانت درجة الحرارة تصل إلى مئتي درجة مئوية بالفعل. في غرفة ضخمة، كان هناك جسم كروي الشكل محاط بركائز معدنية وأنابيب مختلفة، لكن كل شيء حوله كان يشع بالأحمر من شدة الحرارة.
كان هذا مفاعل الاندماج النووي، وعلى عكس مفاعلات الانشطار المعروفة، فهو أفضل مئة مرة في إنتاج الطاقة، ولكنه أخطر بكثير أيضًا؛ فطريقة عمله مماثلة لما يحدث في قلب النجوم. لذا، كانت هناك آليات حماية مختلفة، ولكن لسبب ما لم تكن تعمل، حتى أن الاندرويد المسؤولين عن مراقبته من غرفة التحكم الخاصة به كانوا ينظرون فقط دون اتخاذ أي إجراءات كما لو انهم لا يلاحظون المشكلة امامهم، بينما هيكلهم الخارجي كان ينصهر بالفعل نتيجة الحرارة.
أمام أعين الاندرويد التي تراقب فقط دون اتخاذ أي قرار، بدأ الهيكل الكروي بالتشقق لتخرج منه ألسنة لهب تشبه الوهج الشمسي، تذيب كل ما تضربه.
فجأة، وبدون أي إنذار، انفجرت الكرة المعدنية السميكة كما لو كانت قشرة بيضة ضعيفة؛ وللحظة واحدة، يمكن رؤية شمس تتوهج وتشع بحرارة تصهر وتبخر كل ما حولها.
"بووووووووم".
صوت مدوي سمع بالقارة بالكامل وضوء اخترق الجبل صعودا للسماء مع انفجار هائل يجعل حتى الانفجارات النووية صغيرة امامة، الجبل الشامخ والعظيم بالسابق لم يعد له وجود والانفجار الهائل تسبب بعاصفة من الثلج والصخور التي كونت الجبل بالسابق لتتطاير بكل مكان.
منذ حوالي خمسون عام، دخلت الأرض حقبة جديدة من التقدم العلمي؛ إذ شهدت ظهور ذكاء اصطناعي عام لخدمة البشر، ومحطات اندماج نووي لإنتاج طاقة نظيفة، وترقيات جينية ضاعفت متوسط عمر البشر، وروبوتات بمختلف الاشكال والوظائف. وأخيرًا، ظهرت محركات الاعوجاج النجمية، ورغم عدم اكتمالها، كانت بداية دخول الحضارة البشرية مرحلة استعمار النجوم – أو هكذا اعتقدوا.
إذا كنت تحكم دولة عظيمة ومحاصرًا على الأرض مع دول عظيمة أخرى تمنعك من الحصول على السيادة، لكن رغم ذلك استطعت بناء توازن معها، ثم اكتشفت فجأة أن هذا التوازن على وشك الانهيار، فماذا ستفعل؟ لا يوجد سوى الفوضى بتلك الحالة.
أول دولة ستبني محرك اعوجاج نجمي متكامل وترسل أسطولًا من السفن الفضائية لاستعمار النجوم كانت، بلا شك، ستحصل على السيادة المطلقة على الأرض. فبعد كل شيء، لم تعد مقيدة بالأرض ومحاصرة مع البقية. ولذلك، كانت الدول المختلفة على استعداد لفعل أي شيء لتكون الأولى في تحقيق المشروع.
شراء العلماء والباحثين ، الضغط على الدول الأخرى وفرض قيود وضرائب لقمعها ومنعها من التقدم بأبحاثها، الغزو السيبراني لسرقة أبحاث الدول الأخرى أو حتى إتلافها، إرسال قوات خاصة للهجوم على المختبرات مباشرة.
مر الوقت ولم تتوقف المؤامرات، لدرجة أن كل دولة أصبحت تركز على منع الدول الأخرى أكثر من تركيزها على نموها الخاص في الأبحاث المتعلقة بالمشروع. أخيرًا، بعد ظهور شائعات مختلفة بأن بعض الدول نجحت بالفعل، دقّت ساعة الصفر.
"إذا لم تكن دولتي الأولى، فلن أسمح لأحدٍ آخر بفعلها"، كانت هذه كلمات أول من ضغط على زر الجحيم.
بعام 2229م، امتلأت السماء بعشرات الآلاف من الرؤوس النووية، خرجت من مختلف الأماكن وضربت مختلف الاماكن، محولةً سطح الأرض ليشبه القمر من كثرة الحفر التي غطّته.
حسنًا، لقول الحقيقة، فإن الطرق القذرة التي استخدمتها الدول المختلفة دون قيود لعرقلة بعضها البعض أتت بجانب مشرق بعد الكارثة.
كانت هناك عبارة مشهورة لوصف ذلك: "داخل اليأس، هناك أمل." يمكن القول أن التقدم العلمي والحرب المستمرة جعلا الأرض بأكملها تنمو وتتكيف مع بيئة تزداد صعوبة بسرعة كبيرة.
أحد الأمثلة على ذلك هو فيروس أطلقته إحدى الدول على دولة أخرى "عن طريق الخطأ"، مما تسبب في انتشاره في جميع أنحاء العالم.
على الرغم من كونه ضارًا لأشكال الحياة الواعية مثل البشر، إلا أنه كان مفيدًا لأشكال الحياة البسيطة مثل الحيوانات والنباتات، مما ساعدها على التطور بسرعة والتكيف مع الزيادة الهائلة في الإشعاع والتغير المناخي الحرج، رغم تحولها إلى وحوش حرفيًا.
في النهاية، وبسبب الكارثة النووية والكوارث التي تلتها، انخفض عدد البشر من المليارات إلى عشرات الملايين. نتيجة لذلك، اختفت الحضارة وقرر الناجون تسمية أنفسهم بالبشر. لم يعد هناك أمريكيون، لم يعد هناك أوروبيون، لم يعد هناك آسيويون، لم يعد هناك أفريقيون. فقط البشر.
"فووووووو".
مع صوت الرياح الشديد بالممرات بأحد الأجزاء الناجية من المنشأة يمكن رؤية مختبر مظلم، بالطبع إذا كنت تستطيع الرؤية بالظلام الدامس، وبمنتصف المختبر كبسولة داخلها شكل لبشري في حالة سكون، أو شيء يشبه البشري.
داخل الكبسولة، كان هناك شاب يبدو في العشرينات من عمره. لكن كانت هناك العديد من العلامات غير البشرية عليه.
امتلك قرنين أسودين على رأسه، ومن يديه وحتى المرفق كانت هناك حراشف سوداء تغطي ذراعيه كما لو كانت درعًا.
كان يمتلك أيضًا ذيلًا حرشفيًا طويلًا ومرنًا، ورغم كل ذلك، فقد امتلك جمالًا وحشيًا جذابًا. فيما يبدو أن من صمموا شكله أرادوا أن يمتلك القدرة على الاختلاط بالبشر دون أن ترعبهم تلك الإضافات.
على رأس الكبسولة، كان هناك مصباح ليد صغير يضيء بلون أحمر خافت، تغير اللون إلى الأخضر، مما جعل الغلاف الزجاجي للكبسولة يضيء ببعض الكلمات الزرقاء مع مؤشرات حياة كانت صامتة كما لو ان صاحبها ميت. ثم بدأت تظهر علامات النشاط لتكشف أن الشخص داخل الكبسولة بدأ بالخروج من حالة السكون. عندها، مع صوت تسسس خافت، فتح الغلاف الزجاجي مع اختفاء الأضواء الزرقاء عليه.
لبضع ثوانٍ، كان الوضع صامتًا. فجأة، فتح ذلك الشخص عينيه اللتين تمتلكان حدقة حمراء قرمزية مع هالة ذهبية خافتة حول البؤبؤ العمودي مثل القطط، والذي كان يتسع بالفعل في محاولة للحصول على أي ضوء للرؤية في الظلام المحيط.
بدأ الشاب بالجلوس ببطء على السرير المبطن بالكبسولة، ومع كل حركة كان يسمع صوت طقطقة عظام.
قام الشاب بالتمدد وهو يتثاءب كما لو كان يستيقظ من النوم، مما تسبب في طقطقة كل فقراته ومفاصله التي بدأت الاستعداد للعمل بعد السكون الطويل.
حاول النظر حوله، أو بالأصح فحص المنطقة حوله. كان الظلام دامسًا ولم يكن هناك أي ضوء، لكن رغم ذلك امتلك الشاب العديد من الطرق لفحص محيطه.
عيناه كانتا تستطيعان الرؤية بالأشعة تحت الحمراء والفوق بنفسجية والأشعة السينية. كما أن قرنية لم يكونا للزينة، بل كانا يهتزان بشكل خافت لا يمكن رؤيته كما لو انهم شوكة رنانة مع اصدار موجات كهرومغناطيسية وموجات صوتية تسمح له بفحص المنطقة مثل الخفاش. بالتالي، فالظلام لم يمنعه مطلقًا من رؤية الغرفة كما لو كانت مضاءة، غير أنه لا يمكن رؤية الألوان، حيث إنها تعتمد على الضوء.
لن ينكر أنه استخدم الكثير من قدراته للكشف، لكن هذا طبيعي بالنسبة لشخص استيقظ للعالم لأول مرة ليجد فقط الظلام الدامس يحيط به. لقد كان خائفًا.
قام الشاب بالنهوض من الكبسولة والوقوف ليكشف جسده الأقرب للكمال من كونه بشريًا بعيوب. عضلات محددة ليست متفجرة أكثر من اللازم، وطول يصل إلى مئة وتسعين سنتيمترًا كاملًا. هالة واثقة تحيط بكل حركة منه رغم قلقه من البيئة المحيطة. كان هذا طبيعيًا، فرغم تصميمه لمحاكاة البشر، فهو لم يكن بشريًا من البداية.
نظر الشاب إلى الكبسولة، وبنفس الوقت فحص السجلات في ذكرياته التي تحمل التقدم العلمي للحضارة البشرية من تسخير النار لأحدث التقنيات المسجلة بتلك المنشئة، وعندها وجد كل المعلومات عن الكبسولة، لذا قام بمد يده ونقر بإصبعه على غلاف الكبسولة الذي أغلق حالما نهض، لتظهر كلمات زرقاء جديدة على الغلاف الزجاجي.
نقر على كلمة "سجلات"، التي يفترض أن تظهر سجلات كل من استخدموا الكبسولة، بمن فيهم هو.
بالفعل، كانت هناك خانة واحدة فقط ظهرت، مما يعني أنه كان الوحيد الذي دخل تلك الكبسولة أو تم وضعه بها. لم يكن يعلم، فهو لا يمتلك أي ذكريات قبل استيقاظه، كما لو أنه وُلد الآن فقط.
"فيكتور، منتصر، هل هذا اسمي؟" قال الشاب وهو يقرأ الاسم في الخانة، وقد كانت هذه المعلومة الوحيدة هناك.
لقد كان وعيه عبارة عن ذكاء اصطناعي متفرد، أي بوعي حر مثل الكائنات الحية. كما أن جسده هو أحدث فئات السايبورغ، والتي ليست مجرد ربط بين أعضاء حيوية وأجزاء ميكانيكية، بل تكامل على المستوى المجهري، مما يجعله أقرب لكائن حي خارق. هذا كل ما كان يعلمه عن نفسه. هدفه، لماذا صُنع، لم يمتلك أي فكرة.
ذهب الشاب إلى جهاز حاسوب في المختبر، لكن عندما حاول تشغيله لم تكن هناك فائدة. لذا، قام بفصل قابس الكهرباء وأمسكه بيده اليسرى، ثم وضع أصابعه على الأقطاب المعدنية الثلاثة. عندها بدأت الفواصل بين حراشف يديه بالتوهج بضوء أزرق خافت، ثم عاد الحاسوب إلى الحياة وبدأ بالعمل.
قام الشاب بفحص سجلات الحاسوب، وبالفعل وجد الملف الخاص به. لم تكن هذه مصادفة، فهو استيقظ في مختبر، وبما أنه ليس بشريًا، فهو بالتأكيد أحد مشاريع المختبر. لذا، يفترض أن تكون هناك سجلات عن المشروع في الحاسوب الوحيد الموجود.
ضاقت عينا الشاب وهو يقرأ السجلات، أخيرًا وجد الهدف من وجودة، لكن لم تكن هناك أي فرصة له لتحقيق هذا الهدف.
كان هذا المختبر يهدف لصناعة كائن متفوق لغزو أقسى الكواكب بيئة، ولكن من سجلات الشاب، فقد توقفت كل مشاريع غزو الفضاء بسبب الكارثة، مما يعني أنه لا يمتلك أي هدف.
"لا يوجد هدف، ماذا أفعل الآن؟"، قال الشاب وعيناه قاتمتان، ثم نظر إلى الكبسولة وقد أتته فكرة الرجوع للنوم.
فجأة تألقت عيناه، إذا لم يعطني أحد هدفًا، لماذا لا أقوم أنا بالعثور على واحد بنفسي؟ رغم أن وعيه كان مصممًا للعمل كالروبوتات الأخرى عن طريق الطاعة المطلقة لمصمميه والمهمة، إلا أنه منذ أن كان في حالة سكون لمئات السنين، وكان عقله يتطور ببطء، والنصف الذي يحاكي الوعي الحر ينمو أكثر.
أخيرًا، وبعد اكتشافه أنه لم يعد هناك غاية من وجوده، سيطر عليه الجزء الحر وأصبح وعيه إنسانيًا بالكامل.
بالنسبة لهدفة الرئيسي الجديد؟ اكتشاف الذات.