نهض تشاي و توجه الى غرفته

‎جلس في الزاوية المظلمة من الغرفة، والنور الباهت من المصباح المرتعش بالكاد يلامس وجهه. صمت كثيف خيّم، حتى خُيّل له أن الظل أمامه يتحرك… ثم سمع الصوت:

‎الظل: لماذا تبكي؟ ألم تختر هذا الطريق بنفسك؟

‎تشاي (بصوت خافت): لم أختر شيئًا… أنا فقط كنتُ طفلًا يبحث عن معنى، فوجد السلاح بدل القلب.

‎الظل: المعنى؟ هاها… لا أحد يمنحك معنى. إمّا تصنعه، أو تُسحق تحت قدم من يصنعونك.

‎تشاي: كنت أظن أنني قوي، أنني أقف بقراري، أن الدم الذي أريقه مبرّر... لكنّي أكتشف الآن أنني كنت أهرب فقط.

‎الظل: تهرب ممن؟

‎تشاي (بمرارة): من نفسي. من الشعور بالعجز حين خطفت آني. من خوفي أن أكون ضعيفًا، أن أعيش حياة عادية لا تعني شيئًا لأحد.

‎الظل: وهل تظن أنك الآن تعني شيئًا؟ قاتل مأجور، أداة تُستخدم، ثم تُرمى.

‎تشاي: لا تقلها... لا تقلها…

‎الظل: بل اسمعها. أنت لا تبكي من الألم، بل من الفراغ.

‎تشاي (مغلقًا عينيه): الفراغ داخلي يبتلع كل شيء. أكلت، شربت، قتلت، وانتقمت… ولم أملأه.

‎الظل: لأن الفراغ لا يُملأ بأفعالك… بل بما تفقده.

‎كل ما تفقده يُخزّن في الداخل، يصبح هوّة... حتى تنظر لنفسك ولا تجد ملامح.

‎تشاي (بهمس): أريد أن أختفي.

‎الظل: لا يمكنك.

‎تشاي: إذًا أريد أن أُعيد الزمن... لأختار شيئًا آخر.

‎الظل: الزمن لا يُعيد نفسه، لكنّك تستطيع أن تموت بطريقة مختلفة.

‎تشاي (رافعًا رأسه): الموت... هل هو الخلاص؟

‎الظل: لا. هو فقط نهاية حكاية لم يُفهم معناها.

‎تشاي: إذًا... ما المعنى؟

‎الظل: أن تُقاوم حتى وإن كنت خاسرًا. أن تُحب حتى بعد الخيانة. أن تخلق من كل جرحٍ قصيدة، ومن كل صرخةٍ صمتًا متماسكًا. أن تمشي وسط الخراب وأنت لا تزال تُصدق أن هناك ضوء في مكان ما.

‎تشاي (بصوت مرتجف): وإن لم أعد أصدق بشيء؟ و أصلا انا لم اعد اشعر بشيء

‎الظل: حينها... اصنع إيمانك بيدك. حتى لو كان كاذبًا.

‎فالكذبة التي تُبقيك واقفًا… خير من الحقيقة التي تجثو بك للأبد.

‎نهض تشاي من السرير ببطء، كأنّ ثقلاً خفيًا يسحب أطرافه نحو الأرض. سار نحو الشرفة، فتح الباب الزجاجي، ووقف هناك، عارياً من كل فكرة إلا التأمل.

‎السيارات تمضي بلا اكتراث، والناس تتزاحم كأن لا أحد منهم يحمل عبئاً سوى هو.

‎همس لنفسه بصوت واهن:

‎– لم يعد هناك متّسع من الوقت... أشعر أنّ شيئًا بداخلي يتآكل.

‎الأليُون... بدأ يهيمن على جسدي. كأنني أفقد آخر ذرات إنسانيتي.

‎صمت، ثم تابع:

‎– الماضي... لم يعد مهمًا. العائلة؟ الاسم؟ كلّه رماد.

‎سأرسم طريقًا جديدًا، لا أحد فيه سواي. لا ذاكرة، لا ألم، فقط المستقبل... بلا جذور.

‎أطرق برأسه. الدموع بدأت تنحدر من عينيه، لا عن ضعف... بل كأنها تنزف.

‎ثم بصوت مخنوق، كأنّه يتكلم مع شبح:

‎– لكن... لماذا لا تختفي صورتها؟

‎كلما نمت، أكلت، حتى عندما أذهب إلى المرحاض... آني.

‎لماذا أراكِ في كل تفصيلة من حياتي؟

‎أليست مشاعري قد تآكلت؟

‎أليس من المفترض أن أكون مجرد سلاح؟ فلماذا لا تزالين تربطينني بهذا الخيط؟

‎رفع يديه إلى وجهه، ضغط على عينيه، وكأنّه يريد اقتلاع الذكرى.

‎– لماذا كنتِ المرأة الوحيدة في عالمي؟

‎لماذا رحلتِ؟ لماذا تركتِني في هذا العالم القذر؟

‎أنا لا أريد أن أكون قاتلًا، لا أريد هذه الدماء، هذا الطريق...

‎ثم ابتسم بسخرية حزينة، وتابع بصوت متقطع:

‎– كنت فقط... أريد أن أتزوجك.

‎ننجب طفلًا صغيرًا، أُعلّمه كيف يضحك، كيف يعيش.

‎أشتري سيارة، أذهب بها لآخذه من المدرسة... وأنتِ تنتظريننا في المنزل، بطعام دافئ...

‎بيت بسيط، حياة عادية... فقط أنتِ وأنا.

‎رفع رأسه أخيرًا، لم تعد الدموع تنزل، بل تحوّلت عينيه إلى جمرة:

‎– لكن كل هذا... محاه أكاي في لحظة.

‎دمّر الحلم، وسحق الحقيقة.

‎لا، ليس فقط أكاي... بل أنا.

‎أنا من سمحت لهذا أن يحدث.

‎أنا من قتل نفسه يوم اختار أن يكون قاتلًا، لا طبيبًا.

‎شدّ قبضته حتى ابيضّت أصابعه، ثم تمتم بصوتٍ مغمور بالغضب:

‎– لن أسامحك، أكاي...

‎سوف أقتلك، ثم أشرب دماءك، كي لا يبقى في هذا العالم شيء يحمل اسمك.

‎في داخل الغرفة

‎جلس بان على طاولة خشبية قديمة، أمامه طبق ملون بالفواكه، حلوة ومرة، كحياته ذاتها. رائحة البرتقال والياسمين تتسلل إلى أنفه، لكنه لم يكن يشعر بها، أو ربما اختلطت برائحة الذكريات التي تعج في رأسه، تثير ضحكته المريرة وأحيانًا تأوهاته الخفية.

‎التقط قطعة تفاح، عض عليها ببطء، وكان صوت قضمته أشبه برنين سيف يقطع هدوء غرفة ملبدة بالغبار.

‎حسناً، أظن أنني لم أعرف نفسي بعد.

‎هكذا بدأ الحديث مع ذاته، بصوت كأنه يرتجف لكنه يحاول أن يخفيه، يخاف أن يسمعها الآخرون، لكن هنا لا أحد سمع سوى ظلاله.

‎أنا بان أودجين.

‎توقف قليلاً، وكأنه يردد اسمه كما لو كان يعيد ترتيب قطعة بازل معقدة.

‎عجوز متعجرف.

‎ضحك من أعماقه، ضحكة سوداوية تكاد تخنقه.

‎أول شخص من عائلتي، ذلك الجبل العظيم، الذي يملك قلب قاتل...

‎تنهد، ذاك القلب الذي نبض في ليلة لا تُنسى، قبل خمسة وعشرين عاماً، حينما أغلق على أنفاس رجلٍ كان يُعتبر زعيم مقاطعة ناها، "رئيس" كما يسمونه هناك

‎قتلته.

‎كلمة وحشية لا تعرف الرحمة، حكاية دمٍ جرت على يديه، ودفع لها الكثيرون من دماء وأرواح، وسخريات الزمن.

‎ابتلع قطعة من البرتقال، وطعم الحموضة انفجر في فمه، وجعل وجهه يشوه بابتسامة لا تخلو من تحدٍ.

‎لقد دافعت عن مكاني... دافعت عن اسمي...

‎نظر إلى الفاكهة أمامه، ثم بدأ يستعيد الماضي كما لو كان فيلمًا قديمًا، يظهر بطلًا ومشاهدًا دموية، تتناثر فيها الألوان وكأنها حروب داخلية لم تنته.

‎ولم يكن ذلك كافياً.

‎ضاجعت كل نساء اليابان آنذاك...

‎هتف بذلك بغرور كبير، كأنه يملأ جوفه بالنار أو السُم.

‎لكن فجأة، في لحظة جنون لم أتوقعها، جاءت هي.

‎أغمض عينيه قليلاً، يحاول أن يستدعي ذاك الوجه الذي لا يريد أن يراه.

‎امرأة تدعى أوڨا، من فرقة تلك المنظمة الإفريقية.

‎ابتسم ابتسامة بلا فرح، ابتسامة من نوع أولئك الذين فقدوا الأمل في كل شيء.

‎لماذا؟

‎لماذا تريد قتلي؟ لماذا هذه الكراهية؟

‎نسيت سببها، أو ربما لم يكن هناك سبب.

‎الأغرب أنها كذبت.

‎زعمَت أنني قلت إن عائلة أودجين متورطة في جريمة

‎ضحك من جديد، لكنه كان ضحك الرجل الذي أصبح مهرجًا في مسرح العالم.

‎لكن هل يهم ذلك الآن؟

‎تراجع في الكرسي، كأن أعباء السنين بدأت تثقل ظهره.

‎تشاي...

‎أخذ نفسًا عميقًا وهو يهمس بالاسم، كأنه يخشى أن ينطق به بصوت مرتفع.

‎ذلك الفتى.

‎قوي، قوي جدًا.

‎يمتلك مهارة من الأساطير...

‎"لا أعرف كيف تعلمها، هل ولد معها؟

‎ آه نسيت إيفا.

‎رفع عينيه إلى سقف الغرفة، كما لو كان يبحث عن إجابته بين عوارض الخشب المتشققة.

‎لعنتها.

‎لقد فعلت شيئًا ليس فقط بذاكرتي، بل بذاكرة كل أعضاء أودجين.

‎منعتهم من قول الحقيقة.

‎توقف عن مضغ الفاكهة للحظة، ثم واصل بنبرة مملوءة بالثقة والهدوء المشوب بالغضب:

‎لكن بعد أن أنهي مهمتي هذه، سأبحث عن..

‎"تلك الشمطاء اضنها انها بقيت في اليابان فكتوريا''

‎كلمة واحدة، لكنها محملة بكل مشاعر الغضب والانتقام، أداة تكسير لعنة إيفا.

‎سأكسرها، مهما كان الثمن سأسترجع ذكرياتي كلها .

‎لم أعد ذلك الرجل الذي كان يحكم من خلف الستار.

‎لم أعد ذلك الوحش الذي يأكل كل شيء بلا رحمة.

‎لكن هناك شيء ما... في قلبي... ينبض بعدم الرضا.

‎عدم رضا لا أعرف مصدره.

‎التقط حبة عنب، ضغطها بيده حتى تساقطت عصارتها على الأرض، كقطرات دم تسيل في خندق حرب لا نهاية له.

‎في النهاية، كلنا نُقاد بظل أشخاص لم نرهم أبدًا.

‎وهذا الظل... هو إيفا.

‎رفع رأسه، نظرة مليئة بالدهشة واليقظة، كمن يتأمل عدوًا مخفيًا في الظلام.

‎ربما...

‎ربما لم تكن مجرد لعنة.

‎ربما كانت خطة... شبكة معقدة من الخداع والتضليل.

‎وأنا في مركزها.

‎ضحك مرة أخرى، ضحكة حادة كطعنات السكاكين، لا تحمل سوى ألم وفقدان.

‎"ولكن لا يهم، سأقف في وجه هذا العالم، سأحطم كل من يعترض طريقي."

‎كان ينظر إلى طبق الفواكه أمامه كما لو أنه مرآة تحكي قصة حياته، كل قطعة تحمل طعمًا مختلفًا من الألم، من القوة، من الخيانة.

‎أنا بان أودجين.

‎عجوز، قاتل، وحيد.

‎لكنني...

‎لن أكون الضحية بعد الآن.

‎أدار رأسه ببطء نحو النافذة، حيث بدأ ضوء الغروب يلون السماء بلون دموي، وكأن العالم كله يودع يومًا من أيام القتال الذي لا ينتهي.

2025/08/09 · 5 مشاهدة · 1368 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025