نفق القيامة
يجلس بيوم فوق صخرة تطل على مختبر نفق القيامة ،، بعيد عن الموقع3 كلم فوق جبل صخري ضخم
( منظور بيوم)
أنا بيوم… بيوم الأحمق.
أجلس الآن على صخرة شاهقة، الصخور من حولي سوداء متآكلة كأنها عظام جبل مات قبل آلاف السنين، والريح تصرخ في أذنيّ وكأنها تحذرني: “ارحل… هذا المكان ليس لك.”
لكن… من أنا لأسمع كلام الريح؟ أنا الذي لا يسمع حتى كلام عقله.
من هنا، أرى المختبر، أشبه بجرح معدني في قلب الأرض، جدرانه تعكس ضوء القمر في خطوط باردة، وحوله أسوار من الفولاذ تلمع كأنها أسنان وحش ميكانيكي. يبعد عني ثلاثة كيلومتر، نعم… ثلاثة. ستقول: “لماذا تراقبه من هذا البعد؟” سأقول: “حتى الظلال تحتاج مساحة للتنفس.”
في البوابة الأمامية يقف اثنان من الحراس. ضخمَان… أقسم أن صدورهم تكاد تلد خوذات جديدة من كثرة العضلات. يرتدون سترات خضراء، كمامات حديدية، ونظارات أشعة. شيء ما فيهم يذكرني بمحاربي الفايكنغ… لكن نسخة مستقبلية، نسخ مطوّرة من رجال وُلدوا للقتل فقط.
لا بأس… أنا أحب الرجال الأقوياء، ليس إعجابًا، بل لأنهم يبدون أجمل وهم يتفتتون.
المختبر محاط بكاميرات في كل زاوية… أي خطوة للأمام وسيتحول اسمي إلى “هدف مطلوب القبض عليه فورًا.” وهنا تأتي لحظة الندم. باين، صديقي المبرمج… لا، صديقي الكارثة، عرض علي أن يغلق الكاميرات بالكامل. رفضت. لماذا؟ لأنني أحيانًا أحب التعقيد، أحب أن أختبر نفسي في أصعب الظروف. أو ربما لأن عقلي في ذلك الوقت كان مشغولًا بالبحث عن قطعة بسكويت في جيبي… لا أتذكر.
الآن، أسأل نفسي: “ما الذي جئت أفعله هنا أصلًا؟ فمن المستحيل ان أجد أحد الأعضاء عصابة هنا ”
ثم أجيب: “الفضول… الفضول القذر الذي يضع الناس في القبور.”
كنت أريد أن أعرف ماذا يفعلون بالجثث التي يستخرجون منها الأعضاء… عادة يسمونها “القمامة”. كم يليق هذا الاسم بالمكان!
الفكرة كلها لم تكن تجسسًا، كنت أريد المشاهدة فقط، كطفل يتفرج على مسرحية دموية خلف الستار. لكن… أعرف نفسي، إذا قبضوا علي، سأحرق المكان بمن فيه. حينها، ستعرف عصابة الثعالب أنني أتيت للقضاء عليهم، وسيختفون مثل الفئران… لا، مثل أشباح الفئران.
لكن الأمر لا يخيفني. سمعت أن تشاي قادم معي. وتشاي… آه… تشاي ليس مثلنا، هو أقرب إلى لعنة تمشي على قدمين. حتى لو اختبأوا في بطن حوت، سيجدهم… وسيقتل الحوت معهم.
أمسك حجرًا صغيرًا من جانبي وأرميه في الهاوية. أراقب كيف يتدحرج ويختفي في الظلام. كم أتمنى أن أكون الحجر الآن، بلا عقل، بلا قرارات غبية، بلا أصدقاء أغبى.
لكن بدلاً من ذلك، أنا هنا، أراقب اثنين من الفايكنغ الميكانيكيين وهم يغيرون وضع وقوفهم كل دقيقة، كأنهم آلات مُبرمجة على الروتين القاتل.
صوت في رأسي يقول: “انزل… اقترب… اكتشف السر.”
صوت آخر، أكثر حكمة (وأكثر خوفًا)، يقول: “ابقَ هنا… وراقب… لا تتحرك.”
لكن الأصوات في رأسي لم تعد تُدار بالديمقراطية، الأصوات الأقوى دائمًا تفوز، والأقوى الآن هو الفضول.
أضع نظارتي المكبرة على عينيّ وأبدأ بمسح المكان. أرى مدخلًا جانبيًا، ليس محروسًا… لكنه مزروع بكاميرات صغيرة الحجم، شبه مخفية، وكأنها عيون ثعالب حقيقية.
أعرف أن عبور هذا المدخل ممكن… لكن سيكون عليّ أن أتحرك كأفعى، ببطء قاتل.
أتذكر شيئًا… ليلة أمس، عندما كنا في الحانة، باين قال لي: “لو أردتَ دخول المختبر، عليك أن تعرف شيئًا… كاميراتهم ليست فقط للصور، بل تلتقط الحرارة أيضًا.”
ضحكت وقتها وقلت: “جيد… سأدخل عاريًا كالأشباح.”
لكن الآن… لا أجد الأمر مضحكًا.
أستلقي على الصخرة وأغمض عيني، أتنفس بعمق، أسمع نبضات قلبي، أحاول أن أقرر. وفي لحظة الصمت تلك… أسمعها.
خطوات. ليست خلفي… بل على بعد أمتار قليلة مني، فوق نفس الجبل.
أفتح عيني بسرعة وألتفت… لا أحد.
لكنني أعرف… هناك أحدهم.
أخفض صوت أنفاسي، أمد يدي نحو السكين الصغيرة في حزامي، وأبقى ساكنًا كتمثال. الريح تزداد قوة، الغيوم تغطي القمر، الظلام يزداد كثافة
اختفى بيوم من فوق الصخرة كما يختفي الظل عند شروق الشمس، بلا مقدمات، بلا حركة تمهيدية… فجأة لم يعد موجودًا. وفي جزء من الثانية، كانت قدماه تمزقان الأرض بسرعة لا يمكن لعين بشرية تتبعها. الهواء انفتح أمامه في خط مستقيم نحو المختبر، وأصداء اندفاعه ارتطمت بجدران الجبل كأنها طلقات مدفع.
المسافة الهائلة بينه وبين الهدف تقلصت بشكل جنوني، الصخور تحت قدميه تتطاير إلى شظايا، والغبار يلتف حول جسده كعباءة دخان. كان وجهه جامدًا، لكن عينيه… عينيه كانتا مرآتين لشيئين متناقضين: الجنون الخالص، والحماس النقي.
على بعد مئتي متر من المختبر، التقطته الرادارات.
صفير إلكتروني قصير… ثم انفجار أصوات الإنذار في كل اتجاه. تحولت شاشات المراقبة داخل المبنى إلى اللون الأحمر، وتحوّل المكان إلى منطقة قتل مغلقة. الأضواء الومّاضة أعطت المشهد لون الدم، والصوت الآلي الحاد مزق الصمت:
> “تم تحديد الهدف. إغلاق جميع المداخل.”
الأبواب المعدنية العملاقة أُغلقت بصفائح إضافية، المفاصل الهيدروليكية تزأر، والبوابة الرئيسية صارت كتلة فولاذية لا يمكن اختراقها بسهولة.
أمام المدخل، كان الحارسان يقفان بالفعل.
جسداهما أشبه بجدارين من اللحم والحديد، سترات خضراء سميكة تخفي عضلات بحجم الصخور، وكمامات معدنية عاكسة تخفي ملامحهما تمامًا. على وجهيهما، نظارات أشعة لا تسمح برؤية أعينهما، لكن وقفتهما كافية لتخبرك أنهما وُلدا للقتل فقط.
تحركا معًا، خطوتان إلى الأمام، العصي الكهربائية الطويلة تشتعل بشرر أزرق يقرص الهواء. في كل خطوة، اهتزت الأرض قليلاً، وكأن وزنهما أكبر مما يجب.
بيوم توقف فجأة على مسافة أمتار منهما، كأنه قرر أن يمنحهما لحظة ليلحقا بأنفاسهما قبل النهاية. وقف مستقيمًا، كتفاه مائلتان قليلًا إلى الأمام، يداه فارغتان، لكن جسده كله يوحي بأنه مستعد للانقضاض في أي لحظة.
لم يتكلم أول الأمر، فقط نظر إليهما.
ابتسامة غريبة زحفت على وجهه، مزيج من سخرية وعطش للدم. لم يكن في الأمر تحدٍ فحسب، بل رغبة مريضة في اختبار صلابة خصمه كما يختبر الجزار حدّ سكينه.
تحرك الحارسان أولاً، تقدما بخطوات واسعة وبنفس التوقيت، كأنهما جزء من آلة واحدة. أحدهما رفع عصاه، والآخر استعد للانقضاض الجانبي، خطة واضحة لقطع الطريق على أي حركة هروب.
لكن بيوم… لم يتحرك خطوة واحدة للخلف.
الحارس الثاني كان أول من كسر الصمت، صوته منخفض لكنه مشحون بالتحذير:
> "احذر… أظنه لم يضل طريقه. هالة القتل لديه عالية جدًا. هذا ليس كالحمقى الذين يأتون إلى هنا عادة."
بيوم لم يغير تعبير وجهه، فقط أمال رأسه قليلًا، وابتسامة صغيرة ظهرت على شفتيه:
> "يا لسوء حظكم… حسنًا، ممكن سؤال وحيد؟"
أجاب الحارس الأول ببرود ثقيل:
> "حسنًا… سيكون آخر سؤال لك على أي حال."
> "كم سنة وأنتم تعملون هنا؟"
> "ثلاث عشرة سنة… تقريبًا."
أومأ بيوم، وكأنه يقيّم الإجابة بجدية:
> "آه… جيد، مسيرة طويلة… لكن ستنتهي اليوم. حسنًا… أنا آسف، لكن… أنا من أودجين."
تغير الجو في لحظة، كأن الهواء نفسه انكمش داخل المكان. وجوه الحراس فقدت لونها، عيونهم اتسعت، وأصابعهم ارتجفت رغم قبضة الحديد على العصي. كلمة "أودجين" لم تكن مجرد اسم… كانت إعلان إعدام.
أحد الحراس كان يضع لاقط صوت صغير على كتفه، التقط الكلمة وأرسلها في الحال إلى مكان ما داخل المختبر. لم يتحرك بيوم، لم يخطُ خطوة واحدة… لكن الفوضى بدأت دون إنذار.
فجأة، فتح الحارس الأول فمه وكأنه يريد الصراخ… لكن ما خرج لم يكن صوتًا.
شريحة من الحديد، حادة ولامعة، اندفعت من داخل فمه، مزقت اللحم والشفاه، وخرجت وهي تقطر بالدم. سقط على ركبتيه، يده تمسك بفكه الممزق، وعيناه تدوران في ذعر أعمى قبل أن ينهار بلا صوت.
الحارس الثاني بقي متجمّدًا، عيناه مثبتتان على جثة زميله. ثم، ببطء شديد، بدأ يدير رأسه نحو بيوم… وفي اللحظة التي اكتملت فيها الحركة، كان لوحان رفيعان من الزجاج قد اخترقا عينيه مباشرة، أرسلا شظايا الدم والمقلة إلى الخارج. صرخة مكتومة خرجت منه، لكن لم تكتمل… لأن لوحًا آخر، أكثر سماكة، اخترق صدره ببطء قاتل، شق طريقه حتى قلبه، وتركه واقفًا للحظة، قبل أن يسقط بلا حياة.
بيوم ضحك… ضحكة قصيرة، لكنها تحمل في داخلها شيئًا كصوت انكسار العظام. وفي ومضة، كان قد اختفى من مكانه، متجهًا نحو المختبر بسرعة لا تترك للعين فرصة للّحاق به.