الريح كانت تصرخ وكأنها تحاول ثني العمود الفقري للسماء، و"بيوم" يقف أمام المختبر، صامت كتمثال يتهيأ لابتلاع عاصفة.

‎باب المختبر كان وحشاً معدنياً، يلمع ببرود تحت ضوء مصابيح صفراء، لكن ما شد نظره لم يكن الباب نفسه… بل ذلك اللوح الفخاري العملاق، حجمه كحجم المدخل، واقف قبالته وكأنه توأم مشوه للباب.

‎لا تحذير، لا صوت إنذار…

‎فجأة، اللوح يهتز وكأن شيئاً داخله يزفر، ثم يهوى بثقل جحيم على "باب". لحظة واحدة كانت كافية ليتفتت نصف الباب ويترك خلفه ثقباً هائلاً في جدار المختبر.

‎الدخان يتصاعد ببطء، مثل أرواح تحاول الفرار من جوف الأرض.

‎وبين الشظايا، كان "بيوم" يقف فوق ما تبقى من اللوح، عينيه تسيران ببطء عبر الفوضى أمامه.

‎لا أصوات بشر، لا حركة…

‎فقط صفوف من الشاحنات، ممتلئة حتى الحافة بالجثث، صامتة كأحجار قبور لا نهاية لها.

‎ثم… من سقف المختبر، تحركت الظلال، وببطء تحولت إلى فوهات أسلحة ثقيلة، كلها تتجه نحوه في انسجام شيطاني…

‎فجأة، من تحت قدميه، انبثق أربعة ألواح سوداء اللون، سطحها أملس كالرخام ولكنها تنبض بحرارة غامضة، تدور حوله في انسجام قاتل.

‎طلقات الرشاشات انطلقت من سقف المختبر، أمطار من الرصاص تتساقط من كل الاتجاهات، لكن الألواح انطلقت كذئاب مسعورة، تتصدّى وتدمر.

‎الشرر يتطاير، الفولاذ يتفتت، وصوت التمزيق المعدني كان أشبه بصرخات حديدية تموت.

‎حين عاد الصمت، التفت "بيوم" نحو الباب الداخلي للمختبر… وهناك، الحراس.

‎صفوف من الرجال المدرعين، عشرون على الأقل، أسلحتهم مصوبة نحوه، وجوههم بلا ملامح خلف أقنعة سوداء.

‎أحدهم ضغط الزناد.

‎الطلقة لم تصل.

‎في لحظة، كأن الزمن انكسر.

‎كل الحراس سقطوا في وقت واحد، رصاصاتهم لم تغادر حتى فوهات أسلحتهم، و"بيوم" كان يقف خلفهم، بينه وبينهم بحر من الدماء الطازجة.

‎في يده، أو بالأحرى بين أصابعه، كان يمسك لوحاً من الرخام، كله مغطى بالدم، يقطر ببطء على الأرض.

‎ابتسم ابتسامة باردة، وقال بصوت منخفض لكنه اخترق جدران المختبر:

‎"لا أريد اللعب معكم أيها الحمقى."

‎رمى اللوح، فارتطم بالأرض مثل سقوط نعش ثقيل، ثم مضى بخطوات بطيئة داخل الممرات.

‎الداخل كان عالماً آخر.

‎ممرات طويلة مظلمة، جدرانها تتنفس من البخار الساخن، وأصوات الماكينات الثقيلة تملأ الأجواء.

‎في الزاوية الأولى، آلة ضخمة تفتح فمها المعدني وتبتلع الجثث كما تبتلع هاوية لا نهاية لها ضحاياها.

‎في الممر الثاني، خلاط هائل، أذرعه الحادة تدور بسرعة تكفي لتقطيع الفولاذ، والدماء تنفجر داخله مثل نهر أحمر.

‎وفي الجانب الآخر، آلة تعصر اللحم البشري، تحوله إلى كتل متماسكة، وكأنها تحضر عجينة خبز… لكن الخبز هنا مخصص للشياطين.

‎"بيوم" وقف، يراقب هذا الجحيم الصناعي بعينيه الباردتين.

‎قال بصوت خافت، وكأنه يحادث نفسه:

‎"أظن أن هذا المختبر يصنع الأدوية من لحم الناس… ومن الأعضاء المتبقية. آه… فهمت الآن. تلك الأدوية في الصيدلية، نصفها يشترونه من العصابات، ويوهموننا أنها من الحيوانات."

‎ابتسم، لكن هذه الابتسامة لم يكن فيها سوى كراهية.

‎"أظن أن الدولة في حد ذاتها إجرام… لكن لا يهم هذا. انتهى فضولي. سأقتل كل الموجودين هنا."

‎أدار رأسه ببطء، وكأنه يخاطب الهواء.

‎"يظنون أنهم يحسنون الاختباء."

‎السماء فوق المختبر لم تكن سماءً عادية…

‎السحاب الثقيل بدا وكأنه يضغط على الأرض، والريح كانت تشبه أنين ميت يرفض مغادرة قبره.

‎ثم… تشكّل شيء.

‎خمسة ألواح فخارية عملاقة، أكبر من المختبر نفسه بعشر مرات، ظهرت في السماء واحداً تلو الآخر، مصطفّة وكأنها جدار آتٍ من الجحيم.

‎سطحها كان مغطى بخطوط متشققة تتوهج بلون أحمر قاتم، وأصواتها وهي تتحرك كانت كصرير عظام تتكسر تحت وطأة جبل.

‎هبطت.

‎في لحظة، تحولت السماء إلى كابوس هابط.

‎اللوح الأول اخترق الهواء وصدم سقف المختبر، والثاني تبعه كقنبلة وزنها ألف روح، ثم الثالث والرابع والخامس…

‎الأرض اهتزت، الزجاج في القرى البعيدة تحطم، وانفجار التراب رفع المختبر وما حوله ثم سحقه إلى الأسفل عشرين متراً تحت الأرض.

‎الغبار ارتفع كسحابة رمادية ضخمة، ووسطه كان "بيوم" يقف في الخلف، يبتسم وهو يشاهد الخراب.

‎ضحكته اخترقت الضباب:

‎"كما ظننت من الأول… من المستحيل أن أجد أحدهم هنا… هههعههه."

‎على بُعد أربعة كيلومترات

‎المشهد هناك كان مختلفاً. خمس شخصيات تقف على مرتفع صخري، تراقب الدمار من بعيد.

‎مين كانت أول من تكلم، عيناها تضيقان وهي ترى العملاق الفخاري يسحق المختبر:

‎"أظنه شخص قوي جداً… لقد محى المختبر في لحظة."

‎هاكو، ذراعيه مطويتان ونظرته ثابتة:

‎"أظن أنه يطارد عصابة الثعالب… مثلما نفعل نحن."

‎كرن، الذي بدا أكثرهم اندفاعاً:

‎"لقد وصل قبلنا… سنتبعه الآن. ربما مع مرور الوقت يجد عصابة الثعالب."

‎مين أشارت بيدها وكأنها توقفهم:

‎"هذا أفضل خيار… بعد ما دمّر لنا كل شيء وصلنا إليه، لكن لا أظن أنه وجد أحد العصابة… يعني فعل ما كنا سنفعله نحن لو وصلنا قبله. لكن لا تقتربوا أكثر… لنبقِ هذه المسافة الآمنة بيننا. أولاً كي لا يعرف أننا نتبعه فيغير الخطة، وثانياً كي لا نتواجه… لأنه يبدو قوي جداً."

‎جاي شن، ممسكاً بجهاز الاتصال:

‎"سأتصل بالسيد أكاي وأخبره بما حدث هنا."

‎هاكو تنفس ببطء:

‎"هذه واحدة من أصعب المهمات التي استلمناها."

‎مين ردت وهي تبتسم ابتسامة واثقة:

‎"لكن لا تنسوا… فرقتنا قوية جداً. استطعنا الإمساك بعصابة كوين قبل ثلاث سنوات، وكانت أخطر عصابة في ذلك الوقت… يعني سننجح هذه المرة."

‎ريكو، التي كانت صامتة طوال الوقت، تكلمت فجأة بصوت بارد:

‎"لكن… ماذا لو كانت هذه العصابة بقوة عائلة أودجين؟"

‎توقف الجميع عن الكلام، ونظروا إليها.

‎ريكو أكملت

‎"نحن نعلم أن فرقة نبات الأسود كانت قوية جداً، وأعضاؤها بقوتنا نحن، ومع ذلك… سُحقوا جميعاً."

‎مين أدارت رأسها نحوها:

‎"لا بأس بالموت… فبالأخير هذه مهمتنا. القضاء على المجرمين… ضعفاء أو أقوياء."

‎هاكو ابتسم ابتسامة ساخرة:

‎"وماذا لو تم استدعاؤنا مع تلك الفرق التي شاركت في الإطاحة بأفراد أودجين؟"

‎مين ردت دون تردد:

‎"كانت النتيجة ستتغير قليلاً… بمساعدة فرقة نبات الأسود، أظن أننا كنا سنفوز."

‎الغبار في الأفق بدأ يهدأ، لكن داخل ذلك الغبار… كان "بيوم" يتحرك .

‎في مكان لا يعرفه أحد

‎المكتب كان مرتّباً بإتقان مريب، كل شيء فيه في مكانه الصحيح… لكن الجو لم يكن مريحاً.

‎الثلج كان يهطل خلف النافذة الكبيرة ببطء، يذوب فور ملامسته للزجاج، والضوء الرمادي من الخارج بالكاد يدخل الغرفة، تاركاً الزوايا في شبه ظلام.

‎رائحة خفيفة من دخان السجائر تملأ الهواء، وكأنها هنا منذ سنوات.

‎على الطاولة الطويلة، جلس رجل لا على كرسي، بل فوق سطح الطاولة نفسه، كما لو أنه صاحب الأرض والسماء في هذا المكان.

‎قدماه تتدليان من الحافة، ويده اليسرى تحمل ساعة فضية يراقبها بصبر قاتل.

‎ملامحه جامدة، عيناه لا تتحركان إلا لمتابعة عقارب الساعة، وكأنه ينتظر لحظة يعرف بالضبط متى ستأتي.

‎صوت طرق الباب قطع صمت الغرفة.

‎الرجل لم يلتفت، فقط قال بهدوء:

‎"ادخل."

‎دخل رجل طويل، يرتدي معطفاً أسود يقطر منه ماء الثلج، ملامحه جادة وكلماته مباشرة:

‎"أيها القائد… أتيت لك بأخبار."

‎القائد خفض نظره من الساعة إلى عينيه:

‎"ماذا هناك، يا نولان؟"

‎نولان تقدم خطوة، صوته منخفض لكنه يحمل ثقل المعلومة:

‎"أحد أعضاء أودجين دمّر مختبراً… وحسب الصوت المسجّل من الكاميرات، أظن أنه بيوم أودجين."

‎رفع القائد حاجبه بخفة، وكأن الاسم أيقظ فيه شيئاً، لكن نولان أكمل:

‎"إلى جانب هذا… هناك مجموعة أخرى تصيد في مناطق تابعة لنا."

‎القائد ابتسم ابتسامة باردة، لم تكن فرحاً بقدر ما كانت تذوقاً لموقف منتظر:

‎"وأخيراً… ظهر واحد منهم. توقعت ذلك."

‎ضحك قليلاً، ضحكة مبحوحة كأنها آتية من صدر رجل لم يضحك منذ سنوات.

‎"لكن… لماذا يدمر مختبراتنا؟ هههه… لا أدري لما الأشخاص الذين يستأجرهم السيد لقتلنا يذهبون أولاً ويدمرون مختبراتنا."

‎نولان أطرق برأسه قليلاً:

‎"يظنون أنهم سيجدون دليلاً على مواقعنا… أو ربما شيء آخر، لا أدري."

‎القائد حرك ساعة يده، وكأن الوقت الذي يراه الآن يعني بداية مرحلة جديدة:

‎"نولان… اجمع باقي العصابة. يجب علينا أن نتقابل… هذه المرة كما توقعت، السيد يريد قتلي بأي طريقة."

‎عيناه أصبحت أكثر حدة، وصوته انخفض حتى صار أقرب للهمس:

‎"أظن أنه علم أنني أرسلت لأوڨا… القليل من المعلومات."

‎ابتسم مجدداً، لكن هذه المرة كانت ابتسامة صائد يشم رائحة الدم:

‎"حان وقت الصيد."

‎نولان انحنى برأسه باحترام:

‎"أمرك… أيها الزعيم."

‎خرج نولان، تاركاً القائد وحيداً في المكتب.

‎الخارج كان صامتاً إلا من صوت الثلج، أما الداخل… فالصمت كان من نوع آخر، صمت ثقيل كأنه مقدمة لعاصفة.

‎القائد أعاد النظر إلى الساعة، وضغط زراً صغيراً على جانبها، فتحت غطاءها لتظهر بداخلها صورة باهتة… لرجل مجهول لا بل إنه ماركس رئيس المنظمة السابق .

‎ابتسامته اتسعت أكثر،

2025/08/12 · 3 مشاهدة · 1316 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025