مع ساعة 20:00
كانت باريس في ذلك المساء مبللةً بالمطر، المدينة تتنفس بخاراً بارداً من بين شوارعها، وكأنها عازمة على غسل ذنوب المارين بها… أو على الأقل دفنها تحت بلاطها القديم.
المقهى الصغير في زاوية الحي لم يكن سوى جيب من الضوء الأصفر في بحر من الظلام، أصوات الكراسي الخشبية وهي تُسحب على الأرض، رائحة القهوة السوداء المختلطة بالدخان، ودفء الموقد في الركن… كل شيء هنا كان يبدو عابراً، إلا ذلك الطاولة في أقصى الداخل، حيث جلس سون بصمتٍ ثقيل، وكأن جسده ثابت لكن أفكاره تتحرك في كل الاتجاهات.
أمامَه جلس بانغ… ملامحه لم تكن مكسورة فحسب، بل ممزقة. عينيه تحملان شيئاً بين الهزيمة والرجاء، يداه تلتفان حول فنجان القهوة لكنه لم يرفعها إلى فمه.
قال بانغ بصوت خافت، كأنه يخشى أن يسمعه العالم:
> "سون… كنت أريد أن أقول هذا منذ وقت طويل… لكن… كل مرة كنتُ أفتح فمي، يخونني قلبي."
لم يرد سون. نظر إليه فقط، نظرة ثابتة، لكنها خالية من الدفء.
ابتلع بانغ ريقه، وأكمل:
> "أبوك… موريس…
لم أكن قوياً كما يجب. كنتُ… كنتُ مجرد أداة، .… واعتقدت أنني أستطيع أن أقاوم من الداخل… لكن الحقيقة؟ لم أقاوم… كنت أضعف من أن أقاوم."
رفع سون حاجباً، وعيناه تضيقان ببطء، لكنه لم يتكلم.
> "لو أنني وصلت قبل لحظات… لحظات فقط… لكان موريس الآن حيّاً… لم أكن بعيداً… كنت هناك… أسمع صوت المعركة… لكني تأخرت… لم أركض بالسرعة الكافية… لم أكن الرجل الذي وعدتك أن أكونه."
صوت المطر في الخارج بدأ يعلو، يضرب الزجاج وكأنه يعاقب العالم على شيء لا يفهمه.
بانغ خفض رأسه، وترك كلمات ثقيلة تسقط من فمه:
> "أريدك أن تسامحني، سون. أريدك أن تكرهني إذا أردت… لكن لا تتركني أحمل هذا وحدي. أنا… نادم. نادم لأنني لم أكن السيف الذي يحمي، بل كنت الغمد الفارغ."
في تلك اللحظة، بدا سون وكأنه يغوص في داخله… يتذكر وجه أبيه وهو يسقط، الدماء التي اتسعت على الأرض، اليد التي لم تمسك بيده في النهاية.
انحنى قليلاً للأمام، وصوته كان أشبه بصفعة:
> "بانغ… سامحتك أو لم أسامحك… أبي لن يعود. لكن لا تخدع نفسك… خطيئتك ليست أنك تأخرت، بل أنك سمحت لهم أن يكسروا ظهرك في وسط المعركة."
بانغ أغلق عينيه، وابتسامة مريرة رسمت خطاً باهتاً على وجهه:
> "أعرف… أعرف… ولو لم يكن نيفيرو… لما كنت حتى جالساً أمامك الآن. أودجين كانوا سيسحقونني… سحقاً حقيقياً."
صمت كلاهما. الوقت بدا وكأنه يتجمد، والأنفاس تتصاعد في الهواء الساخن للمقهى، لكن البرد كان يزحف من الداخل، من الكلمات غير المنطوقة، من الذكريات التي لم تمت.
في الخارج، مرّ عازف كمان في الشارع، يعزف لحناً حزيناً… لحنٌ تسلل من النافذة المفتوحة قليلاً، وانساب بينهما مثل اعتراف أخير لا يحتاج إلى كلمات.
بانغ يرفع رأسه ببطء، صوته مبحوح:
> "موريس… كان قائداً عظيماً يا سون… ليس لأنه كان سريعاً او قويا ، بل لأن قلبه كان يحمي قبل أن تحميه يده. كان يحب فريقه… كان يثق بنا… حتى بي، أنا الذي… خذلته."
سون لم يتغير ملامحه، وكأن الكلمات لا تصله. عيناه جامدتان، باردتان.
ابتسم بانغ ابتسامة حزينة:
> "أعرف… علاقتك به لم تكن دافئة… وربما لم ترَ فيه ما رآه الآخرون. لكن… صدقني، كان مستعداً أن يموت من أجل رجاله. المشكلة أني أنا… لم أكن مستعداً أن أعيش لأجله."
أخفض رأسه، وكأن الجملة الأخيرة صفعت قلبه هو قبل أي شخص.
> "تأخرت يا سون… كنت قريباً، لكن ليس بما يكفي… لحظات فقط كانت تفصلني عن إنقاذه. لو أنني كنت أقوى، أسرع، أجرأ… لكان جالساً الآن في هذا المقعد بدلاً مني."
بانغ يميل للأمام، نبرة صوته تتغير، تمتزج فيها الرجاء بالضغط:
> "ربما… لكن هناك شيء آخر. انت رفضت ان تستقيل و ان لا تترك المنظمة، ، سون. اذا سانضم إليّك… إلى فرقة رصاصة الملكة. لن أطلب منك أن تكون مثل والدك، فقط… كن إلى جانبي، كما لم أستطع أن أكون إلى جانبه."
سون يرفع عينيه ببطء، نظرة فاحصة، مترددة، وكأن بانغ يلعب على وتر لم يكن يعتقد أنه موجود.
الصمت بين سون وبانغ كان يثقل الهواء… حتى جاء صوتٌ جديد، ناعم، واثق، مزج بين أنوثة آسرة وحدّة قائد عسكري:
> "أهلاً… بعضوين جديدين في فريقي."
التفت سون بسرعة، وعيناه تتسعان قليلاً… المرأة التي وقفت أمام الطاولة لم تكن مجرد جميلة، بل كانت الجمال نفسه إذا قرر أن يتجسد في هيئة من تكسوها هالة قاتلة. شعر أسود طويل، عينان تتلاعبان بالضوء، وابتسامة صغيرة تُشعل وتطفئ في اللحظة نفسها.
جلست أمامهما بثقة، وضعت ساقاً على ساق، وأشارت للنادل بيد واحدة وكأنها تملك المقهى بأكمله.
بانغ رفع حاجبيه بتعبير "ليس الآن"، لكنه لم يقل شيئاً.
هي مالت قليلاً للأمام، نظرتها تخترق بانغ:
> "صحيح أنك كنتَ من فرقة قوية يا بانغ… لكن من الآن… أنت تحت قدمي."
قالتها بسخرية ناعمة، وكأنها تدغدغ غروره قبل أن تدوسه بكعبها العالي.
سون نظر إلى بانغ، فوجده متجمداً للحظة، قبل أن يزفر ضحكة قصيرة ويهمس:
> "تحت قدمي، ها؟"
بانغ لم يرفع رأسه عن فنجان القهوة، لكنه أدار عينيه نحو سون وقال بنبرة ميتة المشاعر، لكن على وجهه ابتسامة ساخرة:
> "سأقتل هذه المرأة."
سون رفع حاجبه، وكأن الموقف أصبح مسرحية مجانية في وسط باريس، بينما المرأة التفتت نحو النادل لتأخذ قهوتها وكأنها لم تسمع شيئاً.
المطر ما زال يطرق الزجاج، لكن الجو في الطاولة تغيّر… صار مزيجاً بين التوتر والضحك المكتوم، وكأن الحرب التي تلوح في الأفق ستبدأ بمباراة كلامية، لا رصاص.