الفصل — 23:30 — قصر أودجين / باريس

‎البخار يعلو كأشباح بيضاء في هواء الحمام الفاخر، جدرانه من الرخام الأسود المرصع بخيوط ذهبية، والماء الساكن حولي يعكس الأضواء الشاحبة للمصابيح المعلقة كأنها قناديل بحر معلّقة في السماء. كانت قطرات الماء تتساقط من شعري الفضي ببطء، تلامس السطح الدافئ وتحدث تموجات هادئة، لكن رأسي لم يكن هادئاً.

‎تنفست بعمق، أغمضت عيني، وتركت كتفي ينسحبان للخلف في الماء. آه… يا له من هدوء يثير أعصابي.

‎"أوهههه…" قلتها في نفسي، وابتسامة مائلة ارتسمت على فمي، "أظن أن عصابة الثعالب ستكون خصماً جيداً لي."

‎لكن الحماقة… آه، الحماقة هي أنني لن أكون هناك. بيوم… ذلك الأحمق العجول، توجه إليهم مباشرة، وكأنه طفل يجري خلف النار ليلمسها. والأسوأ… تشاي. سمعت أنه سيرافقه لتعقبهم.

‎كلاهما معاً… فكرة مثيرة، لكنها تُشعل في داخلي غيظاً بارداً. أردت أن أذهب معهم، أردت أن أرى الدم يتطاير من تحت أنيابهم، أردت أن أسمع الصراخ يتلاشى في الأزقة. المعركة الأخيرة التي خضتها ما زالت تترك مذاق الحديد على لساني، والدفء الوحشي في قبضتي. لكن… ليس هذا وقت اللعب.

‎الآن، هناك أمر أكثر إلحاحاً.

‎أخذت نفساً ثقيلاً، غصت تحت الماء للحظة، وعندما خرجت، تساقطت قطرات على وجهي كأنها شظايا زجاج دافئة.

‎"فيكتوريا…" تمتمت باسمها، ذلك الاسم الذي يجر خلفه ألف خيط أسود. تلك الشمطاء، الساحرة المتغطرسة، التي لا يجرؤ أحد على رفع صوته أمامها. أريدها أن تمسح تعويذة إيفا… تلك التعويذة التي عبثت بذكرياتي ودفنتها في رمال النسيان.

‎لماذا فعلت ذلك؟ لماذا… تشعر وكأنها تحرس سراً لا تريد أن يخرج إلى النور؟

‎كلما أغلقت عيني، رأيت إيفا… ورأيت تشاي… ولعنة تشاي، تلك الغرابة التي ولِد بها، لعنة تلتهم العقل قبل الجسد. "الإليون"… آه، ذلك الاسم. سمعته من قبل. ليس في الكتب، ليس من الأفواه، بل في ركن ما من ذاكرتي، مغطى بالدماء والصراخ. لكن كلما مددت يدي لأمسكه، اختفى، كأنه دخان بين أصابعي.

‎البخار صار ثقيلاً في صدري. أعدت ظهري إلى حافة الحوض، وأغمضت عيني. كنت أشعر أن الخيوط كلها تتشابك… تشاي، إيفا، فيكتوريا، اللعنة، ذلك الاسم القديم… وحتى عصابة الثعالب، كلهم كأنهم أحجار شطرنج في لعبة أكبر من أن أراها كاملة.

‎لكن… سأراها. وسأعرف.

‎وعندما أعرف… سأكسر رقاب الجميع، بالترتيب الذي يناسب مزاجي.

‎إيفا… تلك العجوز الشمطاء.

‎في الأيام الخوالي، كانت تقف أمامي كالأفعى المتحجرة، ترفض أن تتحول عائلة أودجين إلى عائلة قتل. كانت تتحدث عن "الشرف" و"الرسالة" و"التراث النقي"، وكأن العالم لا يفهم سوى لغة الورد والمصافحات.

‎والآن؟

‎ها هي أكثر من يشجع على القتل… وأكثر من يصفق له. آه، كيف تنقلب المبادئ عندما تصبح الحياة ضيقة والدم حلو المذاق.

‎قبل خمسة وثلاثين سنة، كان اسم أودجين يلمع في كل قارة، ليس كعصابة، بل كمدرسة لا مثيل لها في تعليم القتال. كان كل من يريد القوة يأتينا، من الملوك حتى أوغاد الأزقة. أتذكر ذلك القصر في ناها… جوهرة من حجر أسود على قمة الجبل، يطل على البحر والمدينة كأنه حاكمها.

‎أتذكر بيوم وكوانغ وهما مراهقان، يركضان بين الساحات الحجرية، يلهثان ويتدربان مع بقية الأطفال، وأنا أراقبهم من الأعلى، بكأس شاي ساخن في يدي وابتسامة رضا على فمي.

‎وإيفا وقتها؟ كانت سعيدة بتعليم العجائز… نعم، العجائز! وكأنها كانت تجمع متحفاً من العظام المهترئة لتلقنهم "الأساسيات". أما ابنتي أنزوي… آه، كانت رقيقة، هادئة، ناعمة الكلام، مثل قطعة حرير… واليوم؟ اليوم صارت تجرح بكلمة قبل أن تجرح بخنجر، مثل والدها تماماً.

‎لكن… هناك ظل في ذاكرتي.

‎ابنة أخرى.

‎وجه غامض، ملامح لا تكتمل في ذهني، اسم يرفض أن يستقر. إيفا تقول إنها "آلين شين". أنا… لا أصدقها. تلك المرأة تكذب، بل وتفعلها بابتسامة. لا أظن حتى أن اسمها الحقيقي كذلك. ربما كانت إيفا تحاول دفن شيء… أو إخفاءه عني أنا بالذات.

‎هاه… من يظن نفسه قادراً على خداعي، ينسى أنني بان أودجين. أنا الذي كبرت بين الوحوش حتى صرت ملكهم.

‎لكن لا بأس… سأدعها تلعب لعبتها، وسأمثل الغافل حتى تحين اللحظة التي أمزق فيها ستائرها وأفضح كل ما تخفيه.

‎في إحدى الليالي… كانت السماء تمطر، والمدينة تبتلع أضواءها في الظلام. لم أكن أبحث عن الدم تلك الليلة، لكن الدم وجدني. قتلته… عن طريق الخطأ، أو ربما لم يكن خطأً، فأنا لا أفرق كثيراً بين الحادثة والنية عندما تتلطخ يداي.

‎هناك، وسط الفوضى، كان يقف رجل لم أرَ مثله من قبل. لم يرتعب… بل ابتسم. ابتسم كأنه وجد كنزاً نادراً، وقال لي بصوت بارد:

‎"لِمَ لا تصبح قاتلاً مأجوراً؟ ستجمع مالاً أكثر مما تجمعه من تعليم القتال."

‎كلماته كانت كخنجر صغير، لكن حاد، اخترق عقلي. وأعجبتني الفكرة… أعجبتني كثيراً. تركت دور المعلّم المتعفف، وصرت الصياد الذي يبيع رصاصه لمن يدفع أكثر. وفي فترة قصيرة… مئات الملايين تدفقت إلى خزائني.

‎لكن… العائلة رفضت. كلهم.

‎إيفا كانت أول من صرخ في وجهي، وكأنها نسيت أن العالم لا يعيش إلا على حافة السكين.

‎لا أكذب… لقد عذبت أنزوي أكثر من اللازم. كنت أريدها أن تصبح مثلي، أن تفهم أن الرحمة مجرد أكذوبة ناعمة لضعفاء لا يملكون القوة. أردتها أن تسير في طريقي، سواء أحبّت ذلك أم لا.

‎ثم جاء ذلك اليوم… يوم لن يمحى من تاريخ ناها. قتلتُ رئيسها، الرجل الذي كان يظن نفسه خالداً على عرشه. وبعد يوم واحد… انقضت عليّ فرقة من المنظمة.

‎لكن ليست أي فرقة… بل أوڨا.

‎هي التي أسقطتني. هي التي قتلتني بيدها، وكأنها كانت تحمل انتقاماً شخصياً. لماذا؟ لا أتذكر. ذاكرتي تنزف من ذلك الجزء، كأن أحدهم اقتطع تلك الصفحات من كتاب حياتي وأحرقها.

‎والآن… أنا هنا. حي. بفضل إيفا.

‎وعدتني بأنها ستعيدني للحياة… ولم تكذب. لكنها لم تعدني بذاكرتي. وهذا ما سأنتزعه منها، سواء أرادت أو لم تُرد.

‎فيكتوريا… أظنها ما زالت في اليابان. غداً… سأسافر. وسأبدأ البحث. لن أكتفي بالذكريات… سأنتزع الحقيقة من حلقها، وأكسر أسنان كل من يحاول الوقوف في طريقي.

وفجأة… طرقات على الباب، كأنها مطرقة تُنزلني من عرشي البخاري.

‎إيفا بصوتها الحاد، الممزوج بسخرية أفعى:

‎> "بان! أيها العجوز الأحمق، أخرج من الحمام وكفاك هلوسة… لقد حرقت عقلك من التفكير! هاهاهاها!"

‎ابتسمتُ، مددت يدي وأخذت منشفة كأني أمير يتهيأ لاستقبال وفد ملكي، ثم صرخت من داخل البخار:

‎> "إيييييفاااااا… رغم قبحك… أحبك، أيتها العجوز الملعونة!"

‎انفجر ضحك الخدم خلفها، ضحك جماعي متدرج، كأنهم ينتظرون من سيقتل أولاً. بعضهم وضع يده على فمه ليكتم ضحكته، والبعض الآخر ضحك علناً وكأنه يشارك في مسرحية يعرف نهايتها.

‎إيفا… لم تضحك.

‎وقفت هناك، خلف الباب، صامتة

‎أما أنا… فأكملت استرخائي، ورفعت رأسي بفخر، كأن الضحك من خلف الباب مجرد موسيقى تعلن بداية فصل جديد في قصتي.

‎/////////////

‎في إحدى غرف القصر، كان الليل يزحف من النوافذ كستار أسود، والمصابيح المذهّبة تبعث ضوءاً دافئاً يتراقص على الجدران المزخرفة.

‎جلست إنزوي على الأريكة الفاخرة، ساقاها متشابكتان، وعيناها تحدقان في الفراغ وكأنهما تبحثان عن شيء خلف الظلال. بجانبها، جلس جي متكئاً إلى الوراء، يعبث بخاتمه المعدني كأنه يحاول صرف ذهنه عن ثقل الحديث.

‎جي بصوت خافت:

‎> "لقد رأيت تشاي… إنه أصبح مخيفاً جداً بعد معرفة الحقيقة. ذلك الرجل تغيّر حقاً… صار من الصعب حتى أن تتحدث معه."

‎لم تتحرك إنزوي كثيراً، لكنها أرسلت نظرة جانبية باردة نحوه، وقالت بنبرة ثابتة، وكأنها تلقي حكماً لا يقبل النقاش:

‎> "نعم… يمر بظروف صعبة جداً. لكن عليه أن يتقبل… أنه ذاك."

‎صمتت لحظة، عيناها تهبطان إلى الأرض، قبل أن تضيف بصوت أخفض، كأنها تخشى أن يسمعها الجدار:

‎> "إيفا فعلت كل هذا… لكي تكتمل لعنة الإليون. والمستفيد منها في النهاية… هو نفسه."

‎سكت كلاهما، وبقي في الجو إحساس ثقيل، كأن الكلمات التي قيلت للتو كانت باباً فتح على غرفة مظلمة لا يرغب أحد في دخولها.

‎قطب جي حاجبيه، انحنى قليلاً للأمام، وصوته ارتفع نبرة واحدة:

‎> "أأنتِ جادة؟ يوماً ما سأشعر أنكِ مبرمجة على القتل ولا تملكين عقلاً! يعني… ما ذنبه حتى لا يعرف حقيقته؟ ما ذنبه كي يحب؟ وما ذنبه كي يشعر ويحس مثلنا؟! تخيّلي نفسك في مكانه!"

‎التفتت إنزوي نحوه بالكامل، بعينيها اللتين تحملان برودة الحجر وصراحة السكين:

‎> "لا أريد أن أتخيل أن أكون مكانه. أولاً… هو وُلِد بلعنة، وهذا هو مصيره منذ البداية: العذاب… ثم الأبدية. ثانياً… لا يهمني لا تشاي، ولا أي شخص آخر… غيرك أنت، وابني تاي."

‎تقدمت بجسدها قليلاً، وكأنها تضع كلمتها الأخيرة على الطاولة:

‎> "ثالثاً… الملام في كل هذا ليس إيفا، ولا مبتكري اللعنة قبل قرون… الملام الوحيد هو بان. لولاه لتحول تشاي… أو ربما ما كانت اللعنة لتظهر أصلاً. هو السبب في كل هذا. وعندما أقابل تشاي… سأقول له: يجب عليك أن تقتل ذلك العجوز."

‎ساد صمت ثقيل في الغرفة، كأن الهواء توقف عن الحركة. كان جي يحدق فيها، عيناه تتأرجحان بين الغضب والذهول، قبل أن يزفر ببطء ويعدل جلسته:

‎> "إنزوي… لنخرج ونأكل في الخارج… ونتكلم أكثر."

‎ارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة، لكنها لم تكن ابتسامة رضا… بل ابتسامة شخص يعرف أن الحديث لم ينتهِ بعد.

‎نهضا معاً من على الأريكة، وخطواتهما على أرضية الرخام اللامع كانت تترك صدى خافتاً، بينما الظلال على الجدران بدت وكأنها تلاحقهما حتى باب الغرفة

2025/08/13 · 4 مشاهدة · 1451 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025