باريس 07:00

‎من منظور كوانغ أودجين

‎هل عليّ أن أعرّفكم بنفسي أولاً؟

‎ربما لا… فشهرتي تسبقني كما يسبق الضوء الشمس عند الفجر، لكن… لا بأس، سأدعكم تسمعون اسمي من فمي مباشرة، فأنا أحب تلك اللحظة التي تتسع فيها عيون الناس حين يسمعون الاسم، وكأنهم التقطوا جوهرة في سوق مزدحم.

‎أنا كوانغ أودجين.

‎الابن الذي وُلد وفي فمه ملعقة من ذهب، لكنه اختار أن يستخدمها كسلاح لا كأداة للطعام. نعم، أنا ذلك الرجل الذي لا يكفيه المال ولا السلطة، بل يبحث عن تلك النظرة المليئة بالإعجاب… أو الحسد… أو الخوف. كلّها تسري في دمي مثل نبيذ معتّق.

‎وصلتُ إلى باريس بارحة وكم كانت المدينة غريبة في أول الأمر، لكنّني… آه… أنا لا أحتاج وقتًا طويلاً لأجعل أي مدينة ترقص على أنغامي. باريس، تلك الأرملة المتغطرسة، لم تصمد أمام ابتسامتي نصف المائلة ونظراتي التي تصيب قلب المرأة كما تصيب الرصاصة صدر العدو.

‎منذ أن وطئت قدماي رصيف "الشانزليزيه"، بدأ العرض.

‎النساء هنا… يختلفن عن نساء الشرق؛ هنّ أكثر جرأة، يحدّقن فيك مباشرة، وكأنهن يقولن لك: "تعال إن كنت رجلاً." وأنا… لم أكن يومًا أرفض دعوة كهذه.

‎كم من مرة توقّفت إحداهنّ في طريقي لتسأل عن ساعة يدي، عن ربطة عنقي، عن عطر يفوح من معطفي. كم من مرة رأيت الخجل في البداية، ثم ذلك الفضول الخبيث الذي أحب أن أراه يتفتح مثل زهرة في عينيها.

‎لقد أحببنني… أو لعلّهن أحببن ما أُمثله.

‎ربما رأين فيّ صورة الرجل الغامض، نصف رجل أعمال، نصف شاعر، نصف مجرم… (وأنا أعلم أن مجموع الأنصاف تلك أكبر من واحد، لكنّني لست رجلاً عاديًا).

‎أجلس في المقاهي الفاخرة على ضفاف السين، أضع ساقًا فوق الأخرى، وأراقب العابرين.

‎هناك دومًا من ترفع بصرها من كتابها لتلتقي عينيّ. هناك دومًا من تمشي مع صديقتها، لكنها تلتفت مرتين… أو ثلاثًا.

‎والتفاتة ثالثة تعني شيئًا واحدًا: إنها وقعت في الفخ.

‎أعرف ما تحبه النساء… وأعرف كيف أكون ذلك الشيء بالضبط. أحيانًا أكون السند القوي، وأحيانًا الصبي المتمرّد، وأحيانًا… أكون الصمت الذي لا يُفهم.

‎أنا لا أعشق النساء فقط، بل أعشق تلك اللحظة التي ينسين فيها العالم من حولهن، ويصبحن كالأسرى في حضرة رجل يعرف قيمته.

‎أحب تلك المعركة الصامتة بيني وبين كبريائهن، وأحب اللحظة التي يرفعن فيها الراية البيضاء دون كلمة.

‎باريس، يا أصدقائي، ليست مدينة للنوم المبكر.

‎إنها مسرح، وأنا الممثل الوحيد الذي يملأ عيون الحاضرين.

‎أحيانًا أسير تحت المطر، دون مظلة، فقط لأرى تلك الفتاة التي تعرض عليّ الاحتماء تحت مظلتها. وأحيانًا أجلس على مقعد في الحديقة، لأترك المجال لفتاة تمشي كالقطة، أن تتوقف أمامي وتقول: "هل يمكنني الجلوس؟"

‎بالطبع يمكنها… لكن عليها أن تعرف أن الجلوس بجانبي ليس بالمجان، والثمن… هو قلبها.

‎أنا كوانغ أودجين، ومنذ وصلت إلى باريس… لم أذق طعم الوحدة.

‎لقد وجدت في النساء هنا مرآة تعكس صورتي الأجمل، وفي نظراتهن… وقودي لأستمر.

‎لكن، لا تظنوا أنني رجل بلا مبدأ…

‎رغم كل ما يقال عني، ورغم أن اسمي يُهمس به في أزقة باريس وكأنه اسم لعنة، إلا أنني لا أقتل النساء.

‎هذا خطّ أحمر، خطّ محفور في قلبي منذ زمن بعيد، ربما بسبب حبي لهم… أو ربما لأنني أرى في النساء شيئًا أكبر من أن يُهدر في الدماء.

‎أما الرجال…

‎آه، الرجال هم لعبتي المفضلة.

‎هم الذين أختبر فيهم مهارتي، هم الذين أسحب منهم أنفاسهم الأخيرة وأتركهم عبرة لغيرهم.

‎حين يتعلق الأمر بخصم، فإنني لا أبحث عن حل وسط. الرصاصة أو السكين أو حتى يداي، كلّها أدوات، وما يهم هو أن يسقط أمامي وهو يعلم أن كوانغ أودجين هو من أطفأ أنفاسه.

‎لا… النساء لسن أعدائي، بل جمهورٌ أحرص على أن يظل حيًّا ليصفق لي.

‎باريس كانت ساحة ممتعة، لكن… لكل مسرح عرضٌ أخير.

‎في الليلة الماضية، وبينما كنت أرتشف كأس النبيذ في شرفة الفندق وأراقب الأضواء تنعكس على مياه السين، شعرت بشيء في داخلي يتحرك… كأنّ مدينة أخرى تناديني، كأن دمًا قديمًا بدأ يغلي من جديد.

‎قصر أودجين…

‎ذلك المكان الذي وُلدت فيه الحكايات والخيانات، حيث الجدران تحفظ أصوات أجدادي والظلال تعرف وجوه أعدائي.

‎لقد حان الوقت للعودة.

‎فالطيور مهما حلّقت… تعود دائمًا إلى أعشاشها، وأنا… سأعود ليس كابن تائه، بل كعاصفة تطرق الأبواب.

‎في قصر أودجين

‎إيفا، بوجهها الهادئ وعينيها المليئتين بالحذر، كانت جالسة في قاعة الاستقبال، تقلب بين أوراق قديمة تحت ضوء المصباح الذهبي. لم يكن في القصر ما يكسر الصمت سوى صوت عقارب الساعة.

‎خطوات مسرعة شقت الهدوء، واقترب ظل طويل عند الباب.

‎دخل أحد الخدم، وجهه شاحب وكأنه جاء من سباق مع الريح، وانحنى قليلًا قبل أن يتكلم:

‎> "سيّدتي… كوانغ أودجين… وصل."

‎رفعت إيفا رأسها ببطء، ونظرتها تجمدت لثوانٍ، ثم أغلقت الأوراق أمامها بإحكام.

‎لم تقل شيئًا في البداية، فقط جلست مستقيمة، وكأنها تحاول أن تقرر أي قناع ستضعه على وجهها حين تراه.

‎همست أخيرًا، بصوت هادئ لكن فيه حدّة:

‎> "أخبروه… أن ينتظرني في القاعة الكبرى."

‎انحنى الخادم مرة أخرى، وغادر مسرعًا.

‎أما إيفا، فقد بقيت لحظة تحدّق في الفراغ

‎القاعة الكبرى في قصر أودجين كانت مهيبة الأضواء الكريستالية تتدلى كالشلالات المضيئة، والسجاد الأحمر يمتد من المدخل حتى العرش الخشبي المزخرف.

‎وقف كوانغ هناك، ببدلته السوداء التي تعكس أنوار الثريات، يداه في جيبيه، وابتسامته نصف المائلة لم تفقد بريقها منذ باريس.

‎دخلت إيفا بخطوات هادئة، فالتفت إليها ببطء وكأن كل شيء حوله توقف.

‎ابتسم، وقال بصوت رخيم:

‎> "إيفا… مضت سنون كثيرة، لكنك ما زلتِ كما عرفتكِ، أنيقة حتى في الصمت."

‎ابتسمت هي الأخرى بخفة، وتقدمت نحوه:

‎> "وكوانغ… ما زال كما كان، يعرف كيف يدخل أي مكان وكأنه ملكه."

‎اقترب منها بخطوة، ثم انحنى قليلًا وهو يمسك يدها برفق ويطبع عليها قبلة خفيفة:

‎> "البيت بيتنا جميعًا… لكن لا أنكر أنني اشتقت لرؤية هذا المكان، ولرؤية سيدته."

‎جلست إيفا على الكرسي الجانبي، وهي تشير له بالجلوس أيضًا:

‎> "لندن لم تأخذك منّا إذًا."

‎ضحك بخفوت، وجلس قبالتها:

‎> "لندن أخذت وقتي… لكن لم تأخذ دمي. والدم يا سيدتي… يقود دائمًا إلى القصر."

‎ثم تبادلا نظرات صامتة، فيها مزيج من الذكريات والأسئلة، بينما كان الخدم يضعون الشاي على الطاولة بينهما.

‎بعد أن ارتشف كوانغ رشفة من الشاي، أسند ظهره إلى الكرسي ونظر إلى إيفا بنصف ابتسامة، ثم قال:

‎> "بالمناسبة… أين بان؟ أين ذلك العجوز العنيد؟ لقد جئت جزئيًا لأنني سمعت أنكِ… أعَدْتِ إحياءه."

‎رفعت إيفا حاجبها بخفة، وهي تحرك فنجانها بين يديها:

‎> "بان؟ ذاك الأحمق خرج قبل ساعات… لا أدري أين ذهب."

‎ضحك كوانغ بصوت منخفض، وكأنه تذكر شيئًا قديمًا:

‎> "يبدو أن عجوزه لا يهدأ حتى بعد أن يعود من الموت. كنت أتوقع أن أجده هنا جالسًا ينتظرني، يحدّق بي بنظرة التحدي تلك."

‎أجابت إيفا وهي تضع الفنجان جانبًا:

‎> "أنت تعرفه… إن جلس، فذلك لأنه يخطط لشيء، أما إن غاب… فذلك لأنه ينفذه."

‎هز كوانغ رأسه بابتسامة مائلة:

‎> "إذن… عليّ أن أجد ذلك العجوز بنفسي."

‎وبقيت الابتسامة بينهما، مزيج من الدفء والحنين، قبل أن يسود الصمت للحظات، وكأن كليهما غارق في أفكاره عن الأيام القادمة.

2025/08/13 · 6 مشاهدة · 1147 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025