روسيا… حيث يختنق النفس تحت سماء رمادية، وحيث يُطحن العظم تحت ثقل البرد، وحيث يظل الجليد يبتسم بسخرية باردة حتى أمام الدماء الساخنة.

‎خارج مدينةٍ نائية لا تذكرها الخرائط إلا على مضض، تمتد جبال جليدية كأنها أسنان تنين متجمدة منذ آلاف السنين. الرياح هناك ليست مجرد هواء… إنها شفرات زجاجية تقطع الوجوه، وتخترق العظام حتى تشعر بأن هيكلك العظمي يرتجف قبل جلدك.

‎بين تلك القمم، حيث لا تجرؤ الذئاب على العواء، يقبع كهف خفي، فمه الضيق مغطى بطبقات ثلج متراكمة، لا تلمحه العين إلا إذا كانت تعرفه من قبل. من يقترب منه يسمع همسًا عميقًا، ليس صوت الريح، بل صدى الأسرار المخبأة في أحشائه.

‎في الداخل، الثلج يتساقط من السقف كدموع متجمدة، وكل نفس يخرج يتحول إلى سحابة بيضاء ثقيلة.

‎سبعة رجال هناك… أربعة منهم يجلسون كل واحد في زاوية، وكأن كل منهم يحرس جزءًا من الظلام. رجلان آخران، أحدهما متكئ على جدار جليدي، رأسه منخفض وكأنه ينام أو يتظاهر بالنوم، والآخر واقف ويداه في جيبيه، يحدّق في الفراغ كأنه يراقب شيئًا لا يراه أحد سواه.

‎لكن الرجل السابع… كان مختلفًا.

‎جلس على منصة جليدية مرتفعة، وكأن المكان كله خُلق ليتسع لعرشه. في يده كتاب أسود الغلاف، صفحاته القديمة تتنفس رائحة العفن البارد. أصابعه تقلب الصفحات بلا استعجال، وكأن العالم لن يتحرك خطوة واحدة قبل أن ينهي سطره الأخير.

‎إنه ديميتري… قائد عصابة ثعالب الجليد.

‎وجهه حاد، وملامحه تحمل برودًا لا يقل عن برودة الجليد المحيط به. لا أحد يعرف ما يقرأ، ولا أحد يجرؤ على سؤاله. حتى التنفس أمامه يبدو خطيئة.

‎الثلج يزداد كثافة، والرياح خارج الكهف تصرخ، لكن في الداخل… الصمت سيد المكان، صمتٌ ثقيل كأنه على وشك أن يتشقق، وحين يفعل… لن يبقى شيء على حاله.

‎لكن الصمت الذي كان يملأ الكهف بدأ يتصدع بصوت بشري…

‎أليكسي، أحد الجالسين في الزوايا، قال بصوت فيه تردد لكنه كان يحاول أن يبدو واثقًا:

‎– "هذه المرة الثالثة التي تجمع فيها أعضاء العصابة، أيها الزعيم… ماذا هناك؟"

‎لم ينظر إليه ديميتري، لكن عيني نولان – الرجل المتكئ – تحركتا نحوه ببطء، وقال:

‎– "هاي أليكسي… تحلَّ بالهدوء قليلًا، سيشرح الزعيم كل شيء."

‎آنا، المرأة الجالسة قرب الجدار الأيسر، رفعت رأسها وحدقت في أليكسي بنظرة باردة:

‎– "أصمت… ألم ترَ أن الزعيم يقرأ كتابه؟"

‎وفجأة…

‎انكسر الصمت بتمزيق غير عنيف، لكنه حاد… صوت الورق وهو يُطوى. كان ذلك الصوت كافياً لجعل الجميع يلتفت.

‎أغلق ديميتري الكتاب ببطء، كما يُغلق باب قبر قديم، وقال بصوت منخفض لكنه أثقل من الثلج:

‎– "تقدّم قليلًا… لا بأس… لم يعجبني هذا الكتاب."

‎اقترب أليكسي خطوة، لكن الصمت استمر، وكأن الكهف نفسه ينتظر التفسير.

‎مرر ديميتري أصابعه على الغلاف وكأنه يلمس جلد حيوان نافق، ثم قال:

‎> "الكتب… يا أليكسي… ليست أوراقًا تحمل حروفًا، إنها مرايا. لكن ليست مرايا تعكس وجهك، بل تلك التي تجعلك ترى ما دفنته في أعماقك.

‎الكتاب الذي لا يجرّك إلى مواجهة نفسك… ليس كتابًا، بل ورق ثقيل بلا جدوى.

‎هذا الذي بين يدي… كان فارغًا، لا يخاطب إلا غرور مؤلفه. لقد كان يكتب ليشيد بذكائه، لا ليكشف عن حقيقة.

‎الكاتب… ظن نفسه صيادًا للأفكار، لكنه لم يكن سوى راعٍ يقود قطيعًا من الجمل الميتة في صحراء بيضاء لا نهاية لها.

‎لا شيء فيه يلسع الروح أو يوقظها… كل كلمة كانت تلهث لتنال تصفيقًا. وأنا… لا أصفق للأشباح."

‎وبينما كان الصمت يتساقط مثل الثلج، جاء صوت آخر، منخفض لكن حاد، من رجل عريض الكتفين يجلس في الظل:

‎فلاديمير:

‎– "أيها الزعيم… إن كنت تبحث عن مرآة تعكس الروح لا الغرور، فربما يعجبك كتاب «تشريح العقول… رحلة في علم الإنسان الخفي». ليس مجرد دراسة جافة، بل بحث في كيف تبني التجارب قفصك الداخلي، وكيف تكسر القضبان التي لا تراها."

‎رفع ديميتري عينيه نحوه، وكانت النظرة وحدها كافية لجعل الجليد على الجدران يشعر بالبرد. ثم ابتسم ابتسامة صغيرة نادرة، وقال:

‎ديميتري:

‎> "علم الإنسان… هذا علم لا يُكتب بالحبر فقط، بل بالندوب.

‎إذا كان الكتاب يجرّ القارئ إلى أفكاره كما يشرّح الجراح جسدًا، فهو كتاب حيّ…

‎سأقرأه يا فلاديمير، لكن ليس الآن… فهناك جثة أكبر من أي كتاب تنتظرنا."

‎توقف لحظة، مسح الغبار عن كفه من أثر الكتاب القديم، ثم أضاف بصوت أكثر جمودًا:

‎ديميتري:

‎– "لنترك هذا لوقت لاحق… أريد أن أخبركم بشيء. هذه المرة… السيد استأجر أودجين لقتلنا، كما كنا نظن."

‎انفجرت أولغا، المرأة ذات الشعر الفضي التي كانت تجلس قريبة من المدخل، بصوت متهكم لكن فيه رعشة غضب:

‎أولغا:

‎– "كما كنا نظن؟! هل تتكلم بجد، أيها الزعيم؟! لقد مللت هذه المسرحية. أنت تريد الانتقام، وجررتنا نحن معك كدمى… والآن ماذا سنفعل أمام أودجين؟ سوى الموت؟!"

‎خطت خطوة إلى الأمام، نظراتها كانت كسيف غير مسلول، لكنها كفيلة بجرح الكبرياء:

‎– "هل رأيت قوتهم أم لا؟! أم أنك تظن أن الجليد سيحميك من رصاصهم؟"

‎تسللت قشعريرة عبر الكهف، ولم يعرف أحد… هل هي من كلماتها، أم من الريح التي اخترقت المدخل فجأة.

‎تجمّد الهواء بين جدران الكهف بعد كلمات أولغا، وكأن أنفاس الجميع علقت في صدورهم.

‎لكن قبل أن ترد على نفسها، اخترق صوت غليظ وحاد السكون:

‎سيرغي:

‎– "اصمتي… كيف تتكلمين مع الزعيم هكذا؟!"

‎لم تنتظر أولغا، بل رفعت حاجبيها ببرود وكأنها تتحدى عاصفة:

‎– "أتكلم معه كما أريد، لأنه إن كان سيقودنا للموت، فمن حقي أن أصرخ في وجهه."

‎تدخل أليكسي صوته بطيء لكنه يقطّع الهواء كالنصل:

‎– "أولغا… إن أخرجتِ كلمة أخرى… فلا تلومي إلا نفسك."

‎ابتسمت أولغا بسخرية قصيرة:

‎– "جرّب."

‎بدأ التوتر ينتشر مثل صدع في جليد سميك… نظرات متبادلة، أيدي تقترب من الأسلحة، أنفاس تتسارع. لكن في وسط هذا كله، ظل ديميتري جالسًا، هادئًا، وكأنه لم يسمع شيئًا.

‎ثم… في لمح البصر، اختفى من مكانه.

‎لم يرَ أحد كيف تحرك، لكن فجأة كان واقفًا بجانب أولغا، حتى أن برودة جسده غزت كتفها قبل أن تدرك وجوده.

‎رفع يده ببطء، ووضعها على كتفها، ثم بصوت منخفض لكنه ثقيل، بدأ:

‎ديميتري:

‎> "أولغا… العصابة ليست مجرد رجال ونساء يجلسون في كهف. العصابة… روح واحدة تتوزع على ثمانية أجساد.

‎كل ما يمس أحدنا… يمس الآخر، حتى لو لم نحب ذلك.

‎تذكرين عصابة «ذئاب »؟ اخطر عصابة آن ذالك حين حاصروكِ في الميناء، من الذي ضحى بحياته من أجلك انه كيمو عضو منا

‎والعام الماضي… حين أرسل «الكلب الأبيض» رجاله لقتلك… من الذي ساعدكي أنا دخلت في مجموعة أقوى مني و لكن بفضل الأعضاء الاخرين هربنا

‎العالم يا أولغا… مليء بعصابات أقوى منّا، أذكى منّا، أكثر عددًا منّا… لكنهم لم يمسّونا لأننا كنّا دائما معا

‎لا تطعني الجدار الذي يحميكِ… لأنك إن فعلت، ستكتشفين أن العاصفة في الخارج لا تعرف الشفقة.لذالك يجب عليك أن تساعديني في إنتقامي

‎ترك كتفها وعاد إلى منصته الجليدية بنفس السرعة التي جاء بها، وكأن المسافة لم تكن موجودة أصلاً. جلس، وأسند مرفقه على مسند الجليد، ثم قال:

‎ديميتري:

‎– "على كل حال… نحن لن نهاجمهم مباشرة. لن نفعل شيئًا سوى المطاردة. لقد عقدتُ مع أوڨا اتفاقًا… نعطينا معلومات دقيقة عن تحركات أودجين، و هم … يتولون القضاء عليهم."

‎لمعت عيون بعض الرجال عند سماع اسم أوڨا، بينما ظلت أولغا صامتة، لكنها لم تبتسم.

‎رفع فلاديمير رأسه، ملامحه متصلبة، وقال بصوت لا يخلو من الحماسة:

‎فلاديمير:

‎– "لم أفهم يا أولغا… لماذا كل هذا الخوف من أودجين؟ أنا أرى أننا في مستواهم من القوة. إذا وجدتُ أحدهم… سأقتله بيدي."

‎في تلك اللحظة، بدا أن الكلمات الأخيرة لفلاديمير لم تكن تحديًا لأودجين فقط… بل وعدًا ثقيلًا سيتذكره الجميع إذا جاء يوم المواجهة.

2025/08/13 · 4 مشاهدة · 1199 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025