كان الصمت ما يزال يسيطر على الكهف، لكنّه لم يعد صمتًا هادئًا… بل صمتًا مشدودًا، مثل وتر قوس مشدود لدرجة الانكسار. الثلج في الخارج يصفّر مع الريح، وفي الداخل، أنفاس الرجال والنساء تخرج كسحب صغيرة تتلاشى قبل أن تصل إلى سقف الجليد.

‎آنا، التي كانت جالسة على صخرة مسطّحة قرب الجدار الأيمن، انحنت قليلًا إلى الأمام، ووضعت كوعيها على ركبتيها، ثم قالت بصوت بارد، خالٍ من أي ارتعاش:

‎آنا:

‎– "قبل أن نكمل الاجتماع… أصوّت على قتل أولغا."

‎تحركت العيون في اللحظة نفسها، كأنها سهام انطلقت نحو الهدف.

‎أولغا لم تتحرك، لكن عضلة في فكها انقبضت ببطء.

‎ديميتري، من على منصته الجليدية، رفع نظره من الأرض إلى آنا، وقال بهدوء جليدي:

‎ديميتري:

‎– "هذا… مرفوض."

‎لكن آنا لم تخفض بصرها، لم تنحنِ، بل تابعت:

‎آنا:

‎– "آسفة يا زعيم… لكننا سنتبع الأغلبية."

‎دبت همهمة بطيئة في الكهف، أصوات خافتة تتصادم مع جدران الجليد.

‎نولان، من مكانه عند الجدار الأيسر، رفع إصبعه وكأنه يقطع الخيط قبل أن ينفلت:

‎– "أرفض."

‎سيرغي، الذي كان يمسح على سكين طويلة كأنها طفل نائم، رفع رأسه وقال:

‎– "أقبل."

‎كان التوتر يزداد، كأنه طبقات من الجليد تتراكم فوق سقف هش.

‎لكن فجأة… جاء صوت آخر، ليس صوتًا عاديًا، بل هديرًا ممزوجًا بطاقة بدائية.

‎فلاديمير، الجالس في الظل، قبض على ذراعه اليمنى، وفجأة انطلقت منها هالة قوية، باردة لكنها كثيفة، كأنها ضوء متجمد يتسرب من تحت جلده. ارتفع شعر الجميع على جلودهم.

‎فلاديمير:

‎– "إذا كنتم ترفضون أوامر الزعيم جميعًا وكأنّه لم يقل شيئًا… فسأقتلُكم جميعًا."

‎لم يكن تهديده مجرد كلمات، بل وعد يقطر من صوته. الهالة التي خرجت منه زادت حتى بدأ الجليد على الجدران المحيطة به يتشقق بخطوط رفيعة.

‎الهواء صار أثقل، والصدور ضاقت، وكأن كل نفس صار دينًا يجب دفعه.

‎لكن وسط كل ذلك، كان ديميتري… يمشي.

‎نزل من منصته الجليدية ببطء، خطوة تلو الأخرى، حتى صار بين الصفوف. لم يكن يسرع، ولم يكن يرفع صوته، لكنه كان يملأ المكان… مثل ظل جبل يمشي فوق أرض صغيرة.

‎وقف بينهم، نظر إلى فلاديمير أولًا، ثم إلى آنا، ثم إلى أولغا، ثم إلى الجميع… وقال:

‎ديميتري:

‎> "أنتم تتحدثون عن القتل… وكأنكم تتحدثون عن تبديل معطف قديم.

‎أنتم لستم مجرد مقاتلين اجتمعوا صدفة… أنتم دمٌ واحدٌ جرى في عروق مختلفة.

‎هل تعرفون لماذا صمدت عصابة ثعالب الجليد في وجه عشرين حربًا، وخمسين محاولة اغتيال، ومئات الخيانات؟

‎لأننا كنّا إخوة… والإخوة، حين يختلفون، لا يقطعون رقاب بعضهم… بل يقطعون الطريق على من يريد ذلك.

‎لقد رأيت عصابات عالمية تموت ليس لأن أعداءها أقوى… بل لأنهم فتحوا صدورهم للرصاص الذي جاء من داخلهم.

‎رأيت «كلاب الميناء» يذبحون بعضهم في الميناء ذاته الذي دافعوا عنه لسنوات.

‎رأيت «الحراب الحمراء» يبيعون نصفهم للنصف الآخر… ثم يموت الجميع في صفقة لم تُكتَب حتى على الورق.

‎أنتم لستم آنا أو أولغا أو فلاديمير أو سيرغي… أنتم ثعالب الجليد. وكل من يلمس واحدًا منكم… يلمسكم جميعًا."

‎اقترب من فلاديمير، ووضع يده على ذراعه التي كانت تشتعل بالهالة، وقال بهدوء:

‎– "أطفئ هذا النور… إنه لنا، لا علينا."

‎ثم التفت إلى آنا، نظر إليها طويلًا حتى شعرت أن عينيه اخترقتا قلبها، وقال:

‎– "الخلاف ليس عذرًا للذبح، بل دعوة للفهم."

‎وأخيرًا، التفت إلى أولغا، وقال بنبرة أخف لكنها مملوءة بالمعنى:

‎– "قد تكونين على حق في مخاوفك… لكن الخوف إذا لم يُشارك… يتحول إلى خيانة صامتة."

‎تراجع خطوة إلى الوراء، وترك الصمت يملأ المكان من جديد.

‎هنا… تحرك فلاديمير أولًا، أطفأ هالته، وانحنى برأسه قليلًا.

‎آنا أغمضت عينيها، ثم قالت بصوت خافت:

‎– "أعتذر… أيها الزعيم."

‎نولان تبعها، سيرغي كذلك، وحتى أولغا، بعد لحظة طويلة، رفعت رأسها وقالت:

‎– "أعتذر."

‎وفي تلك اللحظة، كان الكهف قد عاد كما كان… باردًا، لكن متماسكًا، مثل كتلة جليد لا يمكن كسرها إلا من الخارج.

‎قطع أليكسي السكون بصوتٍ هادئ، لكنه حاد كالسكين:

‎— أين فيلين وميكو؟

‎لم يُجبه أحد في البداية، حتى بدا الصوت الآخر كأنه خرج من عمق الممر المظلم المؤدي للكهف.. خطوات مترددة، ثم ظل صغير الحجم بدأ يظهر من الظلمة. كان طفلاً قصير القامة، وجهه يوحي بالبراءة لكنه يحمل شيئاً غريباً في العينين، شيئاً متناقضاً بين اللعب والجنون. بين ذراعيه كان برميل صغير، لكن ما في داخله لم يكن عادياً... من فتحة البرميل، كان يُرى رجل بالغ، جسده مضغوط، رأسه منحني، دموعه تتساقط بلا انقطاع، حتى بدت ملامحه أقرب إلى وجه من كُسر بالكامل.

‎آنا التفتت بخفة، ابتسمت وكأنها تعرف النتيجة:

‎— ها هو، لقد جاؤوا.

‎اقترب الطفل أكثر، وصوته يقطر اعتذاراً ساخراً:

‎— أنا آسف على التأخير... المروحية أنزلتنا بعيداً عن هنا، وضيعنا الطريق. وكما تعلمون، أنا أحمل هذا الأحمق معي... ميكو الفاسد.

‎العيون جميعها بدأت تتجه نحو البرميل، حتى بدا وكأن البرميل نفسه صار مركز الثقل في القاعة.

‎سيرغي، ذلك الرجل الضخم ذو الملامح الجليدية، تقدم بخطوة ويده تمتد ببطء. لمس الخشب الصلب براحته، وكأن الأمر لا يتعدى الفضول... لكن اللحظة التالية قلبت المشهد رأساً على عقب.

‎انفجرت من البرميل هالة مظلمة، كثيفة، ثقيلة لدرجة جعلت حرارة الهواء تنخفض فجأة، كأن قاعة الاجتماع غرقت في كهف جليدي. اللون الأسود لم يكن لوناً عادياً... كان أشبه بظل حيّ، يتلوى ويتنفس.

‎العصابة بأكملها جمدت في أماكنها، ووجوههم تفتحت على اتساعها، حتى الزعيم نفسه، الذي لم يُعرف عنه يوماً أنه يُفاجأ، اتسعت عيناه للحظة.

‎قفز سيرغي إلى الوراء فوراً، وكأن الشر نفسه حاول أن يبتلعه.

‎— أنا... أنا آسف... أردت فقط أن أختبر ميكو قليلاً.

‎لكن نولان انقض عليه بالكلمات كالسياط:

‎— أحمق! كيف تجرؤ على لمس البرميل؟!

‎لم يُجب سيرغي، بل اكتفى بخفض رأسه، والاعتذار يتدلى من صوته.

‎ضحكة صغيرة خرجت من فيلين، ذلك الطفل الغريب، لكنها لم تكن ضحكة لعب... كانت أقرب لضحكة شخص يعرف شيئاً لا يعرفه الآخرون:

‎— ههه... ما زال ميكو لا يسمح لأحد بلمس حاجاته غيري أنا.

‎ثم، وكأن الأمر لم يكن يحمل أي تهديد، تابع بصوت هادئ، ملتفتاً نحو الزعيم:

‎— بالمناسبة، لقد فككت شفرات الرسالة، أيها الزعيم. صارت جاهزة الآن.

‎تجمد الجو ثانية، لكن هذه المرة لم يكن السبب هالة البرميل، بل الكلمات التي خرجت من فمه.

‎فلاديمير، رفع رأسه ببطء، حاجباه ينقبضان:

‎— أي رسالة؟

‎الزعيم، بهدوئه المألوف، أجاب دون أن يغيّر ملامحه:

‎— شيماء... لقد أرسلت لنا رسالة قبل حادثة وفاتها. لا أظنها تحمل سراً مهماً.

‎هنا، أشرق بريق غريب في عيني فيلين، واختفت ابتسامته الطفولية، ليحل محلها جدية قاسية:

‎— لا، أيها الزعيم... بل العكس تماماً. الرسالة تحمل سراً قيّماً... سر خطير وكبير، يمكن أن يساعدنا.

‎كل الأنظار تركزت عليه، حتى البرميل بدا كأنه يقترب أكثر ليستمع.

‎الزعيم مال قليلاً إلى الأمام، وبصوت منخفض لكنه ثقيل كالحديد قال:

‎— قل.

‎فيلين (بصوت متهدج):

‎" منقول من الرسالة قالت… إنني قد سمعت أكاي يحكي هو وشخص يدعى جاك… كانا يتحدثان عن السيد… زعيم المنظمة الأمريكية… وعن أودجين… وكان يقول شيئًا عن المقاعد.

‎أظن—لا، أنا واثقة—أن ما سمعته هو أن أكاي المقعد السادس. لا أدري ما هي المقاعد يا ديميتري، لكنني أشعر أن حدسي هذه المرة صحيح… وأن أكاي… أكبر الخونة."

‎سكت لحظة، وكأنه يتذوق مرارة الاعتراف قبل أن يبتلعها، ثم أضاف:

‎"لقد كذبتني مرات كثيرة، وقلت لي: مستحيل أن يكون أكاي خائنًا… لكنني ما زلت أشعر أنه ذاك الذئب الذي يبتسم وهو يطعن من الخلف. والآن… أنت تقرأ هذه الرسالة… وقد أكون أنا الآن جثة باردة… لكن أرجوك، أكمل التحقيق في ذلك الكلب.

‎سامحني… لم أستطع مساعدتك في الانتقام. لم أستطع كبح نفسي عندما سمعت أن تشاي أودجين قد جاء إلى تونس… سامحني."

‎تساقط الصمت على الكهف كالمطر، ثقيلًا، خانقًا، حتى كاد يخترق الصدور.

‎كل الوجوه تمايلت بين الذهول والإنكار، لكن أكثرهم اضطرابًا كان "السيد" نفسه، الذي بدا وكأن قطعة من عقله كانت مفقودة ثم وُجدت فجأة، لتركب مكانها وتكشف لوحة كاملة.

‎الزعيم (بهمس مصدوم):

‎"أكاي… إذاً هو المقعد السادس… هذا… من المستحيل…"

‎لكن نولان لم يمنحه فرصة لاستعادة أنفاسه. كان صوته حادًا، كالسيف المسلول:

‎نولان:

‎"أيها الزعيم، أنا مصدوم جدًا من هذه الأخبار… يعني، السيد… بعد اغتيال أخيك ماركس… عيّن أكاي مكانه لكي يتحكم في المنظمة، وأكاي بدوره ساعده بإخفاء كل ملفات الاغتيال.

‎والآن الأمر أصبح أكثر وضوحًا: السيد أمر أودجين بافتعال مجزرة في تونس… وأكاي ساعده بتجميع الفرق قبل الحادثة… كان يعلم بكل ما سيحدث.

‎كل شيء أصبح واضحًا الآن… وعدونا الجديد هو أكاي."

‎وقف الزعيم، ببطء، كما يقف شيخ سئم العالم لكنه يعرف أن كلماته هي التي ستقرر مصير الجالسين. نظر في عيونهم واحدًا تلو الآخر، صوته خرج هادئًا لكنه كان أثقل من الرصاص:

‎الزعيم:

‎"لا… ليس عدوًا لنا. إنما… عدو للمنظمة الإفريقية.

‎ستساعدنا هذه المعلومات على إرضاء فرقة أوڨا… وستكون ورقتنا الرابحة لمساعدتنا في القضاء على أودجين أولًا…

‎ثم… بعد ذلك… سنقرر من سنضعه عدونا القادم."

‎كانت كلماته كمن يسكب ماءً باردًا على جمر مشتعل، لكنها لم تطفئ النار، بل جعلتها تنتظر لحظة الانفجار التالية.

2025/08/14 · 5 مشاهدة · 1418 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025