بعد خمس ساعات من الصمت الثقيل الذي لفّ الكهف ككفنٍ بارد
في مكان بعيد في إحدى المدن
، كان الليل قد غطّى أروقة المبنى بظلاله، بينما كان المطر يطرق النوافذ طرقاتٍ متقطعة، كأنه رسول مجهول جاء ليذكّر الجميع بأن السماء نفسها تراقب ما سيُقال.
خطوات الزعيم ديميتري كانت بطيئة، لكنها محمّلة بوقعٍ يجعل الأرض تحني رأسها تحته. كان يسير في الممر الطويل المؤدي إلى مكتبه، والمصابيح المعلقة في السقف تومض وكأنها لا تحتمل النظر في عينيه. خلفه، بخطوات متزنة وثابتة، تبعه نولان، الصقر الذي طالما انتظر لحظة الإقلاع.
فتح ديميتري باب مكتبه العريض، باب من خشب ثقيل تفوح منه رائحة التاريخ والدماء القديمة، ودخل بخطوة واحدة حاسمة. المكتب كان مظلماً إلا من مصباح وحيد على طرف الطاولة، يلقي دائرة من الضوء الشاحب فوق الخرائط المبعثرة والملفات المكدسة.
جلس الزعيم في مقعده الجلدي الأسود، وأخذ نفساً عميقاً، ثم رفع عينيه نحو نولان، الذي أغلق الباب خلفه بهدوء، وبقي واقفاً منتظراً أن يُدعى للجلوس.
قال نولان بصوتٍ خافت لكن فيه حدة:
– سيدي… لماذا لم تخبرهم؟
لم يرد ديميتري على الفور. أدار كرسيه ببطء نحو النافذة، حيث كان المطر يرسم خطوطاً فضية على الزجاج، وراح يراقب الأفق الغارق في العتمة. ثم قال:
– لأنهم… ليسوا متهيئين بعد.
– متهيئين؟ (ارتفع صوت نولان قليلاً) نحن نتحدث عن أودجين، ؟
التفت ديميتري نحوه، عيناه كجمرتين تحت رماد:
– نولان، اسمعني جيداً. أحياناً، أن تدفع الجنود نحو ساحة المعركة قبل أن يشتد ساعدهم، هو أن تدفعهم نحو المقبرة. أودجين ليس هدفاً عادياً، هو ظلّ يسير على الأرض… والظلال لا تُقتل بالرصاص وحده.
– إذن، من سيطارد بيوم أودجين؟ (سأل نولان وهو يضيق عينيه كأنه يعرف الجواب)
ارتسمت على وجه الزعيم ابتسامة بالكاد تُرى، لكنّها كانت ابتسامة من يعرف ما يفعل:
– أنت.
شعر نولان بثقل الكلمة على كتفيه، لكنه لم يزحها، بل رفع رأسه، وملأ صدره بالهواء كمن يتهيأ للغوص في أعماق بحرٍ لا قرار له.
– أنا…
– نعم، أنت يا نولان. أنت الرجل الذي اختبرته النار، ونجا منها ليعود أشدّ بأساً. أنت الذي يعرف كيف يمشي بين الذئاب دون أن يُنهش.
اقترب نولان خطوة، عينيه تلمعان:
– سيدي، هذا ما كنت أنتظره منذ زمن بعيد. شكراً لأنك منحتني هذه الفرصة… لن أخيب ظنك، ولو كان الثمن حياتي.
ديميتري، وهو يضع يديه متشابكتين فوق الطاولة، قال ببطء:
– حياتك؟ لا يا نولان… أحياناً المطلوب ليس أن تموت من أجل المهمة، بل أن تعيش من أجلها، مهما كان الثمن.
ساد الصمت لحظة، قبل أن يتابع الزعيم:
– هذه المرة، يجب أن يُمحى اسم أودجين من السجلات، من الألسنة، من الذاكرة نفسها. لن أقبل إلا بأن أراه يسقط… سقوطاً لا قيام بعده.
لكن نولان، رغم صلابته، شعر ببرودة غامضة تزحف في عروقه، وكأن المهمة لم تكن مجرد مطاردة، بل عبور نحو عالم آخر… عالم لا يعود منه الإنسان كما كان.
– وماذا لو…؟ (توقف نولان، كأنه يخشى إتمام السؤال)
– ماذا لو فشلت؟ (ابتسم ديميتري ابتسامة ساخرة) إذن ستكون قد أضفت اسمك إلى القائمة الطويلة لمن حاولوا وأصبحوا مجرد قصص يرويها الآخرون على موائد الخوف.
وقف نولان بثبات، ثم قال:
– إذن… لن أكون قصة من قصصهم.
رفع ديميتري يده إشارة لانتهاء الحديث:
– انصرف الآن… واستعد. أمامك طريق طويل، وكل خطوة فيه ستختبرك.
استدار نولان نحو الباب، لكن قبل أن يخرج، سمع الزعيم يضيف بصوتٍ منخفض، كأنه حديث مع نفسه أكثر منه أمراً:
– وتذكّر… أودجين لا يُهزم بالسلاح فقط… بل بالعقل.
خرج نولان إلى الممر المظلم، وخطواته تصطدم بجدران المبنى كما لو كانت طبول حرب قادمة. وفي أعماقه، كان يعرف أن ما ينتظره ليس مجرد مهمة… بل هو امتحان نهائي، إما أن يرفعه إلى قمة المجد، أو يطويه في هاوية النسيان.
من منظور الزعيم
دخلتُ الحمام بخطوات بطيئة، باردة، كما لو أنّ الأرض تحاول أن تتبرّأ من وزني. أغلقْت الباب خلفي، وسمعت ذلك الصوت الخفيف للخشب وهو يحتك بالمعدن، وكأنّه آخر نفس لأسيرٍ في زنزانة ضيقة. خلعت سترتي العسكرية، وألقيت بها على المغسلة الرخامية، فأحدثت ثقلها صريرًا مكتومًا. الماء ينساب من الصنبور، والمرآة أمامي تُعيد وجهي إليّ كأنّها تُحاكمه، لا كمرآة عادية، بل كقاضٍ يعرف كل أسراري، كل الأكاذيب التي صنعتها، كل الوجوه التي تلبّست بها حتى صارت هذه الملامح التي تراها الآن ليست إلا خليطًا من جلود الآخرين. مددت يدي إلى عنقي، وسحبت القميص عن كتفي، حتى ظهر الوشم. ثعلب فوقه تاج. الناس يرونه رمزًا للقوة، للدهاء، للملك الذي لا يُخدع. لكنّهم لا يعرفون أنّ هذا الثعلب هو أنا. نعم… أيها الأحمق نولان… لا تعرف أنّك هدفي قبل أن يبتلعك الظلام، ولا تعرف أنّك ستنتهي في حفرة ، أنت تؤمن بي إيمانًا أعمى، وهذا ما يجعلني أكرهك. أكرهك أكثر مما أكره أعدائي، لأن الأعداء على الأقل لا يخفون خناجرهم، بينما أنت… تقدم عنقك لي بنفسك، وتبتسم. تقول لي "سيدي" وكأنّك تسلّمني روحك، وأنا لا أريد روحك… أنا أريد أن أرى عينيك وهما تفقدان ذلك البريق الذي يلمع كلما قلت لك: "أحسنت يا نولان". ذلك البريق الذي يذكرني بعيني أعدائي حين كانو ينظرونا إليّ قبل أن يطعنونني من الخلف. هل تعلم، يا نولان، لماذا لم أخبر باقي الأعضاء؟ لأنهم ليسوا الطُعم. أنت الطُعم. أنت الطريدة التي سأرميها أمام بيوم أودجين حتى ينشغل بك، حتى يظن أنّك رأس الحربة، بينما أنا أستعد لشيء آخر… شيء أكبر بكثير من مجرد مطاردة رجل. أخي ماركس… أتذكّرك الآن، تتسلل في الظلام، تضحك بصوت منخفض، تقول إن الحياة ليست سوى رقعة شطرنج، وإن الملك لا يموت إلا إذا قرّر الموت بنفسه. أتذكّر شيماء، زوجتك، المرأة التي لم تكن امرأة عادية، كانت تعرف أنني أحبها قبل أن تكون لك، لكنها اختارتك لأنك كنت الثعلب، لا الذئب. وأنا… كنتُ الذئب الذي يقف بعيدًا، ينتظر اللحظة التي يضعف فيها الثعلب ليهجم. لكن اللحظة لم تأتِ، بل جاءت النهاية من حيث لم أتوقع. أخي ماركس… لم أنسَ دمك أيضًا. تقول الأسطورة في مدينتنا إن الثعلب لا يموت إلا إذا فقد التاج، وأنت فقدت تاجك يوم دخلتَ في لعبة أكبر منك. كنتَ تعتقد أنك تتحكم بالخيوط، لكنك كنتَ أنت الخيط الذي شدّه شخص آخر، وأنا… كنتُ أراقب. لم أتدخل. تركتك تسقط لأنني أردت أن أرى النهاية، أردت أن أتعلم كيف يسقط الثعلب. واليوم، سأعيد نفس المسرحية، لكن مع ممثل جديد… اسمه أودجين و السيد. أوه يا نولان… أنت وفيٌّ أكثر مما ينبغي. وهذا يجعل موتك أكثر جمالًا. ستقف هناك، تواجه أودجين، وتظن أنني أراقبك لأحميك، بينما الحقيقة أنني أراقبك لأتأكد أن أودجين مشغول بك بما يكفي حتى أوجه الضربة التي لن يراها قادمة. هل أنا شرير؟ ربما. لكن الشر الحقيقي هو أن تعرف كل هذه الحقائق وتبتسم، أن تضع رأسك على الوسادة كل ليلة وأنت تعرف أن هناك من يريد نهايتك… ومع ذلك تواصل العمل له بإخلاص. أقف أمام المرآة، أنظر إلى الوشم مرة أخرى. الثعلب فوقه تاج. أريد أن أراه يسقط. أريد أن أرى التاج يتدحرج على الأرض، ويتلوث بالوحل، بينما الثعلب يلهث، يختنق، ينظر حوله فلا يجد أحدًا يمد له يده. أريد أن أرى ذلك المشهد مرة أخرى، لكن هذه المرة… لن أكون مجرد مراقب، بل من يشد الخيط الأخير. أغسل وجهي بالماء البارد. أشعر بأنفي يلسع من البرودة، لكن داخلي يغلي. الغضب مثل معدن مصهور في عروقي. الغضب من ماركس، من شيماء، من أودجين، من نولان، ومن نفسي. نعم، من نفسي، لأنني تركت الأمور تصل إلى هذا الحد. أخرج من الحمام، وأغلق الباب خلفي. و أتذكر أصوات الضحكات ، ضحكات أعضاء العصابة الذين يظنون أنني قائدهم، حاميهم، مرشدهم. لا يعرفون أنني أراهم جميعًا كقطع أحجار، وكل حجر له دوره في بناء القبر الذي سأدفن فيه أودجين… وربما نفسي. أجلس على مكتبي، أخرج علبة السيجار، أشعل واحدة. الدخان يتصاعد في الهواء، يرسم أشكالًا غامضة، كأنها وجوه الموتى الذين مرّوا في حياتي. أرى ماركس يبتسم، شيماء تلتفت نحوي، نولان يرفع يده بالتحية، وأودجين واقف في الظل، لا يظهر منه سوى عينين تلمعان كحد السكين. أضحك. ضحكة قصيرة، جافة، مثل حجر يسقط في بئر فارغ. "نعم… اللعبة بدأت."