في موسكو
الثلج يتساقط ببطء، كأن السماء نفسها تحاول أن تدفن المدينة تحت كفن أبيض. الشوارع شبه فارغة، وصوت الريح يخترق الأزقة الضيقة مثل صفيرٍ جنائزي. السيارات القديمة تقف على جانبي الطريق مغطاة بطبقة سميكة من الجليد، والنوافذ الزجاجية للمحال الباردة تعكس وهج مصابيح الشوارع الصفراء، فتجعل المشهد يبدو كلوحة زيتية حزينة.
خطوات تشاي كانت ثقيلة، لكنها غريبة... ليست خطوات رجلٍ عادي يمشي في البرد، بل خطوات كيانٍ يعرف وجهته تمامًا، وكأنه يمشي فوق الأرض لا ليقطع المسافة، بل ليجعل الأرض نفسها تدرك أنه قد مرّ من هنا. معطفه الأسود الطويل يرفرف مع الريح، وصوت حذائه العسكري على الثلج يتردد كنبض قلب متوتر.
توقف أمام منزل قديم، جدرانه متهالكة لكن نوافذه محصنة بالحديد. كان هذا هو وكر بيوم المأجور. لم يتردد تشاي، رفع يده وطرق الباب ثلاث طرقات قوية، طرقات لم تحمل أي نفَس من الاستعجال، لكنها كانت حاسمة، كما لو أن العالم بأسره سيتوقف لو لم يُفتح الباب.
فتح بيوم الباب ببطء، نصف ابتسامة على وجهه، لكن عينيه كانتا متفحّصتين، يدرسان ملامح ضيفه.
بيوم: "أهلاً تشاي، كيف حالك؟"
لم يأتِ الرد. تشاي لم يقل شيئًا. فقط دخل.
شعر بيوم للحظة ببرودة مختلفة، ليست برودة موسكو، بل برودة روحٍ ثقيلة دخلت إلى بيته. أغلق الباب وراءه، خطواته سريعة للحاق بتشاي.
بيوم في نفسه: هذا الوحش… هالته قاتلة… كل جزء فيه يصرخ بالموت.
جلس تشاي على الأريكة، جلسة مستقيمة، لا تكشف عن راحة، بل عن استعداده للانقضاض في أي لحظة. جلس بيوم أمامه، يحاول أن يبدو مرتاحًا لكنه في داخله كان مثل رجل يجلس أمام قنبلة موقوتة.
تشاي: "ما الأخبار؟"
بيوم: "لا شيء. لقد لحقت كل رجال عصابة الثعالب، لكنهم… كلهم لا يعرفون شيئًا، لا عن أماكنهم، ولا عن قادتهم. وكأنهم… ليسوا موجودين أصلاً."
كانت عين تشاي تراقبه ببرود، لم يرمش حتى.
تشاي: "هل استعنت بعصابات السود؟"
((((ككعصابات السود… . مجموعة من الصيادين المحترفين، لا يقاتلون بمهارات عادية بل بمهارات لا تُشترى بالمال… القدرة على إيجاد أي شخص، مهما كان مختبئًا.))))
بيوم: "لا… لقد عملت وحدي. لم أطلب مساعدة أحد… كي لا يكتشفوا وجودي."
ابتسامة ساخرة ظهرت على وجه تشاي، لكنها لم تكن ابتسامة فرح، بل ابتسامة رجل اكتشف مدى غباء الآخر.
تشاي: "علمت أنك أحمق… وغبي. أولاً… لا يهمنا إن اكتشفوا وجودنا. لأننا… سنقتلهم حتى لو اختبأوا في بطن حوت. ثانيًا… أنت لا تملك أي مهارة تمكنك من العثور عليهم. عقلك محدود، بيوم، ولهذا يجب أن نعمل مع أكبر عدد ممكن من العصابات حتى نجدهم."
كلمات تشاي لم تكن صراخًا، لكنها كانت حادة، تقطع الجليد في الهواء.
بيوم: "أنا آسف… سوف أتصل…"
تشاي (مقاطعًا، بابتسامة أكثر سخرية): "شكرًا لك." كانت "شكرًا" هنا إهانة بقدر ما هي كلمة. "لا تتصل بأي أحد. سأكفل بالباقي وحدي."
شعر بيوم بثقل في صدره. جزء منه أراد أن يرد، لكن الجزء الأكبر كان يعرف أنه لو أغضب تشاي أكثر، فربما لن يخرج من هذا البيت حيًا.
بيوم: "حسنًا، كما تريد… لكن سأبقى معك. سأساعدك. أريد أن أواجه أحد أعضاء العصابة. سمعت أن قوتهم… من مستوانا."
ابتسامة باهتة مرّت على وجه تشاي، لكنها لم تلمع في عينيه.
تشاي: "حسنًا… ليست هناك مشكلة."
الصمت الذي تلا الحوار لم يكن مريحًا.
كانت الغرفة شبه مظلمة، مصباح واحد يتدلى من السقف، يلقي بظلال طويلة على الجدران المتقشرة. بيوم كان يحرك أصابعه على فخذه ببطء، كأنه يحتاج أن يشعر بشيء يتحرك في هذا السكون. أما تشاي، فقد بقي ثابتًا، كأن جسده تمثال من حجر أسود، لكن عينيه… كانتا تتحركان في المكان، ببطء، وكأنه يقرأ كل تفصيلة، كل رائحة، كل ذرة غبار.
تشاي فجأة: "موسكو… مدينة تعرف كيف تخفي الثعالب لكن لا مدينة في العالم تستطيع أن تخفيها عني."
كانت الجملة أشبه بتهديد موجه ليس لبيوم، بل للعالم كله.
بيوم: "الجو بارد الليلة…"
تشاي: "البرد… لا يعني شيئًا إن كنت تعرف أن الدم أكثر دفئًا."
سكت بيوم، وابتلع ريقه. شعر بأن هذا الرجل أمامه لا يبحث عن الأعداء فقط… بل يبحث عن أي شيء يمكن أن يطلق غضبه عليه.
من نافذة صغيرة، كان يمكن رؤية الشارع، والثلج الذي صار أكثر كثافة. ضوء سيارة سوداء توقف أمام المنزل. لم ينزل أحد، لكن تشاي التفت نحو النافذة قبل حتى أن يسمع صوت المحرك. عيناه ضاقتا، وكأنه شعر بشيء لا يراه غيره.
تشاي: "يبدو أن الليلة… لن تكون هادئة."
نهض ببطء، خطواته بلا صوت، كما لو أن الأرض نفسها تتفادى أن تصدر ضوضاء وهو يمشي. اقترب من الباب، لكن قبل أن يفتحه، التفت إلى بيوم.
تشاي: "هل تظن أن مستواك يكفي لمواجهة احد أفراد العصابة ؟"
بيوم… لم يعرف ما يجيب. لكنه ابتسم ابتسامة جافة، وأجاب: "سأعرف الجواب… بعد أن أجرب."
هنا، كان يمكن أن يشعر أي شخص في تلك الغرفة أن الهواء صار أثقل. أنفاسهم كانت تخرج كضباب أبيض، لكن ليس بسبب البرد فقط… بل بسبب الضغط الخفي الذي خلقه وجود تشاي.
تشاي: "حسنًا… لنرَ "
فتح الباب…
الهواء البارد اندفع إلى الداخل، ومعه… ظل طويل لشخص يقف خارجًا، ملامحه مخفية، لكنه لم يتحرك خطوة. تشاي لم يتراجع، لم يغلق الباب، فقط وقف هناك، يحدق في القادم وكأنه يقرأ أفكاره.
على بُعد خمسة كيلومترات
كان الليل في موسكو هذه المرة أكثر ثقلاً من المعتاد. ليس لأن الثلج كان ينزل بغزارة، ولا لأن الريح كانت تصرخ بين الأزقة، بل لأن هناك إحساسًا خفيًا، إحساسًا لا تراه العين، لكنه يثقل القلب… إحساس بأنك قريب جدًا من شيء لا ينبغي لك أن تقترب منه.
في الطابق الثالث من نُزلٍ قديم، داخل غرفة ضيقة رائحتها مزيج من الرطوبة ودخان السجائر، كان يجلس مين وجاي شن أمام نافذة صغيرة، يراقبان المبنى اللذي فيه بيوم . عدستهما ليست كاميرا عادية، بل عدسة عالية التكبير، لكنها حتى الآن لم تمنحهما إلا صورة باهتة لرجل طويل المعطف وهو يدخل البيت.( أقصد تشاي)
مين (وهي تضغط على عينيها محاولًة تمييز الملامح): "لقد رأيت ذلك الرجل… الرجل الذي دخل، جاي شن."
جاي شن (وهو يمد رقبته قليلًا): "نعم… لكن ملامحه ليست واضحة. نحن بعيدون جدًا… حتى أحدث الكاميرات لا تستطيع التقاط وجهه بدقة."
سكت الاثنان للحظة، لا يسمعان إلا صوت عقارب ساعة الحائط القديمة، وصوت الريح وهي تضرب زجاج النافذة كأنها تحاول اقتحام الغرفة.
مين: "هذا البعد… جيد. لا نستطيع الاقتراب أكثر. لا نريد أن يكتشف أمرنا."
جاي شن (وهو يحك ذقنه ببطء): "وماذا سنفعل الآن إذا خرج أحدهما؟"
مين: "إذا خرج أحد، أنت تتبعه… وأنا سأبقى أراقب الآخر. أما إذا خرجا معًا… سنتبعهما سوية، أو نتفرق، حسب الوضع."
ارتفع حاجب جاي شن وهو يتنهّد ببطء: "لقد تعبت يا مين… الجلوس هنا لساعات يجعل جسدي يتجمد."
ابتسمت مين ابتسامة صغيرة، لكنها كانت أشبه بابتسامة أب يذكّر ابنه بالثمن.
مين: "أوه، جاي شن… تبقى القليل، ثم نتبادل المراقبة مع باقي الفرقة. لا بأس… تذكّر المكافأة التي سيقدمها لنا أكاي."
ارتجف اسم "أكاي" في الهواء… لم يكن مجرد رئيس أو زعيم عصابة، بل كان أشبه بظل ضخم يطغى على كل من يعمل معه. مكافأته تعني ثروة، لكن غضبه يعني… نهاية.
جاي شن (مستسلمًا): "حسنًا… حسنًا. سأذهب لأجلب شيئًا نأكله."
نهض جاي شن ببطء، مفاصله تصدر أصوات طقطقة من طول الجلوس. مد يده إلى معطفه، لكن قبل أن يلبسه، جاءه صوت مين… صوت حاد، لم يكن فيه أثر للهدوء السابق.
مين (بهمس متوتر): "تعال… بسرعة!"
التفت جاي شن بسرعة: "ماذا هناك؟"
مين (مشيرًة بعدستها): "انظر… الرجل الثاني… الذي دخل قبل قليل. إنه… صعد إلى سطح المنزل… وجلس هناك."
اقترب جاي شن ونظر من العدسة، وعيناه تضيقان شيئًا فشيئًا.
جاي شن: "الثلج يسقط بغزارة… والطقس بارد إلى حد لا يُحتمل… وهو جالس هناك… يالَه من مجنون."
كانت الصورة غريبة حقًا. رجل طويل، يجلس على حافة السطح، بلا أي مظلة أو غطاء رأس. الثلج يتجمع على كتفيه، لكنه لا يتحرك، حتى أن جسده بدا كأنه تمثال جليدي. لم تكن ملامحه واضحة من هذا البعد، لكن الظل الكثيف الذي يحيط به جعل شكله مهيبًا… أو ربما مخيفًا.
مين: "لا ندري ماذا يفعل… أظن أنه يستدعي شيئًا… طقوس؟ أو… لا أدري."
ابتلع جاي شن ريقه، شعور غريب بدأ يتسلل إلى صدره.
جاي شن: "مين… أشعر أن شيئًا ما سيحدث إن بقينا هنا. دعنا نبتعد أكثر… لا أدري… كلما أنظر إليه، أشعر أنه ليس بشريًا."
كانت نبرة جاي شن صادقة، ليست خوفًا من معركة، بل خوفًا من شيء آخر… شيء لا تُفسّره قوانين الطبيعة.
مين (بعد صمت قصير): "هيا إذًا…
لكن الخروج من الغرفة لم يكن بهذه البساطة.
حين نهضا، كانت الريح قد ازدادت قوة، وصوتها يصرخ عبر النوافذ كما لو كانت تحذرهم من الاقتراب. أطفأت مين المصباح الوحيد في الغرفة، تاركًا إياها في ظلام دامس، حتى لا يُكشف موقعهم.
نزلا الدرج الخشبي للنزل ببطء، خطواتهما تصدر صريرًا مع كل درجة، كأن المبنى نفسه يتنفس تحت أقدامهما. في الخارج، كان البرد أكثر حدة، والثلج يلسع الوجوه بلسعات حادة.
لكن مين، قبل أن تخطو نحو السيارة، توقفت فجأة… نظرت نحو المبنى البعيد، حيث كان الرجل لا يزال على السطح. لحظة صمت طويلة، حتى أن جاي شن شعر بالانزعاج.
جاي شن: "ماذا؟"
مين (بصوت منخفض): "لقد… التفت."
جاي شن: "ماذا تقصد؟"
مين: "الرجل… التفت نحو هذا الاتجاه."
هنا بدأ قلب جاي شن ينبض بسرعة.
كيف يمكن لرجل على بعد خمسة كيلومترات، في عاصفة ثلجية، أن يلتفت نحوهم وكأنه يراهم؟ لم يكن الأمر منطقيًا… إلا إذا كان هذا الرجل يملك شيئًا آخر… شيئًا لا علاقة له بالمنطق.
لم ينتظرا أكثر، فتحا باب السيارة، وانطلقا بسرعة، لكن حتى بعد أن ابتعدا مسافة إضافية، كان الشعور الغريب يرافقهما… إحساس بأن هناك عينين تراقبهما، عيون لا تنتمي لإنسان
وفي مكان آخر، على ذلك السطح المغطى بالثلج… كان تشاي جالسًا، كما وصفاه. لكن ما لم يروه هو أن عينيه كانتا مفتوحتين على اتساعهما، لا ترمش، تحدق في الفراغ، وكأنهما تتجاوزان حدود المدينة. الثلج يتراكم على شعره وكتفيه، لكنه لا يتحرك، لا يرتجف، ولا يتنفس بعمق… كأنه في حالة بين الحياة والموت.
همس لنفسه: "اثنان يراقبان… لا يهمني