فوق السطح
كان تشاي جالساً في وضعية اليوغا، عاري الصدر، والثلج يتساقط على كتفيه حتى بدا وكأنه تمثال رخامي نُسي فوق السطح منذ قرون. عينيه نصف مغمضتين، شفتاه متصلبتان، والبرد يحفر في عظامه، لكن لم يكن يشعر بشيء… لا دفء، لا برد، لا فرح، لا حزن.
من منظور تشاي:
الثلج يسقط بصمت، لكنه يلسع جلدي كما لو كان يسكب عليّ ماءً متجمّدًا من السماء. جلست في وضعية اليوغا، ساقاي متشابكتان، ظهري مستقيم، عينيّ نصف مغمضتين. لا قميص، لا دفء، لا اكتراث. المدينة كلها تحت قدميّ، أضواؤها المتفرقة تبدو كنقاط بعيدة على قماش أسود، والبرد يحاول أن يسرق أنفاسي… لكنه لا يعرف أنني لم أعد أتنفس منذ زمن كما يتنفس البشر.
أنا تشاي أوجين. ابن آلين… وابن يوتا. هكذا يقولون. هكذا كتبت الأوراق، وهكذا يكرر الماضي نفسه في رأسي، كصوت يتيم في قاعة فارغة. أوه… لقد عرفت ماضي. لكن… ماذا تغيّر؟ لا شيء.
أبحث داخلي عن شيء جديد… عن شرارة… عن أي إحساس يخبرني أن معرفة ماضي غيّرتني. لكن الصمت في داخلي هو نفسه، لا يختلف عن صمت هذه المدينة في منتصف الشتاء.
يوتا… آلين… لماذا كنت أبحث عنكما؟ ما الذي جعلني أمشي فوق سنوات من الدماء والخيانة فقط لأجد وجهيكما؟
لا يهم.
الفكرة نفسها تذوب مثل الثلج على جلدي الحار قليلًا. حتى الحنين الذي كنت أظنه يدفعني، تبيّن أنه ليس سوى سراب… ظلّ ظلّ ظلّ.
ثم تذكّرت…
أكاي.
الاسم يتسلل إلى رأسي مثل خنجر مغطى بالثلج. كنت قد أقسمت أن أقتله. لكن… لماذا؟
هل لأنه قتل آني؟
آني… آني… الاسم يمرّ في ذهني كطيف، لكن الطيف باهت، باهت إلى درجة أنني لا أستطيع أن أستدعي ملامحها. كنت أظن أنني سأشعر بالغضب، بالأسى، بأي شيء… لكن لا شيء. حتى ذكراها لا تحرك في داخلي إلا الفراغ.
لا… لا يهم.
أكاي… آني… آلين… يوتا…
كل الأسماء تتساقط في داخلي مثل هذا الثلج، تذوب قبل أن تلمس الأرض.
أخفض رأسي قليلًا، وأغلق عينيّ تمامًا. أصوات المدينة تتلاشى. أسمع فقط… صوت الدم في أذنيّ، وصوت قلبي… إن كان ما يزال قلبًا.
أحيانًا أفكر… أنني لم أعد إنسانًا. ليس لأنني أقتل بلا رحمة، بل لأنني لا أشعر. حتى الألم لم يعد ألمًا… بل ذكرى عن الألم.
أتذكّر الليالي التي قضيتها أبحث عن الحقيقة… والآن بعد أن وجدتها، وجدت أنها لا تحمل أي وزن. كأنك تمشي عبر صحراء لسنوات، وعندما تصل إلى الواحة… تجد أن الماء مالح.
الثلج صار أثقل. يكسو كتفي وصدري وركبتي. أصابعي بدأت تتجمد، لكنني أبقيها على وضعيّة التأمل. كل شيء حولي يبرد… إلا رأسي.
الصور تتقافز في ذهني.
وجه أكاي وهو يبتسم ابتسامة لا تصل إلى عينيه.
وجه آني وهي تمسك بيدي قبل أن تفلتها.
وجه آلين… وجه يوتا…
كلها وجوه بلا حرارة، بلا ألوان. كأن عقلي يرسمها بالطباشير الأبيض على جدار أسود.
أفتح عينيّ.
أرى البنايات حولي، وأرى السماء الرمادية، وأشعر… أن هناك عيونًا تراقبني. من بعيد جدًا.
لا يهم البعد. أعرف أين هم. أعرف كيف يختبئون. أعرف أنهم يظنون أنفسهم آمنين.
أضحك… بصوت خافت.
إنهم لا يعرفون أنني أراهم، حتى دون أن أبحث عنهم.
أغلق عينيّ مجددًا.
وأترك البرد يدخل أعمق.
أريد أن أرى كم يمكنني أن أحتمل قبل أن يتوقف جسدي عن العمل.
ربما… لو توقف، سيتوقف معه كل هذا العبء الذي يسمونه "الحياة".
لكن… لا.
ما زال هناك شيء لم ينتهِ.
أكاي…
ليس لأنك قتلت آني.
وليس لأنك وقفت في طريقي.
بل لأنني قررت.
أفتح عينيّ مرة أخرى، هذه المرة ببطء شديد.
أرفع رأسي إلى السماء، وأترك الثلج يسقط مباشرة في عينيّ المفتوحتين.
لا أرمش.
وأبتسم.)))))))
الخيوط خرجت ببطء… كأنها لم تكن خيوطاً، بل شرايين من نور مظلم، تتلألأ بلون لا يمكن وصفه، بين الفضيّ والرماديّ البارد، لكنها تحمل في عمقها حُمرة خافتة، أشبه بالجمر المستتر تحت رماد كثيف.
كانت تتحرك وكأنها حيّة، تتلوى مثل ديدان جائعة، وتلتف على نفسها قبل أن تمتد في الهواء، وتبدأ ببطء في التشكل… تشكل رأس… ثم ملامح… ثم وجه.
ذلك الوجه لم يكن ثابت الملامح… كانت عيناه تتبدلان، مرة تبدو سوداء بالكامل، ومرة يختفي بؤبؤها وتغدو مثل بياض ميت. أنفه يتغير، وفمه أحياناً يظهر بخطّ ضيق، وأحياناً يتسع حتى يبتلع الظلام من حوله. لكن رغم ذلك، كان هناك شيء لا يخطئه القلب… رهبة، ثقل، إحساس بأن هذا الكيان لا يخص هذا العالم.
صوتُه حين انبثق من ذلك الوجه، لم يكن مجرد صوت… كان ارتجاجاً في الهواء، كان كما لو أن الحروف خرجت مباشرة من جمجمة المستمع لا من فمه.
قال بصوتٍ أجشّ، عميقٍ، كأنه يتحدث من بئرٍ بلا قاع:
> "أخيراً… تشاي… اكتملت لعنة عائلتك…"
لم يكن ذلك مجرد إعلان، كان كحكم إعدام نُطق للتو.
تابع:
> "الآن، لقد ضحيت بجسدك مقابل القوة… والحياة الأبدية. هذا ما طلبته عائلتك مني… قبل خمسمئة عام. وها قد وفيت بوعدي، ومنحتُ أحد أحفادها ما طلبوه مني."
تشاي بقي ينظر، بلا رمشة، وكأنه يحاول أن يستوعب معنى تلك الكلمات.
رفع رأسه قليلًا، وفي صوته لمحة من الدهشة:
> "لم أفهم… سمعتُ أن إيفا تحكي عن لعنةٍ ما… لكن…"
الوجه تحرك… لم تكن حركة بشرية، بل حركة قطعة قماش تحركها الريح، ملتوية، بلا عظام. ثم اقترب حتى صار بضع سنتيمترات فقط من وجه تشاي، وعيناه تلمعان بوميض غامض.
> "تشاي… حتى إيفا لا تزال لا تفهم شيئاً. لا تدرك ماهية اللعنة يا تشاي. كل ما تفعله هو اتباع أوامر عقلها الملعون… لكنها لا تعلم أنها هي الوعاء الرئيسي للعنة أودجين… لعنة الإيليون."
حين نطق كلمة "الإيليون"، شعرت السماء فوق السطح وكأنها تقترب، كأن السحاب الثقيل انحنى ليصغي، وكأن الثلج توقف في الهواء لحظة واحدة، قبل أن يتابع سقوطه البطيء.
تشاي أمال رأسه، ولمع في عينيه بريق مختلط بين الفضول واللامبالاة:
> "إذاً… ماذا؟"
ضحك الوجه… لا، لم يكن ضحكاً، بل صوتٌ أقرب إلى احتكاك الحديد بالزجاج، ثم قال:
> "لا بأس… الآن يجب أن أطلعك على ماضي لعنتك… وكيف تجسدت فيك يا تشاي. الآن… سوف تتجسد روحك في جسد أحد الهواة… قبل خمسمئة عام."
لم يترك له فرصة للرد.
فجأة، تحركت الخيوط كلها دفعة واحدة، وكأنها عصافير انطلقت من قفص، لكنها لم تطير بعيداً، بل تحولت إلى عشرات… مئات الوجوه. وجوه رجال، نساء، أطفال، شيوخ، وجوه جميلة وأخرى مشوهة، جميعها تحدق في تشاي بعيون خاوية… لا غضب فيها، ولا رحمة، ولا حياة.
تقدمت نحوه من كل الجهات، وكأنها جدار من الأرواح ينهار عليه.
واحداً تلو الآخر… دخلت تلك الوجوه في جسده. كان الأمر أشبه بمحاولة ملء إناء صغير بمحيط كامل، وكل روح كانت تعبر من جلده تاركة أثرها، مثل نقشٍ يحترق ببطء على صفحة جلده، حتى لم يبق شبر منه إلا وغطته تلك العلامات الداكنة.
الهواء على السطح صار أثقل… وكأن الأوكسجين نفسه يخاف أن يقترب من هذه الطقوس.
ثم… فجأة… انقطع كل شيء.
تلك الخيوط تلاشت، الوجوه اختفت، والوجه الكبير تلاشى مثل دخان يتبدد في مهب ريح شديدة.
وتشاي… سقط.
لم يكن سقوطه عادياً. لم يسقط كإنسان يفقد وعيه، بل كتمثال انهار من الداخل.
حين ارتطم بالأرض، كانت عيناه مفتوحتين… لكن بلا بريق… بلا روح.