كانت الظلمة قد ابتلعت كل ما حوله.

‎لا صوت، لا هواء، ولا حتى إحساس بوزنه أو أطرافه.

‎كأن وجوده صار فكرة بلا جسد، سابحًا في فراغ أزلي.

‎وفجأة…

‎انسكب الضوء عليه كسيول الذهب، حارقًا عينيه الروحية. لم يكن نورًا حقيقيًا، بل ذكريات زمن بعيد تتفتح كزهرة سامة.

‎أول إحساس شعر به كان البرد.

‎برد لم يكن كالشتاء الذي يعرفه في حياته السابقة… بل برد قاسٍ، جاف، يلسع الجلد وكأنه مغموس بالحديد.

‎فتح عينيه ببطء، فوجد نفسه واقفًا وسط طريق ترابي تحفه أشجار الصنوبر اليابانية، تلك التي تعلو كالرماح في السماء الرمادية.

‎(ما هذا؟!)

‎همس في داخله وهو يحاول أن يفهم جسده الجديد.

‎يداه نحيلتان، أصابعه خشنة، أظافره متشققة. ثوبه بالٍ، مصنوع من قماش خشن، مربوط بحزام قماشي بسيط.

‎تنفس بعمق، فدخلت أنفه رائحة الأرض المبتلة بالندى، ممزوجة برائحة دخان الحطب القادم من مكان ما.

‎رفع رأسه، فرأى مشهدًا لم يره في حياته من قبل:

‎قرية صغيرة عند سفح جبل مغطى بالثلوج، بيوتها من الخشب الداكن، أسقفها مائلة ومغطاة بالقش الأصفر. لا طرق مرصوفة، فقط ممرات موحلة وحبال مشدودة بين البيوت لتجفيف الملابس.

‎سمع أصوات دجاج، وأطفال يركضون حفاة، وامرأة تنادي على أحدهم بلهجة قديمة لم يفهم كل كلماتها، لكنها كانت يابانية نقية تعود لقرون مضت.

‎(يا إلهي… لقد أعادني ذاك الوجه إلى الماضي حقًا… اليابان… قبل قرون… هذا عصر…)

‎حاول أن يتذكر دراسته للتاريخ، ثم أدرك فجأة:

‎(نعم… هذا هو عصر الموروماشي… حوالي القرن الخامس عشر…)

‎كان عصر الموروماشي في اليابان زمنًا مضطربًا، حيث انقسمت البلاد بين أمراء الحرب الـ"دايميو"، وحيث القرى تعيش بين الخوف من الغزوات، والاعتماد على زراعة الأرز، وصيد الأسماك، وصناعة الأدوات البسيطة.

‎لكن بالنسبة لتشاي… كان الأمر أكثر غرابة.

‎فكل ما يراه لم يكن مجرد "صورة تاريخية" كما في الكتب… بل حياة كاملة، روائح وأصوات وبرودة في العظام.

‎مشهد السماء كان مختلفًا.

‎غيوم الشتاء ثقيلة، والشمس بالكاد تخترقها، في حين تتطاير طيور الغراب في مجموعات سوداء تنعق على الأشجار.

‎في البعيد، كان هناك صوت طبول، إيقاعها بطيء وثقيل، وكأنها إعلان عن طقوس أو ربما عن جنازة.

‎وقف تشاي مكانه، يحاول أن يفهم سبب وجوده هنا، حين شعر بوزن على ظهره.

‎التفت قليلًا… فوجد نفسه يحمل حقيبة من الخوص مليئة بأدوات خشبية ومعدنية صغيرة: مناشير يدوية، إزميل، مطرقة…

‎(أنا… نجار؟!)

‎مد يده ليتلمس الحقيبة، فأحس بخشونة الحبال التي تربطها، وبروائح الخشب القديم الممزوجة بالصدأ.

‎بدأت ذاكرة الجسد الذي يحتله تتسرب إليه… ومشاهد من حياته تظهر كخيوط دخان:

‎– كوخ صغير على أطراف القرية.

‎– رجل مسن يلقنه صناعة الأدوات.

‎– حرفة النجارة البسيطة، وصناعة صناديق لحفظ الأرز، وأبواب البيوت، وحتى التوابيت.

‎– الوحدة… الكثيرة.

‎(إذًا… أنا أتجسّد في جسد رجل عاش قبل خمسة قرون، وكان مجرد هاوٍ أو نجار صغير… لكن… لماذا اختار ذاك الوجه هذا الجسد بالذات؟)

‎كانت القرية تعجّ بالحركة في ذلك الصباح، رغم البرد.

‎رجال يقطعون الخشب، نساء يسكبن الماء في الجرار، أطفال يلعبون قرب النار المشتعلة وسط الساحة.

‎لكنه لاحظ شيئًا آخر… شيئًا غريبًا.

‎بين الوجوه الطبيعية، كان هناك وجوه تنظر إليه بثبات.

‎رجال بملامح شاحبة وعيون داكنة، كأن السواد ابتلع بياضها.

‎وجوه لا يعرفها… لكنها كانت مألوفة بطريقة مزعجة، وكأنها الوجوه التي خرجت من يديه في اللحظة التي سبقت تجسده هنا.

‎أحد هؤلاء الرجال، كان يقف بجانب بوابة القرية، مرتديًا كيمونو أسود، وعلى كتفه نقش غريب يشبه دوامة تتوسطها عين.

‎حين التقت أعينهما، شعر تشاي ببرودة غير طبيعية تتسلل إلى صدره.

‎((من منظور تشاي ))))

‎حين فتحت عيناي، شعرت وكأنني قد غُمرت داخل لوحةٍ قديمة، ألوانها قاتمة، وخطوطها مرسومة بريشة فنان عاش قبل قرون. الهواء بارد، رطب، وكأن الضباب نفسه قد تسلّل إلى رئتيّ. رائحة الخشب المحترق تختلط برائحة المطر العالق في التراب، وصوت بعيد لجرس معدني يهتز مع الريح يتردّد في الأفق.

‎كانت الأرض تحت قدميّ طينية، وقد خضعت لخطوات كثيرة قبلي؛ آثار أقدام بشرٍ حفاة، وأخرى لأحذية خشبية «غيتا» غاصت حوافها في الوحل. نظرت حولي، فرأيت البيوت الخشبية اليابانية القديمة، جدرانها مصنوعة من الخيزران المغطّى بالورق، وأسقفها من القش، تميل قليلًا تحت ثقل المطر الأخير. على أطراف الطريق، مصابيح ورقية معلّقة، يتراقص ضوءها الخافت وسط الهواء الملبّد بالرطوبة.

‎كان الزمن هنا… بطيئًا، لكنه حادّ. كل حركة، كل نفس، له وزنه. . وعلى الطريق الضيقة، تمرّ عربات خشبية يجرها رجال أقوياء الأجساد، يرتدون سراويل فضفاضة مربوطة عند الركبة، وصدورهم عارية إلا من لفافة قماش تشدّ الكتف.

‎مرت بجانبي امرأة في الكيمونو، الكيمونو كان بسيطًا، من قماش أزرق باهت، مشدود بحزام «أوبي» عريض بلون كستنائي. شعرها مرفوع إلى أعلى على شكل كعكة، وتزينه مشبكات خشبية صغيرة. كانت تحمل سلّة من الخيزران، ورائحة السمك الطازج تفوح منها. لم تنظر إلي، بل كانت عيناها مركزتين على الطريق أمامها، كأنها تحفظ خطواتها بدقة.

‎ثم انفتحت أمامي الساحة الصغيرة، قلب القرية، حيث يتجمع الناس حول بئر حجري. رجال يحملون دلاء خشبية، وأطفال يركضون حفاة، يتراشقون بالماء وهم يضحكون. وعلى حافة الساحة، يجلس شيخ مسنّ، جلده مجعّد كالأرض اليابسة، يدخّن غليونه الطويل، وعيناه نصف مغمضتين وكأنه يراقب الحياة تمضي ببطء.

‎لكن كان هناك شيء آخر… موسيقى. ليست موسيقى كاملة، بل نغمات منفردة قادمة من آلة «الشاميسن»، تعزفها فتاة شابة تجلس أمام أحد المتاجر، أصابعها تتحرك بخفة على الأوتار، وصوتها ينساب مع اللحن في أغنية قديمة تحكي عن البحر، عن صياد عاد ولم يجد بيته في مكانه.

‎تسللت عيني إلى السماء. الغيوم كانت ثقيلة، متقطعة، تسمح للشمس بأن تخترقها على شكل أشعة ذهبية تسقط على أسطح القش. في هذا المزيج من الضوء والظل، كان كل شيء يبدو كأنه لحظة من حلمٍ لا يريد الاستيقاظ منه.

‎لم تكن اليابان قبل خمسمائة عام مكانًا هادئًا تمامًا. في أطراف القرية، كان الجنود الساموراي يتجوّلون على الخيول، دروعهم المصنوعة من صفائح معدنية وخيوط حريرية تعكس ألوانًا داكنة، وسيوفهم «كاتانا» تتأرجح على خواصرهم. ملامحهم جادة، وعيونهم ثابتة، كأنهم وُلدوا ليحملوا عبء الحرب في كل خطوة.

‎لم أكن أعرف إن كان هذا يومًا عاديًا أم يوما يسبق العاصفة. لكن إحساسي كان واضحًا: هنا، كل كلمة، كل نظرة، كل همسة ريح، تحمل في طياتها معنى أعمق مما يبدو.

‎وقفت هناك، أراقب حركة الحياة، أسمع صوت المطر الذي بدأ يتساقط مجددًا، رذاذه يختلط مع أصوات السوق الصغيرة التي بدأت تزدحم… وأدركت أن هذا العالم، رغم بساطته الظاهرية، يخفي وراءه شيئًا أكبر بكثير)))))).

‎لكن قبل أن يتمكن من التفكير أكثر، جاءه صوت فتاة صغيرة:

‎– "أوي! تاكِه-سان! أوكاسان تريدك في البيت!"

‎استدار نحوها، وابتسم رغم ارتباكه. كانت طفلة بعمر الثامنة تقريبًا، بشعر أسود مربوط، ترتدي كيمونو زهريًا بسيطًا.

‎وبطريقة ما، عرف أن هذا الجسد يُدعى تاكِه، وأن الطفلة هي أخته الصغرى.

‎سار معها عبر الممرات الضيقة، وكل خطوة كان يسمع معها صوت الحطب يتكسر تحت الأقدام.

‎بينما هو يمشي، بدأ يلاحظ أشياء لم يكن يراها في حياته السابقة:

‎– كيف يشتعل الدخان من مواقد الحطب ويرتفع ببطء إلى السماء الرمادية.

‎– كيف تُسمع أصوات النحت على الخشب من كوخ إلى آخر.

‎– كيف أن رائحة السمك المجفف تملأ الأزقة.

‎لكن كان هناك أيضًا شيء آخر… شعور بالترقّب.

‎كأن القرية بأكملها تنتظر حدثًا قريبًا، شيئًا لا يريد أحد أن يتحدث عنه علنًا.

‎دخل الكوخ أخيرًا، حيث كانت امرأة في أواخر الثلاثينيات تجلس قرب النار، تعد حساء الميسو.

‎رفعت رأسها نحوه وقالت بابتسامة متعبة:

‎– "عدتَ أخيرًا، تاكِه. البرد هذا العام أقسى من العام الماضي."

‎جلس قرب النار، وشعر بحرارتها تنعش يديه المتجمدتين.

‎لكن في أعماقه… كان يعرف أن ما جاء لأجله ليس النجارة، ولا حياة هذا الجسد البسيطة…

‎كان هناك سر مدفون منذ خمسمئة عام، واللعنة التي يحملها لم تكن سوى مفتاح لفتحه.

‎ومع كل نفس يأخذه… كان يشعر أن هذا العالم القديم يخفي أكثر بكثير مما يراه.

‎سأل تشاي بصوت هادئ:

‎— … من هو قائد هذا المكان؟

‎رفعت المرأة رأسها نحوه، وكأنها تتفحص ملامحه بدقة، ثم ضحكت ضحكة قصيرة، لا تخلو من السخرية. قالت وهي تميل رأسها قليلًا:

‎— ما بك؟ أأصابتك الحمى أم فقدت ذاكرتك؟ كيف تسأل عن قائدنا… وهو تابع لطائفة أودجين؟

‎تجمد تشاي في مكانه لوهلة، وكأن الاسم أيقظ في أعماقه جرسًا خافتًا لا يعرف مصدره. لم يرد، فتابعت المرأة كلامها وهي تُحكم رباط السلة على ظهرها:

‎— منذ ثلاثين عامًا، وهذا المكان يعيش في ظل رايتهم السوداء، نحن نحيا ونموت بأمرهم. قائدنا الحالي… رجل شديد البأس، قليل الكلام، لكنه لا يرحم من يخالف أوامر الطائفة.

‎ثم أشارت برأسها نحو التلّ البعيد، حيث يطلّ معبد ضخم من الخشب الأسود، تتدلى من شرفته أعلام داكنة، وقد نُقشت عليها رموز لا يعرف إن كان رآها من قبل أم أنّ ذاكرته تختلق له الأوهام.

‎— هناك… حيث يسكن القائد، وهناك تُصاغ القرارات التي تغيّر مصائرنا.

‎كان صوتها يحمل مزيجًا من الخوف والاستسلام، وكأنها لا تجرؤ على ذكر اسمه صراحة.

‎تشاي شعر ببرودة تتسرب إلى أطرافه، ليس بسبب الطقس، بل من وقع ذلك الاسم… "أودجين". لم يعلّق، بل اكتفى بالانحناء مجددًا، ثم تابع السير نحو ذلك التل، بينما كانت خطواته على الطريق المبتلة تصدر صدى كأنه يرافقه شخص آخر غير مرئي.

2025/08/15 · 6 مشاهدة · 1429 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025